مقدمة
يعالج هذا الفصل مسألة الاعتراف في المجال العام، في فلسفة كل من مشيل فوكو وطه عبد الرحمن، وصلته بمفاهيم ثلاثة هي: التسيد والذات والنماذج المعرفية، والنتائج الأخلاقية المترتبة على الاعتراف على المستويين الفردي والمجتمعي.
يطلق الاعتراف ويراد به عدد من المعاني اللغوية والاصطلاحية (بغوره 2012، 22–32)، ولكن الباحث يستعمل الاعتراف هنا بمعنى الإقرار (confession)، أي إقرار الذات الإنسانية بحقيقة أفعالها الخاصة. وهو بهذا المعنى يقترب من مفهوم التوبة بمعناها الواسع؛ لأن التوبة تتطلب إقراراً بحقيقة الذنب، وإن كان هذا الإقرار يتخذ صورًا متعددة بعضها يقع في المجال الخاص وبعضها في المجال العام. وتختلف نتائج الاعتراف بحسب مجاله وحدوده، فالاعتراف في المجال الخاص (أي القاصر على الذات والجانب الجواني) ربما لا يترتب عليه إلا نتيجة أخلاقية خاصة بالذات الإنسانية وحدها، أما الاعتراف في المجال العام (أي الجانب البراني سواءٌ كان مجتمعاً أو قانوناً أو سلطة) فيترتب عليه مجموعةٌ من النتائج السياسية والاجتماعية والسياسية-الجنسية بالإضافة إلى النتائج الأخلاقية المتعلقة بالذات الفردية.
تناوَل فوكو مفهوم الاعتراف وتاريخه وسياساته بشكل واسع في ثلاثيته ”الجنسانية“ وفي كتاباته ومحاضراته الأخرى، وهي كتابات تتصل بسياق فلسفي غربي واسع سنشير إلى طرف منه؛ بغية البناء عليه لتقديم نقد ائتماني لفلسفة فوكو واستمداداتها، مستعينين—بشكل رئيس—بفلسفة طه عبد الرحمن وخاصة كتابه ”روح الدين“ الذي يُعتبر تأسيسيًّا وألصق بموضوع هذا الفصل، وإن كان النقاش سيمتد إلى بعض نصوص القرآن والحديث والتصوف ذات الصلة. والمراد بالنقد الائتماني الفلسفة التي قدمها طه والتي تتأسس على مسلمة تعدية الوجود الإنساني والإنسان العمودي المخلوق ليكون في عالمين: عالم الغيب والشهادة، والمتصل بعالم الخالِق الآمِر الواسع من خلال الميثاق الذي اؤتمن عليه والأمانة التي حملها والمتجلية بالاعتراف بالدينونة لهذا الخالق.
لم يناقش طه—بشكل مباشر—مسألة الاعتراف في المجال العام1، ولكن الفلسفة التي يقدمها تتصل بالاعتراف ومآلاته ونوازعه النفسانية؛ كونها تتصل بفكرة التسيد الإنساني والسلوك الإحساني وتؤثر في مطلب صلاح الفرد والمجتمع. وربما يكون العمل الأكثر صلة بموضوع هذا الفصل هو الدراسة التي أجراها الزواوي بغوره في كتابه ”الاعتراف: من أجل مفهوم جديد للعدل: دراسة في الفلسفة الاجتماعية“، الذي ناقش فيه مسألة الاعتراف (recognition) بالهويات الأخرى وحقها في اختيار مختلف عن خيار الأغلبية أو السلطة المهيمنة، وحاول فيه تأسيس مفهوم جديد للعدل نطاقُه الفلسفة الاجتماعية (بغوره 2012، 14). ولكننا هنا نميز بين اعترافين: اعتراف يتصل بالفلسفة الأخلاقية ويقوم على اعتراف الذات بأفعالها الخاصة ويتصل بإنصاف النفس وعدم ظلمها، ونتائجه إما أن تكون أخلاقية إن كان فضاؤه لا يتعدى الذات الإنسانية أو أخلاقية وسياسية واجتماعية إن كان مداره المجال العام. واعترافٌ يتصل بالفلسفة الاجتماعية ويقوم على العدل المجتمعي (بغوره 2012، 206) وعدم ظلم الآخر. وفي حين ركز بغوره على الثاني سنركز في هذا الفصل على الأول.
تتمثل أهمية البحث ومشروعيته في الجانب الأخلاقي الذي تمثله نظرياً كل من فلسفة فوكو وطه وتحديداتهما لحقيقة القمع ومصدره ومستوياته، وما يترتب على معارضة القمع من تسيدات جديدة ترسخ فساد الذات الإنسانية أو تقوي صلاحها. والبحث وثيق الصلة بواقع جديد تعيشه الذات الإنسانية يفرض عليها أينما اتجهت الاعتراف نتيجة الرقابة والتقصي وفضح اللامرئي، حيث أصبح العالم في شقه الغربي مجتمعاً معترفاً نقل مجالاً لا مرئياً—يُفترض أن يكون خاصاً وفقاً للسائد—إلى العام والمرئي.
يعالج البحث موضوعه عبر مقاربة تحليلية مقارنة لنصوص طه وفوكو وسياق كل منهما وتلقياتهما الغربية والعربية. يبدأ البحث أولاً بمناقشة تلقي كل من الفلسفتين ومدارهما وسياقهما، ومن ثم يقوم بتحليل مقارن لعدد من المفاهيم المتصلة بالموضوع وهي: السلطة (القمع/التسيد)، والذات الإنسانية، والنماذج المعرفية (الابستيمات) وتحقيبها. وفي هذا التحليل يتوسل البحث شرح الأسس والاستمدادات المعرفية لكل من الفلسفتين، ومن ثم يبني عليها في تحديد جوهر التسيد والذات في كل من الفلسفتين بغية تقديم نقد دقيق لمفهوم التسيد والذات عند فوكو. هذا النقد سيؤدي بدوره إلى التوصل لغرض البحث المتعلق بالاعتراف في المجال العام وسياساته ومآلاته الأخلاقية واتصاله بمفهوم التسيد والذات والنماذج المعرفية في كل من الفلسفتين، وما يترتب على ذلك من نتائج أخلاقية فردية ومجتمعية.
1 فوكو وطه: التلقي المفتوح
تتسم مقاربتا فوكو وطه بثلاث خصائص مهمة هي الشمول والسعة وتعدد التلقي. فشمولها من جهة أن كلاً من المقاربتين يقدم نظرية تسعى لحفر معرفي دقيق يشمل جميع مساحات الذات الإنسانية في مظاهرها الظاهرة والباطنة، الخاصة والعام، البرانية والجوانية. فنصوصهما تسعى إلى تقديم تصور وتحليل شامل وعميق وحفر فلسفي بغية تشكيل فهم ذي ثلاثة مناح: للذات الإنسانية بوصفها ذاتًا عارفة وموضوعًا للمعرفة، وللأخلاق وتاريخها ونظم تشكلها وبناها المعرفية، وللسلطة المتسيدة الظاهرة والباطنة، والعلوية والسفلية، والقانونية والمجتمعية.
وسعتها من جهة أنها لا تغطي تاريخاً راهناً، وإنما تفتح نافذة على التاريخ الإنساني وفهمه ضمن نماذج معرفية مرَّ بها التاريخ الإنساني عموماً والتاريخ الديني خصوصاً. وفي سعيها هذا قدمت طيفاً واسعاً ومتعدداً من المصادر المعرفية، شملت—في كتابات طه—الفلسفةَ العربية والغربية، وشملت—في كتابات فوكو—الفلسفةَ اليونانية والمسيحية والحداثة الغربية، وإن اختلفت تفاصيل كلٍ من المقاربتين. فكتابات فوكو تميزت باستخدامها لعلم النسب (genealogy) وحفريات المعرفة (archeology) (سبيلا 45، 62؛ العيادي 1994، 20، 114–117). وفوكو أيضاً مؤرخ ولكنه ليس من طبيعة المؤرخين المعروفين، وكتاباته تدخل في حقل الدراسات التاريخية ولكنها لا تنضوي تحت ما يعرف أيضاً بالكتابات التاريخية (العيادي 1994، 116). أما كتابات طه فلم تُعْنَ كثيراً بحفريات المعرفة وتاريخ الأفكار، ولكنها قامت بتشريح الذات/النفس الإنسانية وطبقاتها المعقدة، وتوسيع دائرة الوجود الإنساني إلى دائرة اللامرئي وجعل الروح ركنًا أساسيًّا لفهم تعقيدات النفس. وطه يمكن اعتباره ”المفكر المسلم الوحيد المعاصر بعد محمد إقبال الذي سلك مسلك تجديد الدين من الباب الفلسفي،“ وقدّم حداثة إسلامية قائمة على الأخلاق (ولد أباه 2010، 71–72).
أما بخصوص التلقي، فقد تعددت تلقيات كل مقاربة؛ نظرًا إلى توقعات القارئ وقبلياته المعرفية وزاوية النظر التي يُقبل بها على هذه النصوص. وربما تكون النصوص الشاهدة على هذا بالنسبة لفوكو أكثر مما هي بالنسبة طه؛ وربما يعود ذلك للتقدم الزمني النسبي لكتابات فوكو؛ فقد نشر الجزأين الأخيرين من تاريخ الجنسانية (”استعمال المتع“، و”الانشغال بالذات“) في بداية الثمانينيات. وقد وُصِف فوكو بأنه أصغر فلاسفة الجيل عندما كان عمره 38 سنة (المسناوي وآخرون 2006، 7).
يمكن القول: إن فوكو ذهب إلى ما هو أبعد من تقديم تحليل للذات الإنسانية والبنية الأخلاقية؛ إذ قدم—في كتاباته بشكل عام والحوارات التي أجراها—نقداً لمعظم من تلقوه (إوالد 2004، 34). فلا هو فيلسوف تقليدي، ولا هو مؤرخ تقليدي، كما أن مفهومه للسلطة والقمع والمعرفة لا يتفق مع تلك التصورات السائدة قبله، ولا مع التلقيات السطحية التي قرأته (فوكو 2004ب، 10؛ المسناوي وآخرون 2006، 132–136؛ العيادي 1994، 114–117، 124–125؛ سبيلا، 48).
ربما يصدق الوصف السابق أيضاً على كتابات طه؛ فقد تميزت بوضوحها وتقسيماتها وتأكيداتها المتكررة. صحيحٌ أنها لا تنتقد المتلقين بشكل مباشر ولكنها تنتقد ضمنيًّا التوظيفات السطحية لها، فيمكن لتلقيات عدة أن تعتمد فلسفة طه وتكون محل نقد بناء على فلسفة طه نفسها. وباستعراض كتابات طه عامةً2 و”روح الدين“ خاصةً نجد أن النقد شمل طيفاً واسعاً من المذاهب الفكرية والعقدية والسياسية الغربية والعربية.
وعلى سبيل الإجمال، إن مقاربتي فوكو وطه لم تقدما بعداً أحادياً للمعرفة، بل قدمتا تحليلاً معقداً وواسعاً وشاملاً، ومن يطالع نصوصهما ولم ينتهِ بعد من تكوين نظرة كلية وعميقة عن مآلات فلسفتهما قد تَصدق عليه العبارة الشهيرة: كل ما خطر في بالك ففوكو وطه بخلاف ذلك!
2 السياق التاريخي العام وموضوع القمع/التسيد
تنتمي كتابات فوكو إلى ما يُعرف بالفلسفة القاريَّة التي تعود أولى موضوعاتها التي ناقشتها إلى موضوع ”القمع“ أو ”عدم الحرية“؛ سواء كان القمع فردياً أم مجتمعياً. والقمع معناه هنا: التزام بقيم وأفكار محددة حول ما نفكر وما نتصرف بغض النظر عما إذا كان هذا الالتزام بوعي أو لا وعي (Kul-Want and Piero 2013, 20). تناولت كتابات الفلسفة القارية جميعها موضوع القمع بالدرس والتحليل. وبغية تفكيك القمع تولدت مجموعة من المفاهيم الفلسفية الحديثة التي أريد منها إحداث قطيعة حاسمة مع مصدر القمع والتسلط بكل مظاهره، سواء تجلى عبر اللغة أو الماضي أو اللامرئي (الميتافيزيقي) أو الأيديولوجيا أو السلطة العليا أو القانون. ولَّد التفكير في موضوع القمع سؤالاً فلسفياً آخر هو ”كيف نؤكد إمكان التحرر من القمع دون اللجوء إلى الأفكار المسبقة التي تملي علينا الشكل الواجب لتجربة التحرر؛ نظرًا إلى أن هذا الإملاء يفضي إلى قمع آخر“ (Kul-Want and Piero 2013, 12–13). القطيعة مع الأفكار المسبقة دفعت هؤلاء الفلاسفة إلى تحديد دائرة ما هو فلسفي.
أول خطوة في هذا التحديد جاءت من الفيلسوف البروسي إيمانويل كانط (ت. 1804م) الذي أعلن صراحة أن الفلسفة لا شأن لها بمسألة وجود الرب؛ فقد اعتبر أنها ليست موضوعًا للمعرفة. وبهذا ألغى كانط الاهتمام التقليدي الفلسفي بالميتافزيقا والوجود الأعلى الذي كان واحداً من الضمانات الأساسية لحقيقة وجود الذات أو النفس، ولكنه في الوقت نفسه اعترف بوجود علوي يتجلى بشكل غير معلوم، وأَطلَق عليه مصطلح (noumenon) ويعني الحضور الإلهي (Kul-Want and Piero 2013, 32–33). لفهم فكرة كانط لا بد من تفسير مصطلحات ثلاثة تحدث عنها كانط وهي التركيب، والآخر، والجماليات غير المرئية. فالتركيب يعني أن المواجهة مع الجديد تقتضي استبدالاً كاملاً لما هو موجود من قبلُ؛ سواءٌ كان هذا الموجود وعيًا ذاتيًّا أو هوية أو اعتقادات. وقد قاد التركيب كانط إلى توليد مصطلح الآخر (alterity) الذي يعني الشيء الذي لا سبيل لمعرفته أو تمثله. وهذا الشيء أطلق عليه كانط—المصطلح الثالث—(sublime) أي الجماليات غير المرئية أو ما وراء القياس والحساب (Kul-Want and Piero 2013, 34–38). هكذا حدد كانط دائرة الفلسفة في حدود المرئي.
هذه التأويلية الكانطية لم تَرُق لفريدريك نيتشه (ت. 1900 م) الذي اعتبر كانط مسيحياً ماكراً كثعلب فقد طريقه وضل عائداً إلى قفصه (Kul-Want and Piero 2013, 40). كان لا بد للقطع مع مسألة الرب إعلان موته وإنهاء الميتافيزيقا التي عنت بالنسبة له بنية ثنائية من المعتقدات أو الافتراضات المنظمة في صيغة ترتيب هرمي، وهي ليست أمراً دينياً (Kul-Want and Piero 2013, 33–40). ووفقًا لتصور نيتشه، فإن الواقع الأرضي لا يمكن أن يُرى في الميتافيزيقا إلا على أنه مظهر فقير من الحقيقة. وهذا يعني أن الأنظمة الدينية ظالمة؛ لأنها لا تثمن الوجود كما هو، في حين أن الوجود الكلي يخدم أهدافها، فهي تحن إلى الماضي حيث كانت الجنة أو إلى المستقبل حيث من المفترض أن تنال الجنة. كما أن الأحكام الأخلاقية لهذه الأنظمة تضع أتباعها كرهينة لرجاء الخلاص أو الطهارة عبر نفي الحياة الحاضرة، سواء تجلت هذه الأحكام عبر الوصايا العشر لموسى أو من خلال ”أحب جارك“ لعيسى. (Kul-Want and Piero 2013, 40–52). أراد نيتشته مقاومة النسبية والعدمية التي يمثلها الاعتراف بوجود العالم العلوي المجهول والحقيقة المتسامية التي أقر بها كانط، ولذلك قرر إعدام الميتافيزيقا، سواء الميتافيزيقا الدينية بأشكالها المختلفة المسيحي الخاص واليهودي العام وغيرها من الأنظمة الدينية أم الميتافيزيقا الايديولوجية بشكلها الأعلى المتجلي عبر أنظمة اللغة والخطابات السائدة. ومن أجل مقاومة هذه العدمية رأى نيتشه أنه لا بد من الاعتراف بالعالم المعلوم فقط (phenomenal world)، وهو غير ممكن إلا بالترحيب بمساهمة العلم (science) في الفلسفة كترياق محتمل للميتافيزيقا (Kul-Want and Piero 2013, 42–51).
بعد مقولة نيتشه حول ”موت الرب أو الإله“ جاء إعلان فوكو ”موت الإنسان“ (العيادي 1994، 125؛ المسناوي وآخرون 2006، 30). ويعني أن الإله الأعلى مات والإنسان الأدنى القبلي مات، وحل محلهما الإنسان الأعلى، وهو إنسان جديد لا علاقة له بذلك الإله العلوي ولا بالإنسان القبلي، وإنما هو الإله متجسداً في الإنسانية. بعبارة أخرى، تم تأليه الإنسان أو حصل نزول جديد للإله على الأرض (المسناوي وآخرون 2006، 30). أدى هذا الإعلان عن ولادة الإنسان الجديد والاعتراف بالعالم الحاضر المرئي فقط إلى نشوء ما يعرف بالعلوم الإنسانية التي شهدت أول ولادة لها في القرن التاسع عشر، حيث صار الإنسان موضوعاً للمعرفة. ولكن بقيت العلوم الإنسانية محط تساؤل بالنسبة لفوكو، ففي دراساته التي أجراها حول تحليل ظواهر الجنون يَظهر أن مساحات اللامكشوف في الإنسان كظاهرة اللاوعي تشير إلى أنه كلما تعمقنا في الإنسان تبخر الإنسان واختفى (المسناوي وآخرون 2006، 28–29).
يمكن القول: إن كتابات فوكو تنتمي إلى هذا السياق الفلسفي للفلسفة القارية، حيث شغل موضوع القمع اهتمام فوكو (فوكو 2004أ، 10–12) وهو ما تجلى في مجمل كتاباته بدءاً من ”تاريخ الجنون“ وانتهاءً بكتاب الجنسانية. ولا يمكن فهم مشروع فوكو دون فهم بنية الإطار المفهومي والسياق الفلسفي العام الذي خرج منه، وإن كان فوكو قد قطع معه فإن هذه القطيعة لم تغير من طبيعة الاهتمام بموضوع القمع الذي اشترك في تحليله الفلاسفة القاريون، كما انشغلوا بمتعلقاته التي لا تزال تشغل العقل الغربي مثل مفاهيم النفس أو الذات (subject)، والطبيعة الإنسانية، والوعي، واللاوعي، والنظام الرمزي، والآخر، والعالم العلوي.
في المقابل، يمكن مقاربة النقد الائتماني الذي يقدمه طه على أنه بنية مفهومية خرجت من رحم التراث الإسلامي الواسع عبر حفر معرفي عميق في النص القرآني خاصة والنصوص الإسلامية عامة. فالائتمانية وما اتصل بها من مفاهيم مؤيدة أو ضدية، كالآمرية والحاكمية والتزكية والتشهيد والتغييب وغيرها، استُنبطت من النص القرآني عبر قراءة عرفانية خالصة. والقراءة العرفانية هنا مرتبة استدلالية اتكأ عليها عبد الرحمن بشكل خاص في تقديم رؤيته في ”روح الدين“ وفي كتاباته الأخرى (عبد الرحمن 2012، 219)، وإن كان قد بلورها مبكرًا في كتابه ”تجديد المنهج في تقويم التراث“ في سياق نقده لكتابات محمد عابد الجابري.
أراد طه أن يقدم نقداً واسعاً وشاملاً لكل ما يتعلق بفصل عالمنا السفلي عن الحقيقة المتسامية العالية، ولذلك نقد المقاربات الديانية وغير الديانية (عبد الرحمن 2012، 319). وكان الموضوع الأول الذي انطلق منه في فلسفته الائتمانية هو التسيد (القمع) (عبد الرحمن 2012، 19–20، 25، 30، 91، 100–101، 319) والذات الإنسانية. وهما الموضوعان اللذان شغلا الفلسفة الغربية. ولكن ما يميز مقاربة طه عن المقاربة الغربية عموماً أنه انطلق من الذات الإنسانية نفسها وليس القمع (عبد الرحمن 2012، 25، 49، 53، 477، 489)، ما يعني أنه جواني في نقده؛ خلافاً للفلسفة الغربية عموماً باستثناء فوكو كما سيأتي. فنقد القمع اتخذ في الفلسفة الغربية صيغة برانية، فهي في نقدها للقمع تركز على الخارج المتسيد على الإنسان بوعي أو من دون وعي، سواء كان هذا الخارج قيماً أم أفكاراً أم أيديولوجيا أم حقيقة متعالية أم نظاماً لغوياً. أما نقد الذات الإنسانية في الائتمانية فهو مسألة وجودية تتصل بالإنسان نفسه الذي يجب ألا يفهم إلا على أنه منتمٍ إلى عالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة، وأنَّ قصْر وجوده على أحد العالمين هو جوهر الإشكال المركزي الذي يؤدي إلى القمع، سواء عند الديانيين أم عند غيرهم (عبد الرحمن 2012، 49). وهذا يعني أن الفلسفتين الغربية والائتمانية على طرفي نقيض في تحليل القمع. فالقمع المراد القطيعة معه في الفلسفة الغربية هو القمع الائتماني وما يتعلق به من أيديولوجيات تفترض تعدية هذا الإنسان إلى غير جماليات عالمه الحاضر، والقمع المراد في الائتمانية هو قمع الفلسفة الغربية وما يتصل بها من قصْر الوجود الإنساني على هذا العالم. بعبارة أخرى، ووفقاً للنقد الائتماني، فإن الأفقي هنا في صراع مع العمودي (عبد الرحمن 2012، 14، 17، 31، 49). والأفقي ما يقصر الوجود الإنساني على عالمه الحاضر، والعمودي ما يجعل الوجود الإنساني متصلاً بالحقيقة المتعالية.
3 فوكو ومسألة السلطة والقمع
لم يَحِد فوكو عن الهمِّ الفلسفي الكبير الذي شغل الفلسفة الغربية المعاصرة، فقد تمحورت كتاباته حول ثلاثية السلطة والمعرفة والأخلاق. وكانت مسألة القمع والسلطة الأساس الذي بنى عليه فلسفته (فوكو، استعمال المتع 5–6)، ولكنه تجاوز النظرية السائدة غربياً حول وصل القمع والسلطة بالقانون والدولة والأيديولوجيا (العيادي 1994، 44؛ عبد الرحمن 2012، 109، 214، 240–241). هذا المفهوم الجديد للسلطة أشار إليه دولوز بقوله: ”إن فوكو برجوعه إلى كتابة نظرية سنة 1975—المقصود هنا كتاب ”إرادة المعرفة“—ظهر لنا وكأنه الأول الذي ابتدع هذا التصور الجديد للسلطة، تصورٌ كنا نبحث عنه دون أن نعرف كيف نعثر عليه ونصوغه“ (العيادي 1994، 127؛ سبيلا د.ت، 60).
كان فوكو—على وعي—بجدة تحليله وما قد ينتج عنه من التباسات لدى القارئ (فوكو 2004أ، 68، 68؛ العيادي 1994، 63، 72)؛ ففي رده على سؤال يتعلق بتصور الناس عن رؤيته لمسألة السلطة والمعرفة قال: ”إن الجمهور يتصور فوكو على أنه المفكر الذي قال: إن المعرفة تمتزج بالسلطة، وإن المعرفة لم تكن سوى قناع يغطي بنى السلطة … هذا التصور عموماً صحيح لكنه سطحيٌّ“ (إوالد 2004، 34)، فهو صحيح لأن المعرفة تمتزج بالسلطة عند فوكو، ولكنه سطحي لأن المقصود بالسلطة ليس علاقة ثنائية بين حاكم ومحكوم ومسيطر ومسيطَر عليه، وليست هي أيضاً القانون والدولة والطبقة، وليست بنية وليست قوة معينة؛ ولكن السلطة عموماً—سياسية أو غير سياسية—لا تقوم إلا في جماعة. وهذا يعني أنها ظاهرة اجتماعية تأتي من أسفل، ولتصورها ينبغي أن نفترض أنها علاقات القوة المتعددة التي تتكون وتعمل في أجهزة الإنتاج والأسر والجماعات الضيقة، أي أن المجتمع كله يمارس دور السلطة بشكل منظم ومكثف (فوكو 2004أ، 74، 76–77؛ العيادي 1994، 44، 51، 54؛ سبيلا، 63). وهذا يعني أن قصر السلطة على مفهوم القمع، بالنسبة لفوكو، هو تصور سلبي كلياً وضيق وهيكلي. يوضح فوكو أن التصور السائد عن السلطة هو أنها مطابقة لقانون يقول: لا، ويقول: إذا لم تكن السلطة دوماً سوى سلطة قمعية وإذا لم تكن تفعل شيئاً آخر غير أن تقول: لا، فهل تعتقد حتماً أن الناس سيطيعونها؟ (سبيلا د.ت، 63). إن نجاح السلطة يتناسب مع ما تتمكن من إخفائه من آلياتها، والطرائق الجديدة للسلطة لا تتمثل في القانون بل في التطبيع، ولا تتمثل في العقاب بل في المراقبة (فوكو 2004أ، 71، 74).
هذا التحليل الجديد للسلطة سمح بتحول مفهومها من مجتمع العقاب إلى مجتمع المراقبة الذي يستعمل أدوات الإقصاء والإسكات والإعدام (فوكو 2004أ، 6؛ العيادي 1994، 22)، وهذا يعني بالنسبة لفوكو أن هناك تحولاً معرفياً يصل إلى حد القطع الإبستمولوجي (العيادي 1994، 82). في هذا التحول المعرفي يوسّع فوكو من دائرة القمع التي اقتصرت—في السابق—على الحقيقة المتسامية والماضي والإله الأعلى، ليشمل الذات المجتمعية والذات الإنسانية التي قد تمارس القمع في تمردها على القمع. أدى هذا بفوكو إلى كشف حيلة ”الفرضية القمعية“ التي تعني الثورة ضد القمع، فربما تكون صورة أخرى من صور السلطة. فكل تمرد ومقاومة هو سلطة بديلة عن السلطة، وهذا يعني أيضاً—بالنسبة لفوكو—أن تمرد الجنس على السلطة ربما يكون نوعاً من القمع، ولهذا يحذرنا من التمردات الاجتماعية التي ربما تكون وسيلة من وسائل مكر السلطة، فليس كل تمردٍ ينتج حقيقة (العيادي 1994، 30–31، 34، 67).
ولتحليل ظاهرة القمع سعى فوكو في كتابه ”الجنسانية“ إلى دراسة فترتين تاريخيتين متباعدتين: الأولى العصر الإغريقي القديم، وقد شغل الجزء الثاني من الكتاب المعنون باستعمال المتع، والفترة الثانية هي القرون الثلاثة الأخيرة التي تناولها في الجزء الأول من الكتاب المعنون بإرادة العرفان. حيث رأى أن ظاهرة القمع تجلت في العصر الإغريقي القديم عبر سلطة الملك على الدم والإماتة، بينما تجلت سلطة العصر الحديث عبر السلطة على الجنس والحياة (فوكو 2004أ 116، 123؛ فوكو 2003، 234). وهذا يعني أن سلطة الملك في العصر القديم سلطة مباشرة تتعلق بإماتة كل من يهدد سلطته، أما في العصر الحديث فقد ظهرت في القرن التاسع عشر السلطة على الحياة والجنس حيث تولد مفهوم ”السلطة الحيوية“ أو ”سياسة الحياة“ (bio-politic) (فوكو 2003، 233–236)، ومفهوم الجنسانية الذي يمكن التعبير عنه بأنه ”سياسة الجنس“ (فوكو 2004أ، 86–90؛ 2004ب، 5). بدأت إرهاصات هذه السلطة مع القرن السابع عشر وبشكل خاص مع نمو الرأسمالية والنظام البرجوازي حيث تم تخطيب الجنس من خلال طقس الاعتراف وتأكيد المرشدين على أنه ينبغي قول كل شيء (فوكو 2004أ، 19، 106–108). وفي القرن الثامن عشر صار هناك تعاضد منظم للقوى الجماعية والفردية؛ بغية تنظيم الجنس بواسطة خطابات نافعة وعمومية. لقد صار الجنس شيئاً يجب أن يقال. منذ قرنين أو ثلاثة كان الهدف من تخطيب الجنس التعمير وإعادة إنتاج قوة العمل وإعادة تثبيت النمط السائد للعلاقات الاجتماعية، وبكلمة: إعداد جنسانية نافعة اقتصادياً ومحافظة سياسياً (فوكو 2004أ، 29، 33).
إن فهم فوكو للسلطة وتعقيداتها قاده إلى توليد مفهوم ”السلطة الحيوية“ كسمة للقرن التاسع عشر. فالسلطة هنا ”سلطة رعوية“ جديدة حلت محل السلطة الدينية، هي سلطة مستعدة للتضحية بذاتها من أجل حياة سكانها، وتُعنى بالخلاص والتوجه إلى الحاجات الحيوية وإنتاج الحقيقة بما في ذلك حقيقة الفرد ذاته من خلال تقنيات الاعتراف في شكلها الكنسي ثم في تطوراتها اللاحقة من قبو المخابرات إلى سرير التحليل النفسي الذي ساعد بدوره في العبودية لسلطات النظام أكثر من امتثاله لمتطلبات الحقيقة (العيادي 1994، 55–56، فوكو 2004أ، 108–109). ومن ثم أصبح مفهوم الخلاص يشتمل على عدة معان: الصحة والرفاه والأمن والحماية من الحوادث بحيث حل عدد من الأهداف الأرضية محل الأهداف الدينية للرعوية التقليدية، وحل التكفل بالحياة محل التهديد بالموت كسلطة جديدة خفية وغير مباشرة (فوكو 2004أ، 119؛ العيادي 1994، 55–56).
هذا التحليل المعقد الذي لا نعرف فيه طرفاً واحداً مباشراً للقمع، لدرجة أن المقموع قد يكون هو المتسلط وقد يكون أداة خفية بيد المتسلط، جعل فوكو يعترف بأن النقد الذي وجهه للقمع مفتوح على طريقين: إما أنه يدشن مرحلة جديدة للتخفيف من المحظورات، أو أنه يشكل صورة أكثر مكراً وسرية للسلطة (فوكو 2004أ، 12).
يمكن القول: إن فوكو وسع دائرة القمع الإغريقية المتجسدة في السلطة على الدم والموت، ودائرة القمع في الفلسفة الغربية المعاصرة المتجسدة في العالم العلوي المجهول والحقيقة المتسامية كما لدى كانط (noumenon)، أو في الميتافيزيقا وموت الرب كما لدى نيتشه، وأضاف دائرة جديدة يتجسد فيها موت الإنسان (الأدنى أو القبلي) وظهور الإنسان الأعلى والسلطة على الحياة والجنس والتطبيع مع القانون وبروز الإنسان كموضوع. وباختصار: رأى أن السلطة تأتي من أسفل وأن القمع ماكر وسلطة خفية، وهذا يعني أن الذات الإنسانية سواء كانت فردية أو جمعية هي مصدر القمع أو أداة القمع.
4 طه ومسألة السلطة والقمع
لا نكاد نجد في النصوص الفقهية والكلامية السائدة شكلاً للقمع والتسلط خارج حدود السلطة السياسية أو القانونية. وثنائية الظالم والمظلوم لا تقع—في الغالب—خارج إطار العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعلى هامشها تشكلت فلسفة القمع ومقاومته على المستوى الجماعي والفردي. نجد هذا في الكتابات الاعتزالية المبكرة في مقاومتها للجبرية الأموية، وفي الكتابات الشيعية والكتابات الفقهية المتعلقة بموضوع ”الخروج على الحاكم“ و”البغي“. أي أن مصدر القمع في هذه الكتابات براني وليس جوانياً، كما هو الحال في الفلسفة الغربية المعاصرة. وسببه في الفكر الاعتزالي المبكر ظلم الحاكم المعبر عنه بالفسق، وسببه في الفكر الشيعي سلب حق الخلافة من أهلها، وسببه في الفكر السني التقليدي السائد هو كفر الحاكم الصريح الذي جُعِل علة للخروج عليه. تحيل هذه الأسباب جميعها إلى الخارج كمصدر للظلم، وتستبعد كون الذات الإنسانية مصدرًا للظلم.
أما ظلم الإنسان لنفسه الذي أشار إليه القرآن في أكثر من موضع، فقد انشغلت به الكتابات الصوفية والأخلاقية كما نجد عند الماوردي (ت. 1058م) في كتابه ”أدب الدنيا والدين“ حيث يقول: ”إذا كان العدل من إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه، وجب أن يبدأ بعدل الإنسان مع نفسه ثم بعدله في غيره“ (الماوردي 1987، 116–117). ويكثر في الكتابات الصوفية الحديث بوضوح عن أن مصدر القمع هو الذات الإنسانية؛ ففي ”الرسالة القشيرية“ أفرد أبو القاسم القشيري (ت. 1073م) باباً مستقلاً عنونه بـ ”الحرية“ تناول فيه مفهوم الحرية عند متصوفة المسلمين، وأنه لا يتحقق به الإنسان إلا بالتجرد عن رق كل المخلوقات وعدم جريان سلطان المكونات عليه، بل ذهب المتصوفة المبكرون إلى ما هو أبعد من ذلك فاعتبروا أن صريح الحرية لا تصل إليه الذات الإنسانية إذا كان عليها من حقيقة العبودية بقية. بعبارة أخرى، فإن التحرر من تعب العبودية لا يتحقق إلا باستيفاء مقامات العبودية، بحيث تترسم الذات الإنسانية العبودية بلا عناء ولا كلفة. فالقمع هنا هو رهن الذات الإنسانية نفسها للخارج أو للداخل، ولا يتحقق الانفكاك منه إلا بإظهار السريرة بين الذات الإنسانية وبين خالقها، وبالتجرد عن قيدين: قيد الخارج السفلي الأفقي وقيد صور أعمال الداخل. فالقمع تجلى هنا عبر خضوع الذات الإنسانية للعالم الأفقي، سواء كان خارجياً أم داخلياً، وسؤال الحرية والانفكاك من القمع لا يكون إلا بالتجرد عن هذا القيد الأفقي ووصل الذات الإنسانية عمودياً بالعالم العلوي.
يمكن فهم النقد الائتماني لطه في هذا الإطار المفهومي الصوفي، فقد رأى أن مشكلة الإنسان الكبرى تكمن في أنه كائن ينسى الذكر والعهد الأول الذي عقده مع العالم العلوي قبل مجيئه إلى هذا الكون، وهو العهد المشار إليه في آية الميثاق: (وإذ أخذ ربك من بني آدَمَ من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (الأعراف: 172). والإنسان ينسى أنه خُلِق ليكون في عَالَمين: عالم الغيب والشهادة، وعالم الروح والنفس (عبد الرحمن 2012، 13–15)، وقد نتج عن نسيانه هذا نوعان من التسيد: تسيد محكم غير دياني، وتسيد مشتبه دياني. ففي تسيده المحكم غير الدياني قام الإنسان بفصل كامل بين العالمين، وأضفى في سبيل ذلك صفات العالم العلوي على نظامه السفلي، أي أنه قام بتغييب العالم السفلي وجعله متعالياً عبر إماتة الرب الأعلى وإماتة الإنسان القبلي أو تغييبهما عبر تأليه الإنسان. وفي تسيده المشتبه الدياني وظَّف الإنسان الغيب في خدمة الشهادة، أو العكس، أو ماثل بينهما. ينتقد هذا التحليل طيفاً واسعاً من الأنظمة الدينية وغير الدينية كالأنظمة العلمانية والديمقراطية والتصوف السياسي والحاكمية وولاية الفقيه والإصلاحية الذرائعية والتجديدية والأنظمة العربية الحديثة والتقليد الفقهي السائد والتفقه الصناعي.
لم يقتصر النقد الائتماني فقط على هذه الأشكال الخارجية التي يظهر فيها القمع بصورة مباشرة، بل شمل صوراً من القمع غير المباشر يمكن إلحاقها بما اصطلح عليه فوكو بـ ”الفرضية القمعية“، وتتمثل في أن منطق التمرد على السلطة ومقاومتها يؤسس لسلطة جديدة. ما يعني إدراج حركات التمرد السياسي والاجتماعي ضمن مفهوم التسيد الخفي والماكر؛ لكونه ينطوي على استحضار الذات الإنسانية السفلية وإثبات أحقيتها بالسلطة. وتكمن العلامة الفاصلة لفهم موضوع القمع وفق الرؤية الائتمانية في مسألة نكران الذات أو استحضارها، وأن النكران نفسه أو الاستحضار نفسه ربما يكون ماكراً إذا لم يكن له صلة بعالم الروح والأمر. بعبارة أخرى، كل نكران أو استحضار للذات السفلية لا يرتبط بعالم الملكوت هو قمع غير مباشر، وكل نكران أو استحضار للذات الإنسانية يرتبط بعالم الملكوت هو حرية. معنى هذا أن الذوات الإنسانية—سواء كانت فردية أو مجتمعية—قد تكون ذواتًا قمعية، وأن الأنظمة السياسية التي قامت على الارتباط بعالم الروح قد تكون أنظمة قمعية أو غير قمعية، والذي يحدد هو البواعث والمآلات.
يمكن القول: إن موضوع القمع وما يتصل به من مفاهيم كـ ”الفرضية القمعية“، لا يمكن مقاربته من زاوية واحدة. فما يبدو قمعاً في كل من الفلسفتين ربما يكون حرية، وما يبدو حرية ربما يكون قمعًا، والذات الإنسانية فردية كانت أم مجتمعية ذات ماكرة؛ فربما تمارس الحرية وتبغي القمع، وربما تمارس القمع وتبغي الحرية. فالقمع في كل من الفلسفتين يحدده الباعث والمآل، إلا أن الفرق الجوهري بين الفلسفتين هو مرجعية الأخلاق ونطاقها، ففلسفة فوكو تقصر الأخلاق على العالم السفلي المرئي الدنيوي الظاهر، بينما تمتد المرجعية في النقد الائتماني إلى العالم العلوي اللامرئي الغيبي، ما يعني أن الذات عند فوكو هي ذات أفقية بينما الذات الائتمانية هي ذات عمودية.
5 الذات الإنسانية بين فوكو وطه
نتج عن الاهتمام الفلسفي بموضوع القمع أسئلة قادت إلى نقاش مطول حول ماهية الذات الإنسانية. بدأت هذه الأسئلة على شكل: كيف حضرت وتجلّت تجربة القمع ومن يمثّلها؟ وما هو مفهوم النفس الذي عُبر عنه فلسفياً بالذات (subject)؟ وما مفهوم الطبيعة الإنسانية التي عرفت تقليدياً بأنها الذات المتحدة مع الذوات الأخرى؟ كان للفلسفة التحليلية موقف حاسم تجاه هذه الطبيعة الإنسانية؛ فقد أكد نعوم تشومسكي أحد الفلاسفة التحليليين أنه لا بد أن يكون هناك شيء بيولوجي معطى غير متغير، أو فطرة تحكم المبادئ التي تقود تصرفاتنا الفردية والاجتماعية والفكرية (Kul-Want and Piero 2013, 18–19)، ولكن الفلسفة القارية شككت في هذا المنحى التحليلي للطبيعة الإنسانية، كما شككت بالادعاء الذي يفترض أن هناك حقائق كونية.
في تفكيكه لمسألة الطبيعة الإنسانية ومسألة تطور اللغة يتساءل فوكو: كيف اشتغل مفهوم الطبيعة الإنسانية في مجتمعنا؟ ولماذا كان هناك حاجة للاعتقاد به؟ بالنسبة لفوكو، ليس هناك فهم كوني خلف التاريخ والمجتمع، واختبار الوظائف الاجتماعية ومؤثرات المفاهيم والخطابات (أنظمة التفكير) لا بد أن يجري عبر فحص الممارسات الاجتماعية في مراحل تاريخية محددة (Kul-Want and Piero 2013, 20–21).
يقودنا هذا النقاش حول الطبيعة الإنسانية وخضوعها لنظام كوني أو فطرة ثابتة إلى بحث مسألة تأزَّم النقاش حولها بدءاً من القرن السابع عشر، وهي كيف تشكل الوعي لدى الإنسان وما حدوده؟ وهل للإنسان مقدرة على معرفة حقيقة الوجود والعالم؟ قادت هذه الأسئلة رينيه ديكارت (ت. 1650م) إلى اختراع مقولة ”الكوجيتو“: ”أنا أفكر إذن أنا موجود،“ وهذا يعني أن الشك حول وجود العالم في الحقيقة يبرهن على وجود العقل والذات الواعية (بغوره 2012، 37). قاد هذا لاحقاً جاك لاكان (ت. 1981م) إلى الحديث عن النظام الرمزي الذي يعني نظام التواصل (كاللغة والخطاب وما يتعلق بهما من الآداب والمحرمات)، والقواعد الحاكمة لهذا النظام وحتمية خضوع الإنسان له دون وعي كامل به. يعني هذا أن الإنسان خاضع للغة والنظام الرمزي وليس العكس، وأن الشخص بالنسبة للاكان لا يمكنه أن يحقق وعياً كاملاً يتعلق بالصيغة التي يقرر أن تكون عليها ذاته. يعمل النظام الرمزي هنا كأيديولوجيا يمارسها الناس ولا يعرفونها (Kul-Want and Piero 2013, 23–28, 31)، وهذا ما أدى بـ”كانط“ قبل ذلك إلى إعادة التفكير بالذات الواعية ودائرة المعرفة الإنسانية وضرورة إخراج مسألة وجود الرب من البحث الفلسفي وأنها ليست موضوعًا للمعرفة، وأدى كذلك بنيتشه وفوكو إلى إعلان موت الرب وموت الإنسان الأدنى.
السؤال الجوهري الثاوي وراء أعمال فوكو المتلاحقة هو كيف تتشكل الذات الغربية حين تصبح موضوعاً للمعرفة بالنسبة لذاتها (المسناوي وآخرون 2006، 131). في مقابلة له يؤكد فوكو أن هناك ثلاثة ميادين ممكنة للبحث في الذات ووجودها التاريخي، وتتحدد هذه الميادين بحسب علاقات الذوات بمسائل ثلاث هي الحقيقة والسلطة والأخلاق. ففي علاقة الذات بالحقيقة يُتاح لنا أن نكوّن أنفسنا بوصفنا منتجي معرفة، وفي علاقة الذات بالسلطة نكوّن أنفسنا بوصفنا ذوات مؤثرة في الآخرين، وفي علاقة الذات بالأخلاق يُتاح لنا أن نكوّن أنفسنا بوصفنا ذوات أخلاقية (العيادي 1994، 107). هذا يعني أن للذات—عند فوكو—ثلاثة مظاهر: ذات منتجة للمعرفة وذات سلطوية وذات أخلاقية.
قاد الاهتمام بمسألة الذات فوكو إلى الاشتغال على مشروع الجنسانية الذي يتمحور نظامه العام حول تاريخ الأخلاق أو حول سؤال: لماذا نجعل من السلوك الجنسي مسألة أخلاقية؟ (المسناوي وآخرون 2006، 63). في الجواب عن ”لماذا الجنسانية؟“ يجيب فوكو: ”إن الغرب لم يكتفِ—منذ المسيحية—عن ترداد: (لمعرفة من أنت، اعرف ما يتعلق بجنسك)، هذا يعني أن الجنس كان دائماً—وخاصة في المجتمعات الغربية—ذلك المكان الذي تنعقد فيه حقيقة الذات الإنسانية والسلوك الذي يجب فحصه ومراقبته والاعتراف به وتحويله إلى خطاب“ (المسناوي وآخرون 2006، 39). ويرى فوكو أن اهتمامه بالجنسانية نابع من اهتمامه بالمشاكل التي تطرحها تقنيات الذات أكثر بكثير من اهتمامه بالحياة الجنسية، فالحياة الجنسية مسألة رتيبة (المسناوي وآخرون 2006، 63).
البحث في الذات قاد فوكو إلى الحفر في ثلاثة نماذج معرفية عرفها التاريخ الغربي: الإغريقية والمسيحية والحداثة. وأدى هذا الحفر إلى تناول موضوع الذات من عدة جهات، منها: أن القرن التاسع عشر شهد—نتيجة ظاهرة الاعتراف وتقنياته—ما يعرف بـ”الذات كموضوع للمعرفة،“ أي صار هناك ذاتان: ذات عارفة وذات موضوع للمعرفة (العيادي 1994، 36–38)، الأمر الذي أدى إلى ولادة العلوم الإنسانية. وقد قاد جَعْلُ الإنسان موضوعاً للمعرفة إلى اكتشافات أهمها اكتشاف الذات اللاواعية، وهو ما قام به فوكو في تحليل ظواهر الجنون. وللحفر في معنى هذا الانهمام في الذات وتاريخه، قام فوكو—كما سيتم بحثه لاحقاً—بتحليل مقارن لأخلاق الإغريق والمسيحية والحداثة الغربية من جهات أربع: الباعث والغاية والوسيلة والمرجعية. وتوصل إلى توليد مفهوم السلطة الحيوية، حيث رأى أن السلطة الحديثة انتقلت من السلطة على الدم إلى السلطة على الجنس، وصارت هذه السلطة بمثابة أيديولوجيا يخضع ويساق المجتمع الغربي لها ويقوم بالاعتراف طوعياً دون وعي بها.
هناك اعتراف فلسفي غربي يقوم على أن الذات الغربية تجد نفسها اليوم في أزمةِ مرجعية تجعلها تقف وجهاً لوجه أمام ضرورة إجراء تجربة جديدة عن الذات (المسناوي وآخرون 2006، 130). مفهوم فوكو عن تبخر الإنسان ومفهوم نظام لاكان الرمزي—الذي به لا يمكن للإنسان أن يحقق وعياً كاملاً يتعلق بالصيغة التي يقرر أن تكون عليها ذاته—يرجع سببه في الرؤية الائتمانية إلى مسألة فصل الذات الإنسانية عن العالم العلوي، ونسيان حقيقة وجود الإنسان في عالمين. هذا النسيان أدى أيضاً إلى تجاهل الطبقات المعقدة والمتعددة داخل النفس الإنسانية الواحدة. فالذات الإنسانية في الرؤية الائتمانية ذات متعددة لا تقتصر على الوعي واللاوعي، كما أن التعادي الحاصل فيها أشد من التعادي السياسي بين المجموعات (عبد الرحمن 2012، 137، 140)، فالنفس الإنسانية ما هي إلا مرآة هذا العالم بكل مظاهره الباطنة والظاهرة.
يستند النقد الائتماني إلى الرؤية العرفانية الإسلامية القائلة: إن الإنسان جامع لمعاني الأكوان (الشاذلي 1999، 85)، وإن احتجاب الإنسان بكونه الحاضر وعالمه المرئي عن المعنى الكلي للأكوان هو خنق لوجوده وتقييد وإهانة له، وطريقٌ للتسيد على الغير وعلى النفس ذاتها، أي تسيد النفس على النفس. وهذا هو المعنى المراد من الآية ﴿ثم رددناه أسفل سافلين﴾ (التين: 5) وفق الرؤية الائتمانية، والذي يعني تسلط النفس على النفس الناتج عن تغييب الأعلى (عبد الرحمن 2012، 252). وكلما ابتعد الإنسان عن العالم العلوي وانفك عنه، اشتد تسيده وقمعه. وهذا يعني أن مأزق الحداثة التي تسببت في مأزق الذات الإنسانية ما هو إلا نتيجة لنسيان—أو تعمد نسيان—حقيقة وجود الإنسان في عالمين. والمخرج—وفق الرؤية الائتمانية—لا يكون بالتعالي الفوكوي من خلال الانشغال بالذات وكسر التماثل الخفي أو المباشر مع السلطة، وإنما من خلال التعالي الذي يؤدي إلى إشغال الذات بخالقها وكسر تماثلاتها مع السلطة الخارجية ومع سلطة النفس ذاتها، والاعتراف بحقيقة الروح كسبيل لتزكية النفس وإزعاجها.3 بهذه التزكية يتسع وجود الذات الإنسانية وينمو، وبتدسيتها يتم تبخرها وخنقها (عبد الرحمن 2012 266)، وهو معنى مستمد من الآية القرآنية ﴿قد أفلح من زكاها﴾ (الشمس: 9).
إن أقصى حدود الذات الغربية هو الاعتراف بوجود شيء بيولوجي ثابت أو نظام رمزي لا سبيل للإحاطة به، أو الاعتراف بوجود ذلك الشيء الذي لا سبيل لتمثله؛ لكونه يقع وراء الحساب والمنطق (sublime) أو الاعتراف بالذات اللاواعية التي تبخر معها الإنسان وصار موضوعاً للمعرفة. ترجع علة محدودية هذه الذات في الرؤية الائتمانية إلى طبيعة ”النكران،“ أي نكران الذات السفلية للعالم العلوي وبالتالي خنق الوجود الإنساني. والمخرج لا يكون إلا بعملية ”الإثبات والمحو“ العرفانية، أي إثبات الذات العلوية ومحو الذات السفلية، وفي الإثبات انشغال بالذات وفي المحو إشغال الذات.
6 تحقيب النماذج المعرفية
قُسم التاريخ المعرفي للغرب عامة إلى ثلاث حقب: الفكر اليوناني، والفكر المسيحي، والأفكار الحداثية (Kul-Want and Piero 2013, 64). وقد جرى فوكو على هذا التقسيم في مشروعه ”الجنسانية،“ الذي بحث فيه القمع أو السلطة ومصدر الإلزام الأخلاقي.4 والغرض من حفريات فوكو في التاريخ الإغريقي والمسيحي هو التنقيب النَّسَبي (الجينيالوجي) الذي يراد منه بيان تشكل الذات الغربية وماهية المجتمع الغربي الحديث، وكيف أصبح مختلفاً (فوكو 2004 ب، 11؛ العيادي 1994، 116).
في كتابه ”استعمال المتع“ يرى فوكو أن المنفعل إزاء متعه والخاضع لها هو شخص خاضع للسيطرة في الفلسفة الإغريقية، وأن الاعتدال هو الأساس للحكم على الأفعال والأشخاص والجنس. ويتحقق الاعتدال من خلال السيطرة على الذات بالذات، والتمرن على الموت بأن يعيش المرء كل يوم وكأنه آخر أيام عمره. وهذا الاعتدال يخص الرجال؛ لأن التحكم في الذات في أخلاق تلك العصور لا يمثل مشكلاً إلا بالنسبة للفرد الذي يجب أن يكون سيداً لنفسه وسيداً للآخرين، لا للفرد الذي عليه أن يطيع الآخرين، وهو هنا الرجل. وهذا يعني أن الأخلاق في العصور القديمة أخلاق رجولية، والنساء فيه خاضعات (فوكو 2004ب، 23، 61، 64–67، 69، 84؛ العيادي 1994، 101؛ إوالد 2004، 31؛ المسناوي وآخرون 2006، 69). ولهذا كان يُنظر إلى الانحراف في المجتمع الإغريقي من زاوية: هل الإنسان أسير رغباته أو سيدها؟ فاللواطة تعد انحرافاً عندما تمارس بإفراط أو في حالة انقياد الرجل لرغبته، أما إذا مورست باعتدال وتحكم فهي اعتدال ورجولة (فوكو 2004ب، 82–84). ويتمثل القمع هنا في عدم سيطرة الإنسان على ذاته أو في انفعاله إزاء رغباته أو في فقدان المرء طاقته، كأن يفقد القدرة على الانتصاب الذي يعد علامة على الفعالية الحقيقية (المسناوي وآخرون 2006، 72). فالفعل هنا هو العنصر المهم في هذه الفلسفة الأخلاقية، والزهد يرتبط بجمالية للوجود، والغرض هو تهذيب السلوك بحيث يكون في دائرة الاعتدال، والهم الفلسفي والأخلاقي يتركز على مسألة السيطرة على النفس لا على فكرة المحرمات (فوكو 2004ب، 90–91؛ المسناوي وآخرون 2006، 92).
في المقابل، قام النموذج المسيحي على مفهوم الخطيئة والمحرمات التي لا تخص الرجولة وحدها، وتم ربط الجنس بالخطيئة، وصارت الرغبة—وليس الفعل—العنصر الأهم الذي يجب مراقبته وتطوير إطار تأويلي له؛ بغية الكشف عن الذات الراغبة (فوكو 2004ب، 90–91؛ إوالد 2004، 31–32؛ بغوره 2012، 66). وهذا يعني أن الانشغال بالذات في العصر الإغريقي انقلب إلى انشغال بالآخرين ومراقبة رغباتهم من قبل القساوسة، بحيث صار مجرد الانتصاب—بالنسبة للقديس أوغسطين—علامة على حالة من السلبية وعقاباً على الخطيئة الأصلية (المسناوي وآخرون 2006، 72، 78–81، 96).
فيما يخص نموذج الحداثة، فقد شهد القرن السابع عشر ميلاد المحرمات الكبرى، وبدأ فيه تخطيب الجنس من خلال طقس الاعتراف (فوكو 2004أ، 97). وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تم إعداد جنسانية نافعة اقتصادياً ومحافظة سياسياً، في ظل صعود النظام البرجوازي، كما سبقت الإشارة، وانحبست الجنسانية في الأسرة الزوجية، حتى صار المجال العام يقوم على الطهرية الصارمة التي تقوم على التحريم واللاوجود والصمت، ونشأ مفهوم السلطة الحيوية وصار الإنسان موضوعاً للمعرفة. هذا التحول في النموذج المعرفي من السلطة على الدم إلى السلطة على الجنس والحياة جعل حق الحياة مكتسباً بدل أن يكون موهوباً، حيث يرى فوكو أن الإنسان ظل لآلاف السنين حيواناً حياً قادراً على وجود سياسي، أما الإنسان الحديث فقد صار الحيوان الذي توضع حياته ككائن حي موضوع تساؤل؛ بسبب الجنسانية الحديثة ومفهوم السلطة الحيوية (فوكو 2004أ، 119).
في هذا التحقيب المعرفي الغربي، نجد أن السلطة انتقلت من السلطة على الفعل إغريقياً، إلى السلطة على الرغبة مسيحياً، إلى السلطة على الجنس في العصر الحديث. فقد تم الانتقال من السلطة على الدم إلى الخطيئة ثم إلى الحياة، ويتدرج مصدر السلطات تاريخياً على شكل السلطة الرجولية، فالدينية، فالمجتمعية.
ولكن في محيطنا العربي، كيف يمكن لنا أن نحدد ما نحن عليه اليوم وما به نختلف عن تاريخنا القديم أو الوسيط؟ وكيف يمكن لنا تقديم تحقيب معرفي داخلي؟
ائتمانيًّا، يمكن اعتبار النموذج المعرفي الإسلامي نموذجًا نظريًّا يتعلق بماهية الأخلاق الإسلامية وليس بـالـ ”ما صدق“ التاريخي أو بالممارسات الإسلامية التي يمكن تعقبها في المذكرات والسجلات كما فعل فوكو؛ فإنه لا يمكن رد النموذج المعرفي الإسلامي إلى نموذج خارجي سابق عليه كالنموذج الإغريقي مثلاً، وإن أمكن ذلك فيمكن الحديث عن النموذج الإبراهيمي كحقبة أولى مؤسسة للنموذج الإسلامي. ولكن ما الفترات التاريخية المحددة التي شهدت أفكاراً وقيماً يمكن تحقيب التاريخ الإسلامي بناءً عليها؟ الإجابة على هذا السؤال بتفصيل أمر يتجاوز حدود هذا البحث وغرضه، ولكن الحاجة إليه لا تتأتى فقط من جهة البحث التاريخي ولكن من جهة تجنب الاختزال عندما نتحدث عن الإسلام أو المجتمعات الإسلامية، وربما كان هذا أساس الرؤية الائتمانية في إجرائها فحصاً دقيقاً وشاملاً لجوانب التسيد الكامنة في الخطابات الإسلامية.
وفق الرؤية الائتمانية ونقائضها المتسيدة، يمكن إيراد التحقيب المعرفي الآتي: النبوة، والخلافة، والعصر العربي الحديث، فالنموذج النبوي يشتمل على القيم التي مثلتها أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم كتجسيد للشخصية الإبراهيمية، وهو النموذج الأساس للرؤية الائتمانية، أما نموذج الخلافة فقد اشتمل على الأفكار والقيم كما تجلت في حقبة الخلافة الإسلامية المتطاولة بما اشتملت عليه من تفاصيل معقدة، أما نموذج العصر الحديث فيشمل نقائض الدعوى الائتمانية المتمثلة في التسيد المحكم والمشتبه في المحيط الإسلامي.
شغل التسيد المحورَ الأبرز الذي تم من خلاله نقد مجمل الخطابات. وتأتي إشكالية التسيد من إثبات الذات الإنسانية السفلى—ذكراً كانت أو أنثى—وفصلها عن الذات العليا، ما يعني أن الاعتدال يكون في الفعل الموافق لأخلاق الدين. وبعبارة طه، فإن الائتمانية هي الآمرية (عبد الرحمن 2012، 368–370) التي تعني التدبير التعبدي أو السياسة الإحسانية التي تقول بوجود أصل واحد هو الأمانة التي تستلزم الاختيار.5 ولابد لهذه الرؤية الائتمانية من ثلاثة أركان: الأول: الفطرة وهي الذاكرة الغيبية التي تشير إلى قبول الإنسان العهد الأول الذي أخذه الله عليه، والثاني: التفاضل ويعني الإلزام بدين واحد أو مبدأ أخلاقي واحد هو في حالة طه الإسلام، والثالث: التكامل ويعني التناسق الأخلاقي بين نصوص الدين (عبد الرحمن 2012، 51، 62، 70–71). في هذه الفلسفة أصل واحد هو الدين، ويعني هنا نهجاً تدبيرياً للسلوك في الحياة، ويجمع في داخله الشريعة والحقيقة والعقل والنقل (عبد الرحمن 2012، 336). أي أن التسيد في نموذج طه الائتماني هو للذات العليا، وهذا يختلف عن نموذج الخلافة التي عرفها ابن خلدون بأنها ”حراسة الدين وسياسة الدنيا به“، وتحول عند طه إلى ”حراسة الدين بالدين وسياسة الدنيا بالدين“ (عبد الرحمن 2012، 345). في نموذج الخلافة ساد مفهوم صناعي للفقه كأساس للقضاء ومصدر السلطات، وهو فقه نفسي يُسند الأشياء لنفسه ولا يراعي ”الجانب غير المنضبط من الآمرية الذي هو الجانب الخُلقي“ (عبد الرحمن 2012، 403)، والسلطة فيه للخليفة، والاعتدال يكون في الفعل الموافق للأحكام الفقهية، فالتسيد هنا تسيد قانوني. أما نموذج العصر العربي الحديث فهو قائم على التسيد المحكم أو المشتبه، وهما تسيدان يستندان إلى الذات الإنسانية وتناسي المجال الروحي كمصدر للسلطات؛ بحيث تكون العلاقة بين الدين والسياسة إما علاقة تداخل أو تماثل (عبد الرحمن 2012، 19–20)، وعلامة هذا التسيد هو طلب السلطة والحرص عليه.
إن الغرض من هذا التحقيب في المجال الإسلامي هو تتبع موضوع القمع أو التسيد. ومن ثم فإن مقاربة الجنسانية الإسلامية وما يتصل بها من الاعتراف في المجال العام ينبغي أن تتم وفقاً لمقاربة الذات المتسيدة في كل من هذه النماذج الثلاثة.
7 الاعتراف في المجال العام
أحال فوكو إلى أربعة نماذج معرفية في حديثه عن الاعتراف هي: النموذج الإغريقي وتجلى من خلال تقنية الكتابة عن النفس، والنموذج المسيحي حيث يشكِّل الاعتراف طقساً دينياً ينشد المعترِف فيه الخلاص الأخروي ويُبرِز سلطة المعترَف له (الكنيسة/القس) الذي يراقب متعة الآخرين ويقودهم بجريرة الخطيئة، والنموذج الذي ينتمي إلى المجتمعات العربية حيث كان الجنس يشكل ”فناً إيروسياً تنتج فيه حقيقة الجنس من المتعة التي يجب أن تبقى طي الكتمان؛ لأنها حسب التقليد قد تفقد—في حال شيوعها—فعاليتها وفضيلتها“ (فوكو 2004أ، 49)، ونموذج غربي بدأ منذ العصر الوسيط على الأقل وضع الاعتراف من بين الإجراءات الطقوسية الأساسية التي ينتظر منها إنتاج الحقيقة (فوكو 2004أ، 49).
يرى فوكو أن هذه النماذج—باستثناء الإغريقي—قمعية تُنتج الحقيقة قسرياً، سواء كان مصدرها خلاص الروح الأخروي أو الفضيلة أو النظام الاجتماعي المعقد (الخلاص العلماني)، ومن ثم فإن الحقيقة هنا لا تنتمي إلى الذات الإنسانية وحريتها، أما النموذج الإغريقي فيقوم على مبدأ المحاسبة والسعي إلى الاعتدال.
ربما يكون أكثر مظاهر القمع خفاء ومكراً في فلسفة فوكو هو ما جرى في المجتمع الغربي بدءاً من القرن السابع عشر حيث بدأ تخطيب الجنس من خلال طقس الاعتراف وتأكيد المرشدين على أنه ينبغي قول كل شي. ولَّد هذا التخطيب ظواهر متعددة منها:
-
أصبح الإنسان/الذات من خلال الاعتراف موضوعاً، وبدأ ما سمي العلوم الإنسانية (العيادي 1994، 33؛ المسناوي وآخرون 2006، 140).
-
تَوَلّد مفهوم السلطة الحيوية الذي يعني السلطة على الحياة والجنس، وأصبح التحليل النفسي أداة من أدوات الجنسانية التي مكَّنت من تعبيد الناس لسلطات النظام أكثر من امتثالهم لمتطلبات الحقيقة بل أفسدت الحقيقة (فوكو 2004أ، 45–46). أي أن الاعتراف أصبح وسيلة سلطوية تُظِهر سلطة المعترَف له.
-
تعقَّد شكل السلطة وخفيت آلياتها حتى صارت تمارس من أسفل ويمثلها جهاز اجتماعي متكامل يقوم على العنصرية ويتجلى في الوشاية الاجتماعية والتبليغ والتشهير والإدانة (فوكو 2003، 249)، وهو جهاز سلطوي يدعي مساعدتنا على معرفة حقيقتنا لا بإكراهنا على الصمت بل بإجبارنا على الكلام.
-
ولَّد تعقيد السلطة ومكرها ما يسمى بـ”الفرضية القمعية“ التي جعلت الناس يقاومون معتقدين بفعل الحرية.
-
فتح المجال الخاص على المجال العام، فلم يعد ينصبّ الاعتراف على ما يود المرء إخفاءه وحسب، ولكن على ما يخفى عليه نفسه، مما أدى إلى إحداث خطابات تتمكن من خلالها السلطة السياسية والاجتماعية من الوصول إلى السلوكيات الأكثر خصوصية وفردانية، وباتت تلج وتراقب المتعة اليومية. وأحد أغراض مشروع ”الجنسانية“ هو دراسة هذه الخطابات وكيفية تشكل الذات الغربية وآلية إنتاج الحقيقة وألاعيبها وكيف تخترق السلطة الحقيقة عبر تقنية الاعتراف (Senellart 2012, 210–211، فوكو 2004أ، 12–13، 57؛ 2004ب، 8؛ العيادي 1994، 34).
لا يعني هذا أن الاعتراف أمرٌ شائن في فلسفة فوكو؛ لأن الاعتراف عنده يحرّر والسلطة تسكت، والاعتراف ينتج الحقيقة التي لها قرابة أصلية مع الحرية، والحقيقة لا تنتمي لنظام السلطة (فوكو 2004أ، 50–51؛ العيادي 1994، 34). ولكن الإشكال عنده أن الاعتراف أصبح تقنية سلطوية مآله التماثل مع السلطة التي تبغي التشميل والتي جعلت الاعتراف تقنية يسعى إليها المجتمع الغربي إلى حد الشذوذ (العيادي 1994، 33). والمخرج بالنسبة له يكمن في إبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تشتغل داخلها، وألا يكون الهدف الرئيسي أن نكتشف من نحن بل أن نرفض من نحن، أي أن نكسر التماثل مع السلطة وندشن أخلاقاً نظرية ”تصغي إلى انتفاضة الشتات وتؤكد الحق في الاختلاف وتصر بعناد على انتهاك التماثل؛ قدر إصرارها على مهاجمة كل ما يقيم حواجز بين الفرد والآخرين“ (العيادي 1994، 121–122). بعبارة أخرى، أن نقوم بمواجهة شبكة تسلطية أخطبوطية في أي موقع كانت وأي اسم اتخذت، ونوجه العناية للذات من خلال مقاومة التطبيع والتقويم (العيادي 1994، 121–122). ربما يعني هذا أن النموذج الإغريقي كان الأقرب لفلسفة فوكو من حيث بناؤه على مفهوم الاعتدال الذي يعني السيطرة على الذات بالذات الرجولية—ولكنها عند فوكو تشمل الرجل والمرأة—وعدم الانطلاق من المحرمات أو الفضيلة أو الخطيئة كمصدر للإلزام الأخلاقي، وهذا يعني أنه لا أحد يستحق اعترافنا إلا إذا كان هذا الاعتراف عفوياً ومنشغلاً بالذات نفسها ولا يتماثل مع السلطة أياً كانت ظاهرة أو خفية.
في المجمل، يمكن إرجاع فلسفة فوكو نَسَبيًّا إلى فلسفة نيتشه التي طورت مفهوم الرجل الخارق (Overman)، وهو مفهوم يقوم على بشرية خالية من القمع العلوي والسفلي ومنفتحة على التغيير. أي القطيعة بشكل تام مع الميتافيزيقا والاهتمام بالإنسان الأفقي الحاضر(Kul-Want and Piero 2013, 60). هذه الثنائية النيتشوية المتمثلة بالقطيعة والاهتمام بالإنسان الأفقي هي مصدر القمع في الرؤية الائتمانية القائمة على مفهوم الإنسان العمودي.
يمكن مقاربة الاعتراف في النسق الائتماني من جهتين: جهة المنطوق وجهة المفهوم. والمقصود بالمنطوق هو نص طه، وبالمفهوم ما يبنى على خطابه من خلال الرؤية العرفانية الإسلامية.
في منطوق نص طه نجد أن مسألة الاعتراف هي مسألة تنتمي إلى تبصر الذات بحقيقتها المتجلي في الآية ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره﴾ (القيامة: 14، 15) الذي لا يتحقق إلا عند اتصالها بعالم الأمر (الآمرية) ثم بعالم الشهودية الأعلى، ونزع النسبة عن النفس، وهذا يعني أن المتحقق بالمعنى الائتماني يحق له الاعتراف؛ لأنه لا يبغي في اعترافه نسبة ولا يزاحم فيه سلطة. ولكن هذا لا يكفي إذا لاحظنا أن الاعتراف يقوم على ثلاثة عناصر: معترِف، ومعترَف له، ومضمون الاعتراف. فإذا كان المعترَف له فرداً أو جماعة غير متحقق بالمعنى الائتماني، فإن الاعتراف لا يحقق مقصده أيضاً،6 وكذلك إذا كان مضمون الاعتراف مما يخل بالمعنى الائتماني الذي ائتمن الآمِر الناسَ عليه فإن هذا يُفسد مقصد الاعتراف. والمعنى الائتماني يتأسس على وازع الحياء (عبد الرحمن 2017أ، 200، 276)، والإخلال به يكون عبر الإخلال بأربعة رذائل: المجاهرة بالسوء، والفحشاء، والمنكر، والبغي، وهي كلها تعود إلى رذيلة التعدي على الحد المطلوب شرعاً أو عرفاً. بعبارة أخرى، فإن المعترِف ينبغي أن يكون مرآةً للمعترَف له من حيث تحققهما معاً بمعنى الآمرية ونزع النسبة عن الذات واتباع الرسالة الآمرية. بهذا المعنى الائتماني لا يجري التسيد للمعترِف على المعترف له أو العكس، ولكن التسيد للآمِر الذي وصف نفسه بأنه ”واسع“ و”غني“ و”خبير“ (عبد الرحمن 2012، 127، 173). واسع لا يُخرِج المعترِف من حدود الاختناق السفلي، وغني عن التسلط، وخبير بالمعترِف والمعترَف له وبأعمالهما الظاهرة والباطنة.
لهذا ربما نجد أن الاعتراف—كممارسة—اختفى من المجتمعات الإسلامية، سواء أكانت خاضعة لنموذج الخلافة القائمة على الفقه الصناعي أو نموذج العصر العربي الحديث القائم على التسيد المحكم أو المشتبه، في حين نجد الاعتراف قد مُورس في الفترة المدنية الخاضعة لنموذج النبوة كما مورس في التجربة العرفانية الصوفية7 التي تقوم على نزع النسبة عن الذات والفناء في الأعلى.
يعد الاعتراف في المفهوم الإسلامي الضيق خطوة من ثلاث خطوات مطلوبة لتحقق معنى التوبة: الاعتراف بالذنب، والندم، وعدم معاودة الفعل، ولكن الاعتراف بالمعنى الواسع المراد هنا له أثر أكبر من مسألة التوبة؛ لكونه يتعلق بالمجال العام وينتج عنه في المجال الجنسي وغيره عواقب اقتصادية وقانونية واجتماعية وأخلاقية وجنائية، وذلك كمسألة النسب، وحضانة اللقيط، والمجاهرة بالسوء، ومسؤولية بيت المال، وتشكل المجتمع المسلم، والعقوبة المتعلقة بقتل الفاعل أو المفعول به، ومفهوم الحق العام والحق الخاص. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاعتراف هنا—باعتباره يستند إلى فلسفة أخلاقية—يؤدي إلى نتائج تتعلق بالفلسفة الاجتماعية والسياسية من حيث ارتباطه من حيث المآل بمبدأ العدل ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمر الناس بالبر مع التغافل عن النفس (بغوره 2012، 27). أي أن الاعتراف بما هو إقرار confession يقود في الفلسفة الأخلاقية إلى اعتراف بما هو إدراك recognition وعدل مع الآخر في الفلسفة الاجتماعية (بغوره 2012، 27). إن خروج الاعتراف من الشأن الخاص إلى الشأن العام أمر لم تتناوله الكتابات الإسلامية بالتحديد، وهو أمر تتوزعه عدة حقول إسلامية فقهية وكلامية وأصولية وأخلاقية، ولذلك فإن التأسيس له أمر في غاية الأهمية في مجالنا الإسلامي، وهذا ما يدعونا إلى النظر في مفهوم نص طه والبحث عن الأصول التي تأسست عليها الرؤية الائتمانية، وهو ما نحاوله هنا.
يقوم جوهر النقد الائتماني على أن التشهيد والتغييب يتطلبان أربعة مطالب: المعنى، والسعادة، والكمال، والخلود (عبد الرحمن 2012، 85). ولتحقيق المعنى الائتماني لا بد من ”عمل تزكوي يورث وازع الحياء الذي يقوم على أن تخاف أن يشهدك من تدعي حبه حيث نهاك، وأن لا يشهدك حيث أمرك“ (عبد الرحمن 2012، 276)، وهذا المعنى هو جوهر مفهوم التقوى الذي تحدث عنه النص القرآني.8 والتقوى وفق المعنى التقليدي ”أن يفتقدك حيث نهاك ويجدك حيث أمرك“ تعني بالتأمل الدقيق—إذا لاحظنا أن مراقبة الله دائمة لا تنقطع—موافقةَ سر الذات الإنسانية علانيتَها، وأن تكون هذه الموافقة متفقة مع إرادة الله. فثنائية السر والعلن، والغيب والشهادة، والباطن والظاهر، والروح والجسد، والروح والنفس هي ثنائيةٌ جوهرية قدمت من خلالها أهم التشريعات الإسلامية والأخلاقية في سورة البقرة التي ابتدأت بوصف المتقين الذين تقوم أعمالهم جميعها على مسألة الاتصال بين عالم الغيب والشهادة ﴿يؤمنون بالغيب﴾ (البقرة: 3)، أو الماضي والحاضر ﴿يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك﴾ (البقرة: 4)، أو السر والعلانية ﴿مما رزقناهم ينفقون﴾ (البقرة: 3)، وفي موضع آخر ﴿الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية﴾ (البقرة: 274)، أو الإبداء والإخفاء كما في مواضع متعددة من سورة البقرة ﴿إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير﴾ (البقرة: 271) ﴿لله ما في السموات والأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله﴾ (البقرة: 284). ويستحق المتقون على هذا جزاءً وصف ”المفلحون“ الذي يعني وفق الفهم التقليدي ”الفائزون،“ ووفق نصوص عربية ما قبل الإسلام ”الباقون“ (القرطبي 2006، 1/278)، ووفق المعنى المعجمي المشتق من مادة (ف-ل-ح) الذين يفلحون الأرض بالبذار ويراقبون نموها حتى تصل إلى شجرة مكتملة الأغصان والفروع. هذه المعاني الثلاثة متعلقة تماماً بالمطالب الأربعة المذكورة التي تقوم عليها الرؤية الائتمانية.
تكمن القيمة الأخلاقية ل”موافقة السرِ العلانيةَ“ في أنها توحِّد ذات الإنسان البرانية والجوانية والأفقية والعمودية والواعية واللاواعية بحيث لا يكون هناك سيد للإنسان إلا خالقه، ويتحرر بذلك من أسر التسيدات، بل يصبح سيداً مؤيَّداً بسيادة سيده الواسع وسمعه وبصره، كما في حديث ”كنت سمعه الذي يسمع به“ (البخاري 2002، رقم الحديث 6502؛ عبد الرحمن 2012، 382–383، 394)، ويصبح الاعتراف وعدمه بالنسبة له سواءً؛ لأن المقصد عنده ليس الاعتراف أو عدمه، ولكن المقصد هو سعادته وكماله بهذا التوحد. فاعترافه وعدم اعترافه تجلٍّ من تجليات باطنه، وهذا يعني أن المعترِف في المجال العام المتحقق بالمعنى الائتماني تتسع توبته لا لتشمل ذاته بل مجتمعه بأكمله. في هذا السياق يمكن فهم وصف النبي لتوبة ماعز ”لقد تاب توبةً لو قُسِمت بين أمّة لوسِعتهم“ (مسلم 1991، رقم الحديث 1695)، ويمكن القول: إنه بسبر الخطاب الفقهي يمكن ملاحظة أن حوادث الاعتراف في الفترة النبوية لم تنل حظها من التأصيل الأخلاقي كما نالت من الاستنباط الفقهي.
أما المعترَف له المتحقق بالمعنى الائتماني فمقصده ليس التسيد وإقامة الحدود وتعرية الذات الإنسانية وإنما ملاحظة الآمرية واتباع سياسة الإحسان والتحقق بالغيرية. وهنا تنتزع النسبة عن النفس الإنسانية وينمحي التسيد السفلي الخفي والجلي وتثبت النسبة للخالق الواسع الخبير الغني الأغْيَر.9 إن التأمل في الحديث الآتي يعرِّفنا حقيقة الممارسة الفعلية لمسألة الاعتراف في النموذج النبوي والمعنى الائتماني. يروي أبو هريرة عن سعد بن عبادة (وهو سيد من سادات المجتمع المدني) أنه قال: يا رسول الله، لو وجدتُ مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء! قال رسول الله: نعم، قال: كلّا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك،10 قال رسول الله: ”اسمعوا إلى ما يقول سيدكم! (إشارة إلى حضور التسيد السفلي) إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني“ (مسلم 1991، رقم الحديث 1498).11 هذه الأغيرية هي الوسيلة للخروج من أسر الذات السفلية بكافة مظاهرها إلى رحابة الواسع.
خاتمة
يكمن جوهر القمع في فلسفة فوكو في السلطة السفلية الخفية—وهي أداة السلطة القانونية الجلية—المتمثلة في شبكة الجهاز الاجتماعي الذي يقود الجميع إلى الاعتراف وتعميم المجال الخاص وتعريته. وطريق الخلاص منه لا يكون إلا بكسر التماثل مع هذه السلطة والاهتمام بالذات الإنسانية الأفقية الحاضرة. هذا الخلاص—بالنسبة للنقد الائتماني—إنما هو كثعلب ماكر ضل طريقه وعاد إلى قفصه وخنق بالتالي وجوده الواسع. ومن ثم فإن الاعتراف—وفق الرؤية الائتمانية—يُنتج الحقيقة إذا توفرت أركانه المتمثلة بـ: معترِف ومعترَف له متحققان بالمعنى الائتماني وبمضمون الرؤية الائتمانية.
إن تعقيدات فلسفة فوكو والفلسفة الائتمانية وتعدد تلقياتهما ترجع إلى الحفر الجذري العميق الذي قامت به كل من الفلسفتين في فضائهما الغربي والعربي؛ إذ لا بد لفهم الفلسفتين من إدراك البنية المفهومية لكل منهما والسياق الاجتماعي والثقافي والمعرفي لكل منهما. يصف بيير بورجلان فوكو بأنه فيلسوف ”يمتهن احتقار التاريخ واستمراريته، وأن أركيولوجيته تناقض كل دراسة عقدية، وأنه لا يقبل بحوث الرواد المترددة ولا الانتقال من عصر إلى آخر“، ويقول: ”والحال أنه ليس بديهياً أن يكون جميع الناس الذين يعيشون في فترة واحدة متعاصرين تماماً، ولا أن تكون جميع الأفكار التي يحملها نفس الشخص منتمية إلى نفس الكون الذهني كما يلاحظ ذلك باشلار“ (المسناوي وآخرون 2006، 160). ففلسفة فوكو تنتمي إلى مدار الفلسفة القارية ولكنها تثور عليها وتتجاوزها إلى فضاء أوسع وأعمق، لكن مقدار حظها من الرحابة يقتصر على رحابة الإنسان الأفقي الذي رحّبت به، وهو جزء صغير لا يكاد يُرى إذا ما قُورِن برحابة الإنسان العمودي الذي قامت عليه الفلسفة الائتمانية. وهذا يعني أن الفلسفة الائتمانية والنصوص المشتغلة عليها عابرة لزمانها وواسعة بمقدار الأعلى الواسع.
وللمفارقة، فإن فلسفة فوكو ترى أن كل ما يوسِّع المعرفة يمكنه أن يفرض عليها إعادة بناء ذاتها (المسناوي وآخرون 2006، 161)، وهذا الملفوظ الفوكوي يؤدي إلى نقض فلسفته الدهرية القاصرة على الإنسان الأفقي؛ إذا أخذنا في الاعتبار أن النسق الائتماني نسق توسعي تتجاوز فيه الذات الإنسانية أفقها عبر وجودها في عالمي النفس والروح. وبسبب رحابة هذا النسق التوسعي فإن النقد الائتماني يذهب إلى أبعد من ذلك ليحث العرب على عدم التوسل بأدوات الغرب في سعيهم للتنزه من تهمة التطرف؛ لأن غرض التوسل هو مزاحمة الغرب على التسيد، والمقصد هو الإصلاح وليس الإسقاط واستبدال تسيد بآخر (عبد الرحمن 2012، 342).
تعي فلسفة طه نفسها عندما تقر بأن تعقيدات النموذج الائتماني وعمقه تجعل من قدرته على تغيير المحيط محدودة وبطيئة، فهو ليس ثورة على الخارج وإنما ثورة على الداخل، والتغيير يكون من أسفل لا من أعلى، حتى إذا صلح الأسفل قاعدة وأطرافاً لزم أن يصلح الأعلى (عبد الرحمن 2012، 503). وإذا عرف الأسفل نفسَه عرف ربَّه، وأن التغيير هو تغيير الذات الإنسانية السفلية بإرجاعها إلى ذاكرتها الأصلية. وهنا تكمن أهمية النقد الائتماني من حيث إنه نقد ينتج عنه مجموعة من المقاصد الأخلاقية المتمثلة باعتراف الذات الإنسانية بذاتها ومن ثم صلاحها، والمقاصد الاجتماعية والسياسية المتمثلة باعتراف الذات الإنسانية بالذوات الأخرى وتحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية.
شكر وتقدير
أشكر الدكتور وائل حلاق على مراجعة هذه الورقة وإبداء بعض النصائح، وقد ضمها إلى مراجع كتابه عن طه عبد الرحمن.
تعرض طه لمناقشة مسألة المراقبة والتجسس والسلطة المجتمعية في كتابه ”دين الحياء“ وأشار إلى أفكار فوكو عن السلطة والمراقبة (عبد الرحمن 2017ب، 162–165).
على سبيل المثال انظر نقده لمسلك الجابري البرهاني في كتابه ”تجديد المنهج في تقويم التراث.“
الإزعاج مفهوم طهوي يعني إخراج النفس ونقلها من حال أدنى إلى حال أعلى (عبد الرحمن 2012، 296)، وهذا المعنى جرتْ عليه ألسنة المتصوفة، كقولهم: أزعج الليلَ الندامى … قطعوا الليل هيامى. أي أزعج المحبون أرواحَهم، فأزعجت أرواحُهم الليلَ بالشوق والمنادمة.
مصدر الإلزام الأخلاقي—وفق فوكو—مظهر من أربعة مظاهر أخلاقية هي: الباعث، مصدر الإلزام، الوسيلة، والغاية أو المقصد (فوكو 2004ب، 32؛ المسناوي وآخرون 2006، 78–81).
الاختيار هنا له تعلق بالخير (عبد الرحمن 2012، 449–451).
تأمل آية ﴿وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين﴾ (النور: 2) وكيف أن الشهادة لا تكون إلا مع مرتبة الإيمان وليس مجرد الإسلام.
ليس هناك سجل يُعنى بجمع هذه الممارسات الصوفية بحيث يمكن تحليلها. ولكن بالاعتماد على أدبيات ما يعرف بـ”آداب المريد“ أو ”آداب السلوك“ يمكن القول إن هذه الممارسات نظير إسلامي لما يعرف بالتحليل النفسي الغربي (Sam Haselby 2018). كما يجب القول إن الممارسات الصوفية شهدت تعقيداً خفياً من الحضورات في المجال العام، كإبراز ما هو ضد الباطن الصالح كالنموذج الملامتي الذي يُظهر الشَيْن والمعيب ويبطن الصلاح. وهذا تماماً بخلاف مفهوم النفاق القائم على الخداع ومفهوم التقية القائم على الخوف. وأعدل الصور في النسق الائتماني هو وازع الحياء، وهو قائم على موافقة السر العلن وموافقتهما لإرادة الواسع.
في نص طه يتعلق مفهوم التقوى بالرجاء والخوف والخشية والعلم، وهو فهم تقليدي درج عليه الخطاب الإسلامي عامة (عبد الرحمن 2012، 119).
للتوسع في معني صفتي الواسع والغني انظر عبد الرحمن 2012، 127، 273.
العرف الاجتماعي هو الذي دفع الصحابي لهذا الاستغراب والحماسة في تنفيذ ما يمليه عليه العرف. وهو وصفٌ—إن صحّ—يندرج تحت مرتبة التسيد الأخفى التي وصفها عبد الرحمن بأنها تسيد للمحكومين على الحاكم. أما التسيد الخفي فهو تسيد النفس على الإنسان، والجلي تسيد الحاكم على المحكومين (عبد الرحمن 2012، 298).
ربما تصلح هذه الجملة الأخيرة من الحديث ”إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني“ كأساس لتقسيم طه الثلاثي للعقل: العقل المجرد (وهنا تكون النسبة إلى النفس)، والعقل المسدّد (النسبة إلى الرسول)، والعقل المؤيد (النسبة إلى الحق سبحانه) (عبد الرحمن 2012، 270).
المصادر والمراجع
إوالد، فرانسوا. 2004. ميشيل فوكو:الانهمام بالحقيقة(حوار)، ضمن كتاب”مسارات فلسفية“. ترجمة محمد ميلاد. اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1.
البخاري، محمد بن إسماعيل. 2002. صحيح البخاري. دمشق: دار ابن كثير، ط1.
بغوره، الزواوي.2012. الاعتراف من أجل مفهوم جديد للعدل دراسة في الفلسفة الاجتماعية. بيروت: دار الطليعة، ط1.
سبيلا، محمد. د.ت. ميشيل فوكو:نظام الخطاب، ويتضمن: ليفي، برنار هنري. نسق فوكو؛ م. فونتانا. الحقيقة والسلطة/ حوار مع فوكو، القاهرة: دار التنوير.
الشاذلي، جمال الدين أبو المواهب. 1999. قوانين حكم الإشراق إلى كافة الصوفية بجميع الآفاق. عناية محمد شحاته إبراهيم، القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث.
عبد الرحمن، طه. 1994. تجديد المنهج في تقويم التراث. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2.
عبد الرحمن، طه. 2017أ. دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني (1) أصول النظر الائتماني. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، ط1.
عبد الرحمن، طه. 2017ب. دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني (2) التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، ط1.
عبد الرحمن، طه. 2012. روح الدين:من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2.
العيادي، عبد العزيز. 1994. ميشال فوكو المعرفة والسلطة. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1.
فوكو، ميشال. 2004أ. تاريخ الجنسانية:إرادة العرفان 1. الدار البيضاء: ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق.
فوكو، ميشال. 2004ب. تاريخ الجنسانية:استعمال المتع 2. الدار البيضاء: ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق.
فوكو، ميشال. 2003 ”يجب الدفاع عن المجتمع“ دروس ألقيت في ”الكوليج دي فرانس“ لسنة ١٩٧٦، ترجمة: د. الزواوي بغوره. بيروت: دار الطليعة، ط1.
القرطبي، محمد بن أحمد بن أبي بكر. 2006. الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان. تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي. بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1.
الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد. 1987. أدب الدنيا والدين. بيروت: دار الكتب العلمية، ط1.
مسلم بن الحجاج. 1991. صحيح مسلم. عناية محمد فؤاد عبد الباقي. بيروت: دار إحياء الكتب العربية، ط1.
المسناوي، مصطفى وآخرون. 2006. ميشال فوكو:هم الحقيقة. الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1.
ولد أباه، السيد. 2010. أعلام الفكر العربي مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1.
Haselby, Sam. 2018. “Every Sufi Master is, in a Sense, a Freudian Psychotherapist.” Aeon online magazine. Accessed November 10. https://aeon.co/ideas/every-sufi-master-is-a-kind-of-freudian-psychotherapist.
Kul-Want, Christopher and Piero. 2013. Continental Philosophy. London: Icon Books.
Senellart, Michel. 2014. Michael Foucault on the Government of the Living, lectures at the College de France 1979–1980 and Oedipal Knowledge. Translated by Graham Burchell. New York: Picador.