مقدمة
كل ممارسة سياسية تستبطن—في الغالب—رؤية وجودية؛ فالسياسة قبل أن تكون ”فن تدبير المدينة“—كما في التعريف اليوناني القديم—تتفرع عن رؤية وجودية تؤطرها، ولهذا كانت السياسة أحد فروع الحكمة العملية عند اليونان وفلاسفة المسلمين؛ ولا يمكن فصل السياسة عن الفلسفة أو الدين أو غيرها من المجالات التي تُعتبر مَعينًا للقيم الإنسانية، وبهذا المعنى يمكن اعتبار النظرية الائتمانية للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن رؤية وجودية لها تطبيقاتها المختلفة في حقول السياسة والإعلام والبيولوجيا وغيرها. فما النظرية الائتمانية؟ وما تطبيقاتها في مجال السياسة؟ يبحث هذا الفصل النقد الائتماني لمشروع الإسلام السياسي كما قدمه طه في أعماله وخصوصًا كتابَه ”روح الدين،“ ويسعى الفصل إلى تقديم رؤية تحليلية نقدية تتوزع على قسمين: يَعرض أولهما النظرية الائتمانية في العلاقة بين الدين والسياسة، ويبحث ثانيهما النقدَ الائتماني لتصورات الإسلام السياسي وممارساته.
1 المقاربة الائتمانية للإشكالية السياسية
يمكن إجمال المقاربات العربية للإشكالية السياسية في اثنتين: فقهية وتاريخية. فالمقاربة الفقهية تهتم بالبحث عن الأحكام المعيارية المستمدة من مصادر التشريع الإسلامي المفصلة في علم أصول الفقه، والمبنية على طرائق الاستدلال الفقه (الغزالي، 2011، ص. 31). وإن كانت دائرة أحكام السياسة—وفق الفقيه—أوسع من دوائر الأحكام الأخرى؛ لأنها تتوزع بين الممارسة التاريخية والنصوص العامة، فأكثرها يدور على المصالح المرسلة (Hallaq 1997).أما المقاربة التاريخية فلا تنشغل بالمعياري والشرعي وغير الشرعي، وإنما تصغي إلى نبض التاريخ في تقلباته المختلفة بحثًا عما هو ثابت في هذه التجربة التاريخية، وسعيًا إلى اكتشاف المحددات التي كانت تعتمل في اللاشعور السياسي1 للفاعل. فالمقاربة التاريخية تعي أن نظام الحكم ومؤسساته لم يكن—دومًا—يخضع للأحكام المعيارية أو الحكم النموذجي وفق منطق الفقيه، فقد خضع إلى جانب العقيدة الدينية لمحددات أخرى مثل القبيلة والغنيمة بحسب قراءة محمد عابد الجابري (الجابري، 2000).
ولكن طه عبد الرحمن يقدم مقاربة ثالثة للمسألة السياسية هي مقاربة فلسفية بنى فيها على مسلمات جديدة استلهمها من الفكر الصوفي؛ رغم ما اكتنف العلاقة بين الفكرين الفقهي والصوفي من توترات تاريخية حاول عدد من الأعلام التخفيف من حدتها على كلا الجانبين؛ ولكن ظل التمايز بين الظاهر والباطن قائمًا، ومن هنا فإن مقاربة طه واضحة في انحيازها للباطن من دون إهمال للظاهر، ومن هنا سمى مقاربته ”روحية“ فقال: ”جاءت مقاربتنا للعلاقة بين الدين والسياسة متميزة عن المقاربات السابقة، وما أكثر أصنافها وأغزر الإنتاج فيها شرقًا وغربًا، فهذه المقاربة ليست تاريخية ولا سياسية ولا اجتماعية ولا قانونية ولا فقهية ولا فكرانية،2 وإنما قصدنا أن تكون مقاربة روحية.“
ولكن قد يتفرع عن كون مقاربة طه للسياسة مقاربة روحية، أن المخاطَب بها الفرد دون الجماعة؛ إذ إن الروح جوهر إنساني فردي لا جماعي، وعليه فإن ما يهم طه عبد الرحمن في نظريته الائتمانية هو النهوض بالفرد؛ لأنه هو الذي يشكل بتعدده جماعة ما، فلا يكفي سَنُّ قوانين تضبط الجماعة مع إغفال إصلاح الفرد إصلاحًا باطنيًّا، كما أن أن الذي يمارس العملية السياسية هو فرد في آخر المطاف، وهذا ما يشير إليه طه في سياق مناقشته للفيلسوفة ”شونتال موف“ (Mouffe, 2005)، يقول: ”بقدر ما أعجبنا إلحاح موف على الوجدان في تشكيل التنازع السياسي، متميزة عن غيرها من الباحثين في التنازع، أسِفنا أن تحصره في نطاق الجموع وحدها، قد يكون عذرها أنها اقتفت أثر كارل شميت في جعل التنازع السياسي موقوفًا على الجموع، لكن يبقى أن أصول الأهواء لا توجد إلا في نفوس الأفراد كل واحدة على حدة“ (عبد الرحمن، 2012).
إن إلحاح طه على أولوية الفرد هنا يأتي على النقيض من التوجه السوسيولوجي الذي يلغي الفرد ويفترض ذوبانه في بوتقة الجماعة وفقدانه لمقومات شخصيته وانحلاله تحت الإغراء الذي يفرضه التجمهر. يعبر إميل دوركايم عن هذا التوجه مستخدمًا مثال الماء. فالماء يتركب كيميائيًّا من ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين، ولكن الماء يختلف جذريًّا عن مكوناته، فكذلك العلاقة التي تربط بين الفرد والجمع، فالمجتمع يتجاوز المجموع العددي لأفراده منفردين، وتختلف ماهيته عن ماهية الفرد رغم أنه هو المكوِّن الأول والأساسي للمجتمع واللبنة التي يتشكل منها صرحه، ومن هنا دعا في كتابه ”قواعد المنهج السوسيولوجي“ إلى ضرورة دراسة المجتمع دراسة مستقلة منفصلة عن سيكولوجيا الفرد.
ولكن ما تجليات المقاربة الروحية للعلاقة بين الدين والسياسة في فكر طه؟ من الشائع أن ثمة تصورين اثنين للعلاقة بين الدين والسياسة: تصور يقول بالفصل بينهما، وآخر يقول بالوصل، ولكن طه يقدم تصورًا ثالثًا حين يرى أن العلاقة ليست وصلاً ولا فصلاً، بل هما مسلكان متمايزان لتدبير حياة الإنسان، فإما أن نسلك طريق الدين أو أن نسلك طريق السياسة.
يؤسس طه تصوره لهذه العلاقة على مسلّمة مركزية في نظريته الائتمانية مفادها أن الوجود الإنساني مزدوج، أي أن الوجود الإنساني له مستويان: وجود وانوجاد: فالوجود هو حالة الإنسان التي يكون فيها روحًا خالصة في العالم الغيبي منفصلاً عن هذا الوجود المرئي، والانوجاد هو حالة ازدواج الروح والجسد هنا في العالم المرئي. يقول طه عن هذين النمطين: ”يتعين أن نفرق في الوجود بين نمطين اثنين: أحدهما نصطلح عليه بالانوجاد وهو نمط الحياة الذي يحفظ اقتران الجسد بالروح ويتحدد به العالم المرئي أو المشهود، والثاني: التواجد وهو نمط الحياة الذي يحمل الروح على تعاطي الانفكاك ويتحدد به العالم غير المرئي“ (عبد الرحمن، 2012، 36).فالإنسان موجود ومنوجد، فحين ينفك عن المحسوس يكون متواجدًا بروحه، وحين يتلبس بالمادة يكون منوجدًا. فالدين تصور وجودي يحدث باتباعه تنزيل كمالات العالم الغيبي إلى هذا العالم المرئي وهو ما يسميه طه ”التشهيد.“ أما السياسة فتمارس ”التغييب“ من خلال رفع هذا العالم المرئي بكل نقائصه لمحاكاة كمالات العالم الغيبي متواريًا وراءه. يقول طه: ”إن كلاًّ من الدين والسياسة عبارة عن علاقة وجودية بين عالمين متقابلين، وإن هذه العلاقة الوجودية تتخذ في الواحدة منهما عكس الاتجاه الذي تتخذه في الأخرى، فيكون في الدين عبارة عن تنزيل يجعل العالم الغيبي مشاهدًا في العالم المرئي أو قل عبارة عن تشهيد، وتكون في السياسة عبارة عن تنزيه يجعل العالم المرئي متواريًا في العالم الغيبي، أو قل عبارة عن تغييب“ (عبد الرحمن، 2012، 46–47)، ويبدو أنه أسس هذه الرؤية على آية قرآنية افتتح بها كتابه ”روح الدين“، وهي قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِد اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا كَأَنّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾ (الأنعام: 125).
فالتصعيد هنا يتخذ مع طه مفهوماً جديدًا حين يعبر عن فعل السياسة بما هو رفع للعالم المرئي—بنقائصه—إلى مرتبة كمالات العالم الغيبي، وإضفاء صفة الكمال عليه، وهو ما يشكل ظاهرة تَشِي—في نظر طه—بعدم نسيان الإنسان العلماني للعالم الغيبي رغم إنكاره له؛ يقول: ”والعجب كل العجب أن المحدثين وهم يفصلون بين العالمين ناسين العالم الغيبي، لم ينسوا كمالاته، فاندفعوا إلى نقلها إلى العالم المرئي، اقتباسًا أو اختلاسًا“ (عبد الرحمن، 2012، 25). وفي هذا التأسيس القرآني تطبيق لمقتضيات ما أطلق عليه طه اسم ”المجال التداولي“ الذي يتحدد بأسباب لغوية وعقدية ومعرفية كما صاغه في كتابه ”تجديد المنهج في تقويم التراث“ (عبد الرحمن، 1993، 245–246).
فنحن إذن أمام مسلكين في تحديد العلاقة بين الدين والسياسة: التنزيل عبر التشهيد وهو جوهر العمل الديني الذي يتأسس على الروح (الذاكرة الفطرية) التي تلهم الإنسان المتدين، والتصعيد عبر التغييب وهو غاية العمل السياسي ومردُّه إلى النفس التي تنزع إلى نسبة كل الأشياء إليها، وهما مسلكان يتخذ أحدهما عكس منحى الآخر مع أن كليهما يسعيان إلى تدبير الحياة الإنسانية، وعليه فالدين ليس شأنًا شخصيًّا بحتًا والسياسة لا تختص بالشأن العام على خلاف المقاربة العلمانية.
يدرك طه التعقيدات التي تحيط بمفهوم النفس فيقول: ”لقد أَشبع المتقدمون والمتأخرون موضوع النفس بحثًا واختبارًا؛ حتى إن الناظر في دقيق مقارباتهم وطويل ممارساتهم لَيأخذه العجب كيف أنهم—على ما توصلوا إليه من نتائج مبهرة وأدركوه من آثار عملية مذهلة—ظلوا يستعجزون من جانبهم الإحاطة بخفايا النفس والاحتياط من مكائدها“ (عبد الرحمن 2011، 92)، ولكنه رأى أن الخوض في تفاصيل هذه المناقشات خارج عن موضوع كتابه، مكتفيًا بتقريرالرأي الذي يرتضيه في النفس وهو أنها ”عين الذات“ أي أنها—باصطلاح طه—”عبارة عن الأنا وهي الحقيقة الكيانية التي تجعل الإنسان شخصًا واحدًا بعينه قادرًا على الشعور بذاته.“ يؤسس طه مفهومه هذا على جملة من الآيات القرآنية ويتجاوز المفهوم اليوناني للنفس الذي يحددها بأنها جوهر فرد، ويستأنس بالمقابلة التي أقامها ابن خلدون بين الفطرة والسياسة في سياق بنائه لنظريته التي ترى أن العمل الديني يقوم على الفطرة التي تتحدد بالروح التي هي بمنزلة الذاكرة الغيبية للإنسان، وأن العمل السياسي يقوم على النسبة التي تتحدد بها النفس. وحين يميز طه هنا بين ”النفس“ و”الروح“ فإنه يستند إلى إرث صوفي خصب في مقابل الإرث اليوناني الذي لم يميز بين النفس والروح.
فالتشهيد الذي هو إنزال كمالات العالم الغيبي على العالم المرئي إنما يتم عبر مبدأ أساسي هو مبدأ الفطرة، وحقيقة الفطرة هي حفظ معان غيبية ترسخت في الروح الإنسانية من لقاء مع الله في عالم الذر كما يسميه المتصوفة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الإشهاد الأول للذات الإلهية بقوله: ﴿وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِم ذُرّيَتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172). ومن المعاني الغيبية التي فُطرت عليها الروح الإنسانية محبة ”الألوهية“ و”الوحدانية“. يقول أبوحامد الغزالي: إن الروح تحب الربوبية3 مستدلاً بقول الله عز وجل ﴿قُل الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي﴾ (الإسراء: 85)، ومن هنا فالفاعل الديني بإدراكه لحدوده وبإيمانه بصفات الألوهية والوحدانية لا ينزع إلى الاستبداد السياسي وإنما يرى نفسه عبدًا طائعًا، فلا تحدثه نفسه بأن يتقمص صفات الله تعالى، وإنما يستطيع بممارسته للعمل التزكوي أن يُزيل حجب النفس ويخرج من عبادته لهواه إلى إفراد الله بالعبادة.
ويتطلب التشهيد مبدأين آخرين يعضدانه ويكملانه وهما مبدأ التفاضل ومبدأ التكامل، ومقتضى الأول هو اختيار الدين الأفضل الذي يعرج بروح الإنسان من خلال العمل التعبدي، ويحقق له ”كمال التشهيد“ وعدم اتباع الأديان المفضولة، سواء تلك التي نسخها الإسلام أم الأديان الإنسانية التي يتم ابتداعها أو ما يسمى ”روحانيات بلا إله“ (Compte-Sponville, 2006) كبدائل معلمنة للدين الفطري الذي تنسدل عنه الأخلاق، وقد صنفها طه في كتابه ”بؤس الدهرنية“ إلى أربعة أقسام: ”الصيغة الطبيعية“ التي تقول بآمرية الضمير، و”الصيغة النقدية“ القائلة بآمرية الإرادة، و”الصيغة الاجتماعية“ القائلة بآمرية المجتمع، ثم ”الصيغة الناسوتية“ التي تقول بآمرية الإنسان-الإله، يقول طه: ”يقضي مبدأ التفاضل بأن كمال التشهيد لا يحصل إلا بأفضل دين في زمانه يدعو إلى عقيدته بوصفها أفضل العقائد“ (عبد الرحمن، 2012، 62). والمبدأ الثاني هو مبدأ التكامل، ومقتضى هذا المبدأ التزام الدين الذي يحقق ”شمول التشهيد“ بأن تتناول أحكامه كل المجالات الحياتية مع اتساقها وعدم تناقضها، و”يقضي مبدأ التكامل بأن شمول التشهيد لا يتحقق إلا إذا ظهر اتساق الدين؛ بحيث لا تنفك مضامين أحكامه بعضها عن بعض، ولا تتضارب صورها فيما بينها“ (عبد الرحمن، 2012، 70).
وفي مقابل التشهيد يأتي التغييب السياسي الذي يؤدي إلى الاستبداد وتأله الطاغية، فهو قلب لمعاني التشهيد أو تحوير لها، فنجد المستبد السياسي يتقمص شخص الإله. إنه يُصَعِّد ذاته وواقعه حتى تلامس—وأنى له ذلك—معاني العالم الغيبي الذي شاهدته روحه في عالم الذر، ولكنه بدل أن يَخص بها الله جل جلاله ينسبها لنفسه، ومن هنا كان التغييب يقوم على ”النسبة.“ يقول طه في بيان الفرق بين ”الفطرة“ و”النسبة“: ”إذا كان العمل الديني ينبني على الفطرة التي تتحدد بها الروح والتي هي بمنزلة الذاكرة الغيبية للإنسان، فإن العمل السياسي ينبني على النسبة التي تتحدد بها النفس“ (عبد الرحمن، 2012، 92)، فعمل النفس هو أن تنسب الأشياء إلى ذاتها، وترى أنها أحق بكل الخصال الحميدة تَشَبُّهًا بالله تعالى صاحب الأسماء الحسنى، ولاتزال تنسب لذاتها حتى تتسيد على الآخرين، وتمارس قهرًا حين يعوزها البرهان، فالسلطان هو المبدأ الذي يلتجئ إليه المتسيد المستبد لفرض نفسه حين يعوزها البرهان، فـ”حد السلطان هو أنه برهان القوة الذي يستدل به المتسيد على طريقته في تدبير ملكوته“ (عبد الرحمن، 2012، 109).
يشرح طه عبد الرحمن كيف يتحول التعلق بصفة الوحدانية المغروسة في فطرة المتسيد المتوارية خلف حجب النفس4 إلى استبداد سياسي فيقول: ”إن التعلق الروحي بالوحدانية لا يلبث أن ينقلب عند الفاعل السياسي إلى تعلق نفسي يحمله على أن يطلب هذه الوحدانية في العالم المرئي ذاته، منزِّهًا أو مغيِّبًا له—أي رافعًا له إلى رتبة العالم الغيبي؛ فلا عمل يأتي به متدرجًا في مراتب النشاط السياسي إلا ويسعى أن يتخذ فيه طريقًا يتفرد به، وأن يُنسب إليه على وجه الاختصاص به“ (عبد الرحمن، 2012، 95).
ونظرًا إلى مركزية النفس والروح (التسيد والتشهيد) في نظرية طه حول العلاقة بين الدين والسياسة، فإنه من الطبيعي أن نجد إحالات إلى أفكار ومقولات صوفية في ثناياها، فعلى سبيل المثال نجد في ”كتاب ذم الجاه والرياء“ من ”إحياء علوم الدين“ للغزالي ”أن الإنسان لما فيه من الأمر الرباني يُحب الربوبية بالطبع، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال“ (الغزالي، 2011، 6/280)، كما نجد قول ”بعض مشايخ الصوفية: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله: ”أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلى،“ ولكنه ليس يجد له مجالاً“ (الغزالي، 2011، 6/281)، ولكن طه يبني على هذا الإرث الصوفي الغني متسلحًا بمعرفة عميقة بالفلسفة ويصهر ذلك كله في بناء نظري متماسك للعلاقة بين الدين والسياسة في حين أن المتصوفة عادة ما يهملون مسائل السياسة.
2 النقد الائتماني للديانية
يتسم النقد الائتماني للديانية بهدوء العبارة وبأنه نقد من الداخل، على خلاف النقد العلماني الذي ينزع بعضه على الأقل إلى تصفية حسابات إيديولوجية، وقد يتحول في لحظة صراع على أرض الواقع إلى قبول ممارسة القمع المفرط على رموز هذه الحركات.لا يتخد نقد طه لحركات الإسلام السياسي شكلاً واحدًا،5 ولكن يمكننا تقسيمه إلى ضربين: نظري وعملي، فهو من جهة يقوّم نقديًّا الشعارات التي يتبناها منظرو حركات الإسلام السياسي، وهي شعارات تختزل بشكل مكثف طبيعة مشروعها الفكري السياسي، ومن جهة أخرى يضع أصبعه على الاختلالات الروحية التي يقع فيها ”الديانيون،“ وذلك من خلال نقد ائتماني، وهذا النقد الائتماني—ربما—كان فيه شيء من القسوة إذ يجعل العمل السياسي للدياني عملاً نفسيًّا غير روحي.
2.1 النقد النظري
يصل الديانيون بين الدين والسياسة ويرفعون عدة شعارات تعبر عن تصورهم لهذه العلاقة وكيف يجب أن تكون، ولعل أهم هذه الشعارات أن ”الإسلام دين ودولة.“ يقول يوسف القرضاوي مستنكرًا الفصل بين السياسة والدين: ”استطاع الاستعمار الغربي الذي حكم ديار الإسلام، أن يغرس في عقولهم وأنفسهم فكرة خبيثة مؤداها: أن الإسلام دين لا دولة. دين بالمفهوم الغربي لكلمة الدين، أما شؤون الدولة فلا صلة له بها“ (القرضاوي 2001، 13). ولكن طه يوجه عدة انتقادات لهذا الشعار، فهو يأتي أولاً رد فعل ضد الشعار العلماني النافي أن يكون في الدين تشريعات دولة، وعلى هذا الأساس فهو يفقد أصالته ويسقط عنه صفة كونه التنظير والفعل المستقل يقول: ”صيغت هذه الحقيقة [أن الأسلام دين ودولة] في قالب يخالف مقتضاها كأن الدين شيء والدولة شيء آخر، والإسلام يجمع بينهما مكمِّلاً أحدهما بالآخر،“ فالشعار يتعارض في صياغته مع واحدة من أهم اليقينيات لدى الديانيين وهي شمولية الدين وجامعيته (القرضاوي 2008، 67)، وهذا بالفعل ما يدل عليه حرف العطف الذي يفيد المغايرة.فإذا اعتبرنا المقصود بالدولة ما يصطلح عليه بأنه سياسة، فإن الشعار يقصي ضمنيًّا السياسة من الدين حين يعطفها عليه، وذلك ما يفيده حرف الواو، بينما نجد في كلام الأئمة الأقدمين رفضًا لمثل هذه الثنائيات، فهم يصنفون في دائرة الشريعة والدين كل ما كان صحيحًا من حقائق ومعقولات وسياسات. يقول ابن قيم الجوزية—على سبيل المثال—”وتقسيم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل السياسة والحقيقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها“ (ابن قيم الجوزية 1998، 4/500).
غير أن أدهى ما في هذا الشعار أنه إذ يبتعد عن الدلالة التداولية العربية لمفهوم الدولة التي تؤدي معنى التداول أو انتقال السلطة من شخص إلى آخر، فإنه يتبنى المفهوم المعاصر للدولة ككيان بحدود جغرافية وتشريعات علمانية وهو ما يوقع فيما سماه طه ”الشبهة العلمانية لمفهوم الدولة،“ وهكذا توحي أن الإسلام نصَّ على نظام سياسي هو الدولة المعاصرة، في حين يرى طه أن الإسلام لم ينص على صيغة تدبيرية في السياسة، بمعنى أنه لم يأت بمشروع سياسي محدد يُلزم جميع المسلمين وصالح لكل زمان ومكان، فضلا عن أن يشرع لهذه الدولة الحديثة التي تتعارض مع مبادئه وهكذا تكون المفارقة مزدوجة؛ فمن جهة ينسب للإسلام تشريع نظام سياسي هو ”الدولة المعاصرة،“ ومن جهة أخرى فإن هذه الدولة التي يعتبرها الديانيون من الإسلام هي دولة علمانية تأسست في سياق تاريخي مخصوص بعيد عن تجربتنا الحضارية؛ يقول طه: إن ”القوانين التنظيمية التي اشتملت عليها الشريعة الإسلامية لم تسطر نظام تدبير بعينه، وجاءت به أمرًا جُمَليًّا غير مفصل، فما الظن بنظام تدبيري صناعي هو ثمرة الفصل بين الدين والسياسة كالدولة الحديثة“ (عبد الرحمن 2012، 343).
الشعار الثاني الذي ما فتئ الديانيون يرفعونه هو أن ”الإسلام دين ودنيا“، وهي ثنائية ليست أجنبية على التراث الإسلامي؛ فالماوردي—مثلاً—استعملها عنوانًا لأحد كتبه ”أدب الدين والدنيا،“ وحين عرّف الخلافة عرفها بأنها ”حراسة الدين وسياسة الدنيا“، ويمكن أن نجد نحو هذا في لغة الفقهاء عامة. ولكن طه يعترض على الشعار والتعريف؛ لأنهما يفتقران إلى الصرامة اللازمة، و وينحاز إلى تعريف ابن خلدون وهو أن ”الخلافة حراسة الدين وسياسة الدنيا به“ الذي يزيد ”به“ التي تُدخل الدنيا تحت سلطان الدين، بل إنه يذهب إلى أن ”حراسة الدين“ نفسها كمهمة دنيوية لا بد أن تكون بالدين.6 يؤكد طه فكرته كالآتي: إن ”حراسة الدين هي نفسها أمر دنيوي يحتاج إلى أن يقوم، هو أيضا، على الدين، بحيث تكون الصيغة الكاملة لتعريف الخلافة هي: حراسة الدين بالدين وسياسة الدنيا بالدين“ (عبد الرحمن 2012، 345).
الشعار الثالث الذي يوجه له طه سهام النقد هو الزعم بأن ”الدولة الإسلامية دولة مدنية.“ فهو يرى أن سبب ابتعاد الديانيين عن ”الدولة الدينية“ هو ما حدث في التاريخ الغربي من قيام الدولة على أساس الحق الإلهي أو ”الثيوقراطية“ مع ما جره ذلك عليهم من ويلات وطوام، وهو أمر لا يستلزم نفي صفة الدينية عن الدولة الإسلامية، الأمر الذي نجد مصداقه في قول القرضاوي: ”لكن نفي الوصف الديني أعني الكهنوتي والثيوقراطي والحكم بالحق الإلهي لا يعني نفي الوصف الإسلامي عنها، فهي دولة مدنية مرجعيتها الشريعة الإسلامية“ (القرضاوي 2001، 109)، أي أن القرضاوي يثبت صفة الإسلامية وينفي صفة الدينية وهو ما يَعيبه طه.
ولكن كيف يحل طه الإشكال؟ يقسم التدبير إلى تدبير نفسي يتوافق مع العقل المسدد باصطلاحه، وتدبير روحي يتوافق مع العقل المؤيد باصطلاحه (عبد الرحمن 1997)، وبناء على هذا لا يمكن أن تؤدي الدولة ذات المرجعية الدينية إلى التسيد والتسلط باسم الدين أو الله، ذلك أنه في المرتبة النفسية يتطلب فهم الدين نفسه دراية بمباحث مثل فهم كلام الله والسياق الذي نزل فيه وأسباب النزول، فضلاً عن معرفة بالواقع وبكيفية إنزال الحكم عليه، ودراية معمقة بالمصالح والمقاصد، وكل هذا يدخل في الاجتهاد العقلي الذي يتنزل منزلة الوسائل من الغايات لكي يتسنى تَمثل المرجعية الدينية في أمثل تجلّ لها. يقول طه: ”يصح أن نقول إنه لا إقامة لوحي إلهي بغير رأي بشري، ولا فهم لنص قدسي بغير معنى زمني“ (عبد الرحمن 2012، 349)، ولهذا دندن دائما حول ضرورة وصل الإيمان بالعقلانية، والقلب بالعقل، والبرهان بالوجدان.7 فهذا التداخل بين البشري والإلهي في الاجتهاد يبطل شبهة الثيوقراطية والكهنوتية ولا يلغي صفة الدينية عن الدولة الإسلامية؛ لأن الاجتهاد هو تفكير في النص الديني وانطلاق منه قبل أي شيء آخر.
أما التدبير الروحي فهو أبعد ما يكون عن الوقوع في التسيد، ذلك أن المتزكي الذي استطاع بعمله التزكوي التعبدي إزالة غشاوة النفس، والتخلص من رغباتها وشهواتها، بما في ذلك حب السلطة، فإنه يرى في عمله التدبيري عبادة أخرى يتقرب بها إلى الله تعالى، ومن كان هذا شأنه فإنه أبدًا لن يخدع الناس باسم الدين أو يتخذه مطية لأغراض مصلحية شخصية، ولن يُسقطه في مثالب الثيوقراطية كما تجسدت في التاريخ الغربي في استغلال الدين من أجل تثبيت الواقع الوسيطي البئيس لأوربا الذي يرزح فيه أغلبية الشعب تحت نير الاستغلال في ظل النظام الفيودالي.8 فـ”بحسب الرتبة الروحية، الدولة الإسلامية دولة لا تتأسس على مبدأ التسيد على الخلق وإنما على مبدأ التعبد للحق“ (عبد الرحمن 2012، 349)، ووهو ما يذكّر بقول رَبعي بن عامر: إن ”الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام“ (ابن كثير 1992، 7/39).
إن شعار ”الدولة الإسلامية دولة مدنية“ يوقعنا في مغالطتين اثنتين؛ الأولى هي مغالطة الفارق التاريخي Anachronisme، ومفاد هذه المفارقة أن نثبت لواقع زمني معين مواصفات كانت من اللامفكر فيه حينئذ،9 فمن المعلوم أن التراث الإسلامي العربي لم يعرف هذا التقسيم إلى ديني ومدني، بل هو خاص بالتجربة الحضارية الغربية، ومن جهة أخرى فهذا التصادم بين المدني والديني ظهر لاحقا على التجربة الإسلامية بقرون متطاولة، فالوثيقة الدستورية الأولى التي سميت ”صحيفة المدينة“ في عهد الرسول—صلى الله عليه وسلم—لم تؤسس للدولة المدنية خلافًا لمحمد عمارة (عمارة 1988، 67–88)، وإنما استبدلت الرابطة القبلية بالأواصر الدينية، وجعلت النبي صلى الله عليه وسلم حاكمًا في الخلافات التي تنشب بين المسلمين وأهل الكتاب.
أما المغالطة الثانية فهي مغالطة الالتباس، فطه ذو المرجعية المنطقية التي تأنف من الوقوع في التناقضات، يلاحظ أن عبارة ”الدولة الإسلامية دولة مدنية“ تحمل ”تناقضًا شنيعًا،“ فمن جهة تحيل ”الدولة الإسلامية“ على واقع الدولة في عصر التأسيس والتي كانت تُسَيّر تبعًا للتوجيه الديني، وإنزال أحكام الشريعة على النوازل المحدثة، أما ”الدولة المدنية“ فهي على العكس من ذلك ظهرت، كما سلف، في سياق تاريخي مغاير ولاحق، ولكن ما هو أساسي أنها شُيدت على سيادة مغايرة لتلك الذي يعتد بها الدين الإسلامي، فالدولة المدنية تقوم على مبدأ الوضع القانوني (عبد الرحمن 2012، 454–461)، بينما الدين الإسلامي يقوم على ”الاختيار الائتماني.“
والخلاصة أن شعارات مشروع الإسلام السياسي تقع نظريًّا في مجموعة من الشبهات مثل الاستمداد من النظرية العلمانية الذي يُفقده أصالته، والوقوع في المفارقة التاريخية بإثبات سمة للإسلام ودولته ظهرت في حقب تاريخية لاحقة عليه.
2.2 النقد الائتماني
ليست الائتمانية نظرية في السياسة، وإنما هي تصور وجودي شامل يؤسس لنظرة إلى الحياة، فهي نظرية إيمانية صلبة تصل العالم المرئي بالعالم الغيبي، فالإيمان بالغيب وببعض ما ترسخ في فطرنا من تواجدنا السابق فيه هو الذي يهدينا في حياتنا، سواء في علاقتنا العمودية مع الله عز وجل، أم في علاقتنا الأفقية مع ”السوى“ و”الأغيار“ بالعبارة الصوفية التي يوظفها طه عبد الرحمن، أو ”الآخر“ بالعبارة الفلسفية المعاصرة، سواء كان هذا الآخر كيانًا إنسانيًّا أو اجتماعيًّا أو طبيعيًّا.
ومفهوم الائتمانية منحوت من الناحية الاصطلاحية من كلمة ”أمانة“ التي وردت في القرآن الكريم، يقول الله تعالى ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب: 72)، وهكذا يصوغ طه صياغة أولية ”الدعوى الائتمانية“ مستندا إلى بعض دلالات هذه الآية الكريمة فيقول: ”إن تمتع الإنسان بحرية الاختيار منذ وجوده في العالم الغيبي يجعله يرجع العمل التعبدي والعمل التدبيري في العالم المرئي إلى أصل واحد وهو الائتمان الإلهي“ (عبد الرحمن 2012، 449). نستشف من هذا التعريف أن الدين والسياسة ليسا مجالين منفصلين، بل بينهما وحدة أصلية، وهذا الأصل هو الأمانة التي حملها الإنسان، فهو عندما يكون في مقام التعبد (الدين) يكون مؤديًا لأمانته التي استأمنه الله عليها، وحين يكون في مقام التدبير (السياسة) فإنه كذلك يكون في مقام عبادة مؤديًا لأمانة أودعه الله إياها. ”إن الأمانة حقيقة واحدة لها وجهان يختلفان باختلاف النظرة إليها، فإذا نظرنا إليها من جهة تعلقها بالعالم الغيبي سميناها تعبدًا، وإن نظرنا إليها من جهة تعلقها بالعالم المرئي سميناها تدبيرًا“ (عبد الرحمن 2012، 449).
ويمكن لنا أن نرى في النظرية الائتمانية ظاهرا وباطنا، أما الظاهر فهو ما يصرح به، وأما الباطن فهو ما يستبطنه، وسيكون علينا نحن، في اجتهاد محض، الكشف عنه. إن للنظرية الائتمانية ركنين هما :
الركن الأول الإيداع الرعائي: فكما سبق، إن أصل الفساد الذي يدخل على العمل السياسي هو النفس التي تنسب الأشياء إليها، ولاتزال تنسب حتى تطغى وتتسيد وتتربب فتطمح لاستعباد الآخرين، وهذا النزوع راجع إلى الجوهر الإلهي الذي ركبه الله في الإنسان. وللتخلص من هذه ”النسبة الذاتية“ لا بد من الاعتقاد في الأمانة الإلهية، فنحن لا نملك ما في حوزتنا وإنما هي ودائع استأمننا الله عليها. يقول طه في صياغة تعريف هذا الركن: ”إن الائتمان عبارة عن إيداع رعاية، بحيث يكون كل ما خلق الله جل جلاله من أجل الإنسان هو عبارة عن ودائع أودعها إياه، يتملكها كيف يشاء، ويتحقق بها كيف يشاء؛ شريطة أن يصون حقوقها“ (عبد الرحمن 2012، 474).
الركن الثاني الاتصال الروحي: يرى طه أن عالم الحداثة الذي لم يسلم من بعض آفاته العالم الإسلامي، يقوم على فصل الأخلاق عن الدين، ولهذا فإن هذه الأخلاق تبقى سطحية غير متأصلة في الذات؛ لأنها كالشجرة التي لم تُسقَ بمائها، وماء الأخلاق هو الدين الذي يرسخها ويزكيها، فهما لا ينفصلان، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تأسيس الأخلاق على غير الدين،10 ومن هنا تأكيده على ضرورة الاتصال الروحي، بمعنى ربط الأخلاق الظاهرة بالباطنة التي تحصل عن طريق الاتصال بالله تعالى فتكون راسخة كشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء؛ لأنها إن لم تكن راسخة انقلبت إلى أضدادها.11 فـ”الائتمان عبارة عن اتصال روحي ينبني فيه التخلق الخارجي على التخلق الداخلي، جاعلاً ظاهر الصلة بالإنسان يزدوج بباطن الصلة بالله“ (عبد الرحمن 2012، 476).
في الواقع تشتبه النظرية الائتمانية بنظرية الفناء الصوفية التي تقوم على نفي الذات الإنسانية والفناء في ذات الله، وذاك هو آخر مقام في مدارج السالك الصوفي، وهذا الفناء التام يجعل المتصوف لا يرى ذاته فضلاً عن أن يرى عمله. يقول القشيري: ”ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار عينا ولا أثرًا ولا رسمًا ولا طللاً يقال: إنه فني عن الخلق وبقي بالحق“ (القشيري 2017، 126). ونجد في ”روح الدين“ استحضارًا لأكثر التصورات الصوفية إيغالاً في العرفانية. ومع أن طه لا يحيل إلى مرجعيته الصوفية إحالة جلية، لكنها بادية في كتاباته وأحواله؛ فقد انتظم في طريقة صوفية (البوتشيشية)، واستحضر ما أشار إليه القشيري بوصفه آخر مرتبة من مراتب الفناء وهي ”الفناء عن نفسه وصفاته ببقائه بصفات الحق. ثم فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق“ (القشيري 2017، 128)، فوراء الفناء مرتبة أخرى هي الفناء عن شهود الفناء، وهو ما يدعو إليه طه من أجل تجاوز آفات النفس. لكن هل يظل الإنسان كما هو حين يصل لهذه المرتبة، وهل سيعود إلى الواقع للتدافع؟ الجواب نجده في إشارة لأحد العارفين أوردها محمد إقبال، يقول هذا العارف: ”صعد محمد النبي العربي إلى السماوات العلا ثم عاد، وأقسمُ بالله لو أنني وصلت إلى هذا المقام فلن أعود أبدًا“ (محمد إقبال 2011، 203).
إن المقاربة الروحية التي يقدمها طه هنا ترنو إلى التخلص من مبدأ النسبة الذي يولد الاستبداد والطغيان والوصول إلى مرتبة أن الله وحده هو الفاعل حقيقة، ولكن هل معنى هذا أن الائتمانية هي إسقاط التدبير؟ إن الشرح السابق هنا يقود إلى الجواب بالنفي، كما أن إثبات طه لطريقتين للتدبير وأن التدبير الديني منغمس في الاجتهاد البشري أيضًا على خلاف الدولة الثيوقراطية يؤكد ذلك بوضوح، ولكن كيف يتجلى النقد الائتماني لممارسات ”الإسلام السياسي“ من خلال تحديده للمبادئ الثلاثة التي يقوم على العمل النفسي؟.
يرى طه أن عمل حركات الإسلام السياسي هو عمل نفسي غير روحي، فهو ليس ثمرة العمل التزكوي، إما لأن هذه الحركات لا تؤمن بجدوى هذا العمل، وإما لأنها متقاعسة عن مباشرته، ومادام هذا العمل نفسيًّا فإن المبادئ الثلاثة التي يقوم عليها هي الاختيار والتعبد والتدبير، تدخلها آفات النفس التي تنتهي إلى التعبد للذات. يقول: ”إن الدياني الذي ينسب تدبيره التعبدي إلى نفسه يتعلق بأفعاله كما يتعلق بأحواله، ولما كان تعلقه بهذه الأفعال والأحول إنما هو تعلق بنفسه، جاز أن تأسره نفسه وتستعبده، فالذي لا ينفك يرى نفسه في أفعاله وأحواله، لا يأمن أن يتعبد لها، شعر بذلك أم لم يشعر“ (عبد الرحمن 2012، 460–461).
ففيما يخص مبدأ الاختيار: كل اختيار يتوسل بالنظر العقلي للتوصل إلى الفعل الأصلح، فالاختيار من الخيرية، أي انتخاب الفعل الأصلح متوسلا في ذلك بالنظر العقلي، من هذا المنظور يرى طه أن الدياني وهو يختار يقع في أسر هاتين الصفتين: ”صلاح الفعل“ و”النظر العقلي،“ وهكذا فهو يتعلق بصفتين إنسانيتين لا اتساع فيهما. فمادام الصلاح والنظر فعلين إنسانيين، فالتعلق بهما هو تعلق بالنسبي، وهذا يتفق مع ما أشرنا إليه سالفا من إلحاح طه على الذهول الروحي عن العمل، إذ يقول: ”إن الدياني المختار يتعلق بالصلاح والفلاح، فقد تعلق [إذن] بصفتين نسبيتين صريحتين“ (عبد الرحمن 2012، 461).
وحين يضفي الدياني صفة الإطلاق على صفتي الصلاح والفلاح قد ينسى نسيانًا أشنع، فيضفي صفة الإطلاق على الذات الموصوفة بها، وهي ذاته، فيقع حينئذ في التعبد للذات ”فينتقل من حال الاستغناء بالصفتين إلى حال طغيان الذات“ (عبد الرحمن 2012، 462)، ولا يخفى أن طه عبد الرحمن في هذا الانتقال من الاستغناء إلى الطغيان يستبطن المعنى المبثوث في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 7). يلخص طه تدرج الدياني من التعلق بالصلاح والفلاح إلى التعبد للذات فيقول: ”إن التعبد للذات الذي يقع فيه الدياني عند الاختيار ليس درجة واحدة، وإنما درجات؛ فقد يتعبد لعقله وصلاحه من حيث تعلقه بهما، وقد يتشوف إلى رتبة فوقها فيتعبد لذاته بوصفها النموذج المطلق لتحقق الصفتين المذكورتين؛ وقد يطمع في رتبة أعلى فيتعبد لها من جهة أنه ينظر إلى عقله على أنه من كسبه“ (عبد الرحمن 2012، 462–463).
وفيما يخص مبدأ التعبد: فإن التعلق بالصلاح والفلاح في العمل التعبدي يتخذ شكلين آخرين هما: التعلق بأعمال الجوارح، والطمع في الأعواض. وتفصيل ذلك أن الدياني يأتي من الأعمال الدينية بجوارحه طامعًا في صلاح حاله في الدنيا ومتشوفًا إلى الثواب الإلهي في الآخرة، ومن ثم فإن تعلقه هنا هو تعلق بالنسبي، وومن ثم فهو يضيق واسعًا؛ إذ ينبغي عليه التعلق بالواسع الذي لا تحد وجوده حدود، والذي يفتح له آفاقًا روحية رحبة. إنه الله جل جلاله.
ولكن كيف يتحول هذا الاستغناء إلى طغيان؟ يباشر الدياني القيام بشاق الأعمال؛ ظنًّا منه أن هذه المشقة هي التي توصله إلى الفلاح، ولأنه يبتغي من وراء إجهاده لنفسه بالأعمال الشاقة نيل الأجر، فإنه يضيف إلى التعبد بشاق الأعمال عبادة الأعواض. وعبادة الدياني ليست عبادة تتوسل بالتزكية الروحية، وإنما هي عبادة نفسية، ولهذا فهي لا تتعدى عمل الجوارح؛ فالدياني ”قد يتشدد في أداء صور العبادات وأشكال المعاملات متتبعًا جزئياتها الصورية فيكون عبدًا لظاهر الأعمال، ولما كان يظن أن هذا النوع المنكشف من الأعمال هو الخليق بأن يوصله إلى أفضل صلاح في العالم المرئي، فقد أضاف إلى استعباد الأعمال الظاهرة له استعباد الظهور العلني بها“ (عبد الرحمن 2012، 464)، وحينئذ يقع في آفات نفسية طاغوتية مثل الرياء وحب الظهور والعجب والكبر، ولكنه ينزل رتبة أخرى وراءها حين يرى نفسه هو الذي كسب هذه الأعمال لا أنها كانت منة من عند الله أو أمانة أودعه الله إياها، وحينئذ يقع في تعظيم الذات والتعبد إليها.
وفيما يخص المبدأ الثالث وهو التدبير: فإن الدياني يتطلع في عمله التدبيري إلى ”الصلاح العام“ متوسلاً بـ”العمل المؤسساتي،“ ولأن العمل الذي يأتيه الدياني ليس ثمرة عمل تزكوي، فإن النفس التي تنسب الأشياء إليها هي التي تنوب عن الروح في الاشتغال، ولهذا فبدل أن يتعلق بالمطلق يتعلق بأشياء نسبية، هي في العمل التدبيري ”العمل المؤسسي“ و”الصلاح العام.“ إلا أن النفس الأنانية لابد أن تتدرج به حتى تنسب إليها العمل، وهكذا بدل الصلاح العام يسعى الدياني إلى صالحه الخاص الفردي الذي يبسط الحديث عنه في صيغة صالح عام. أما العمل المؤسسي فينقلب عملا تأسيسيًّا يبتدئ معه أيضا، وبالتالي يضفي عليه—ومن ورائه على ذاته—الإطلاقية التي تورثه الثبات؛ نظرًا ”لرغبته بأن يضفي على تدبيره صفة الخصوصية“ (عبد الرحمن 2012، 464)، وحينئذ يتنزل منزلة أخرى بإثباته لنفسه صفة الإجلال والعظمة التي لا يستحقها غير الله تعالى، وحتى لا يزاحمه أحد في ذلك قد تحدثه نفسه بادعاء التفويض عن الإله؛ إمعانًا في إقصاء الغير وبحثًا عن مزيد من المشروعية التي تطالبه بها نفسه.أما الرتبة التي وراءها فيعبر عنها طه بقوله: ”إن اعتقاد التفويض يدعوه إلى أن يعجبه حسن تدبيره، وتغره نفسه أيما غرور، فتغريه بأن يزاحم التدبير الإلهي بتدبيره البشري، فيضع من القوانين والأحكام ما يقرر أنه يسد الفراغات والثغرات التي لا تسدها الأوامر الإلهية“ (عبد الرحمن 2012، 466)، وقد ينتهي به الحال إلى ادعاء التربب فيتحكم في العباد. فالأصل في التدبير النفسي هو فرض سلطان الذات على الآخرين وانتزاع الاعتراف بهذه النفس وسيادتها، لهذا قد يرى في نفسه صفة الربوبية التي تمتلك العباد بأجسامهم وأرواحهم وما بين أيديهم.
هكذا يرى طه أن مبادئ العمل الثلاثة، الاختيار والتدبير والتعبد، تنتهي بالدياني الذي يمارس عملا نفسيا إلى الوقوع في التعبد للذات، وأما كيف الخروج من هذه الآفة؟ فإنه يقترح الدخول من باب العمل التزكوي الذي يخرج الإنسان من داعية هواه، وعلى رأسه هوى السلطة، فيزيح حجب النفس ويفتح أفق الروح التي هي بمثابة ذاكرة غيبية تحفظ المعاني الغيبية التي تقي من الوقوع في التعبد للذات والتسلط على الغير.
خاتمة: الإزعاج والمفارقة
عمل طه عبد الرحمن خلال مسيرته الفكرية على تقديم فلسفة دينية ذات منزع صوفي واضح، ولكن بقي التحدي المركزي هو كيف يمكن لمكون—كالمكون الصوفي—يقوم أساسًا على المنزع الفردي أن ينخرط في معالجة إشكال معقد—بحجم سؤال العلاقة بين الدين والسياسة—يقوم أساسًا على فكرة الجماعة وتدبير الشأن العام؟ قد يكون طه وُفّق في بسط فلسفته حين خاطب الفرد، وقدم إسهامًا فكريًا لافتًا حين عالج المسألة السياسية من مدخل صوفي كثيرًا ما اتسم—قبله—بالانعزال والزهد، وهي المعضلة التي نلمسها في ارتباك النظرية الائتمانية عند الحديث عن البديل التزكوي الذي تقترحه وتسميه الإزعاج.
يرفض طه كلاًّ من الطريقتين السلطانية والبرهانية؛ فهو يرفض التغيير عبر السلطان الذي يتخذ صورًا ثلاثة: الثورة والانقلاب والتمرد، ذلك أنها في رأيه تتوسل بالعنف كما أنها تقفز مباشرة إلى السلطة وتتناسى الأصل الذي هو المجتمع، ولا يؤمَن معه أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه؛ ما دام الثائر والمنقلب والمتمرد يطمح للوصول إلى سدة الحكم فقط، أي إلى التسيد على الخلق، يقول: ”لئن كان هدف المقاربة التزكوية هو التحويل الجذري للفرد، فمحال أن تتخذ هذه المقاومة أية صورة من صور المقاومة التي يكون الغرض منها الاستيلاء على السلطة بالقوة لأن هذا الاستيلاء تسيد قاهر“ (عبد الرحمن 2012، 290). ويرفض الطريقة البرهانية، أي تلك السبل الديموقراطية المعاصرة لتصريف الخلاف؛ بدعوى أنها مجرد أقاويل لا عمل فيها، ومن ثم فهي لا تورث وازعًا داخليًّا يقلب الإنسان رأسا على عقب، من التسيد على الخلق إلى التعبد للحق، أضف أنها—كالمقاومة بالسلطان—تتوسل العنف، لكنه عنف لفظي كلامي قد يكون أكثر إيلامًا من العنف المادي كما يشير طه، وهذا ما يتلمسه في الجدالات الصاخبة التي تحدث داخل قبب البرلمانات والمؤسسات التي تجمع السلطة والمعارضة، حيث المزايدات الكلامية التي لا تهدف إلى الإصلاح في حد ذاته بقدر ما تعتمد الخطابة من أجل الحط من الخصم السياسي متبعة في ذلك كل الطرق الخسيسة، كما أن هذه الطريقة هدفها الأخير هو الوصول إلى السلطة، وفي كثير من الأحيان لا تمنع هذه الآليات الحوارية الديموقراطية من اندلاع عنف مادي في المحطات الانتخابية، وطه يرد هذا الفشل في تصريف العنف المادي عبر السياسة إلى الخواء الروحي للفاعل السياسي الذي تقوده النفس بدلالتها الصوفية، أي أن أصل كل الشرور في السياسة وفي كل سلوك إنساني، هو صدوره عن النفس التي تنزع إلى نسبة الأشياء إليها، ولا تزال تسير في هذا السبيل دون تفطن صاحبها حتى يقع في التسيد على الخلق نفسه، ولعل ظهور الأنظمة الشمولية في القرن العشرين من داخل أحشاء ديموقراطيات، تحول فيها بعض الرموز السياسية إلى ديكتاتوريين داخليًّا وغزاة طغاة خارجيًّا، خير دليل على ضرورة ربط التقنين الخارجي بالتزكية الداخلية، بل إن هذا الشكل السياسي قد أبان عن حيدته عن الصواب من أول محك بعد إسقاط الملكيات في الغرب، حيث تنازع الثوار فيما بينهم، وانتهى بهم الأمر جميعًا إلى الموت على المقاصل في مشهد مأساوي، وهذا ما يشير إليه عادة طه من انقلاب المقاصد التي رفعها الفكر الأنواري إلى نقيضها، وهي فكرة أشار إليها كذلك المفكرون المنتمون إلى مدرسة فرانكفورت وغيرهم.
يقترح طه طريقة الإزعاج، وهي ممارسة المتسيد للعمل التزكوي الديني الذي يخرجه من حال تعلقه بهواه—بما في ذلك هوى السلطة—إلى التعلق بالله تعالى، وهو ما يورثه مباشرة حب العدل والحياء من الله التي تجعله ينفر من الظلم. هذه هي وصفة طه لمقاومة الاستبداد؛ ولكن ماذا نفعل حين يرفض المستبد الانزعاج؟ لا نكاد نعثر على جواب لهذا السؤال، وهي إحدى الثغرات في فكره رغم محاولاته سد بعضها بإيراد بعض الاعتراضات والرد عليها.
والحال أنه قد ينطبق على هذه الرؤية للعلاقة بين الدين والسياسة ما قاله محمد موسى عن فلسفة الغزالي وهو ”أن مذهبه ليس مذهبًا يقوم عليه الاجتماع“ (موسى 1998). إنها ناجعة لمن يريد أن يزكي نفسه بمحض إرادته، وهو ما لا يأبه له عادة الطغاة، لكن يلزم بموازاتها فلسفة أخرى اجتماعية للتغيير السياسي، وقد أثبتنا أعلاه أن الفلسفة الائتمانية هي فلسفة يغلب عليها المنزع الفردي؛ لأن طه انتقد—كما سبق—التصورات التي تغيّب البعد الفردي في معالجتها للمجتمع؛ فالمجتمع هو مجموع أفراده، والأهواء مترسخة في نفوس الأفراد وهي جذر الإشكال الذي يتخذ صيغًا سياسية ومؤسسية في نهاية الأمر وفق رؤيته. ولكن يبقى السؤال هل يكفي الإزعاج لتغيير المجتمع ونقله من حالة الاستبداد إلى نظام عادل؟
بالدلالة التي أضفتها على المفهوم. انظر: (Debray 1981).
”الفكرانية“ هي المقابل الذي يستعمله طه عبد الرحمن لمفهوم ”الإيديولوجيا.“ يقول: ”لقد غلب على الاستعمال لفظ الإيديولوجيا الذي أخضعه البعض لمقتضى الصرف العربي فقال: أدلجة وأدلوجة، غير أن تعريب هذا اللفظ على هذا الشكل لا يَلبث أن ينقل إليه المعنى اللغوي الذي يقترن بالمادة (دلج) والذي يُفيد معنى السير في الليل، مما يجعل هذا المفهوم معرضًا لأن يحمل معنى قدحيًّا لا يليق ببعض المنازع الإيديولوجية النافعة، لذا آثرنا اشتقاق المصدرالصناعي: فكرانية؛ بالقياس على صيغة عقلانية“ (عبد الرحمن 1993، 24–25). وأشير هنا إلى أن الذي عرّب مفهوم الإيديولوجيا بأدلوجة هوعبدالله العروي في كتابه ”مفهوم الإيديولوجيا“ وقبله في كتابه ”الإيديولوجيا العربية المعاصرة.“
يقر الباحثون اللا أدريون في أوربا اعتمادًا على أبحاث أنتربولوجية أن البنية الدينية هي نزعة أصلية في الإنسان ملازمة له دومًا. انظر: (Luc Ferry 2004, 60–64).
يشير طه في موضع آخر إلى أن حب السلطان هو النقل النفسي للحب الروحي للربوبية، ما يوحي بأنه يرى أن العمل السياسي هو قلب للفطرة الروحية، يقول: ”إن حب السلطان من حب الربوبية، إلا أنه منقول—بواسطة النفس—عن أصله الفطري“ (عبد الرحمن 2012، 112).
يطلق طه عبد الرحمن على ما يسمى ”الإسلام السياسي“ اسم ”الدياني.“
لعل طه عبدالرحمن قد وقف على بعض الدراسات هنا في بلده المغرب التي تجعل من ”حراسة الدين“ إحدى الأفكار التي تسربت من الأدبيات الفارسية إلى الفكر الإسلامي. هذه العبارة وردت في ”عهد أردشير“ الحاكم الذي كان يعرف دور الدين في ثورته، ولهذا اتخذ من ”حراسة الدين“—أي مراقبته وضبطه حتى لا يتم توظيفه في ثورات أخرى مضادة—أحد أهدافه السياسية، ولهذا ألح طه على حراسة الدين بالدين، لا أن تكون حراسة الدين خطة أو استراتيجية سياسية. حول تحليل عبارة ”حراسة الدين“ وجذورها الفارسية، يقول الجابري: ”لقد كان طبيعيًّا أن يُحذّر أردشير خلفاءه من بعده من رجال الدين، فلقد كان ملكه يدين لتحالفهم معه؛ إذ لولا هذا التحالف لما استطاع القضاء على الملوك [السابقين] وبناء دولة موحدة قوية، وكان يدرك أنه إذا لم ينصب نفسه حارسًا للدين وبالتالي متحكمًا في رجال الدين فإنه سيبقى تحت رحمتهم“ (الجابري 2001، 160–161).
انظر دراسة مستفيضة عن علاقة العقل بالقلب، والعقل بالخلق، والعقل بالشرع، والعقل بالوحي، والعقل بالإيمان في: (عبد الرحمن 2012ب، 69–110).
”ظهرت كلمة فيودالية في فرنسا في بداية القرن 17 للدلالة على كلف الإقطاع وصبغته القانونية، أي ما تبقى من عناصر النظام الاقتصادي والقانوني الوسيطي“ (حبيدة 2010، 23).
من أشهر من وظف ”المفارقة التاريخية“ لإبراز التناقضات، الفيلسوف الهولندي سبينوزا في كتابه ”رسالة في اللاهوت والسياسة.“ يقول مترجم الكتاب إلى العربية: ”الاضطراب الزمني Anachronisme هو الوسيلة التي يتبعها سبينوزا في التعرف على زمن كتابة الرواية والشك في نسبتها إلى مؤلفها المعروف“ (سبينوزا 2005، 27).
يتقاطع هنا طه عبدالرحمن مع ما يذهب إليه الفيلسوف الرئيس علي عزت ببيجوفيتش، فهذا المفكر لا يستبعد أن يكون الملحد متخلقًا، أما الإلحاد كنظرية وجودية مادية فلا يمكن أن تعترف بما هو جواني عمومًا، والأخلاق على وجه الخصوص. إن المرجعية المادية تؤمن بالكفاءة والصراع والانتخاب الطبيعي وغيرها، وهيكلها مبادئ مادية لا تنسجم مع الأخلاق ولا تؤدي إليها. انظر فصلاً بعنوان ”الأخلاق“ وبالخصوص مسألة ”الأخلاق بدون إله“ في: (بيجوفيتش 1994، 207–218).
لاحظ مفكرو مدرسة فرانكفورت الألمانية التي ظهرت في سياق تنامي الأنظمة الشمولية الغربية (النازية، الفاشية، الستالينية)، أن القيم الأنوارية—نسبة إلى فلسفة عصر الأنوار—قد انقلبت عبر التجربة التاريخية الغربية إلى نقيضها. انظر مثلاً كتاب ”أفول العقل“ للفيلسوف هوركهايمر (Horkheimer 1974, 197).
المصادر والمراجع
ابن خلدون. [د.ت]. مقدمة ابن خلدون. تحقيق علي عبد الواحد وافي. القاهرة: دار نهضة مصر.
ابن كثير. 1992. البداية والنهاية. بيروت: مكتبة المعارف.
إقبال، محمد. 2011. تجديد الفكر الديني في الإسلام. ترجمة: محمد يوسف عدس. بيروت: دار الكتاب اللبناني.
بلقزيز، عبد الإله. 2011. الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
بيجوفيتش، علي عزت. 1994. الإسلام بين الشرق والغرب. ترجمة محمد يوسف عدس، الكويت: مجلة النور الكويتية.
الجابري، محمد عابد. 2001. العقل الأخلاقي العربي:دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
الجابري، محمد عابد. 2000. العقل السياسي العربي:محدداته وتجلياته. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
الجوزية، ابن قيم. 1998. إعلام الموقعين عن رب العالمين. بيروت: دار الجيل.
سبينوزا. 2005. رسالة في اللاهوت والسياسة. ترجمة وتقديم حسن حنفي، الجيزة: مكتبة النافذة.
عبد الجبار، فالح. 2017. دولة الخلافة:التقدم إلى الماضي(داعش والمجتمع المحلي في العراق). بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
عبد الرازق، علي. 2000. الإسلام وأصول الحكم. دراسة ووثائق محمد عمارة. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
عبد الرحمن، طه. 1997. العمل الديني وتجديد العقل. بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2014. بؤس الدهرانية:النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
عبد الرحمن، طه. 1993. تجديد المنهج في تقويم التراث. بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2012. روح الدين:من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية. بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2012 (ب). سؤال العمل:بحث عن الأصول العملية في العلم والفكر. بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2000. سؤال الأخلاق:مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. بيروت: المركز الثقافي العربي.
عمارة، محمد. 1988. الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية. بيروت: دار الشروق.
الغزالي، أبو حامد. 2011. إحياء علوم الدين. جدة: دار المنهاج.
الغزالي، أبو حامد. 2011. المستصفى من علم الأصول. تحقيق: محمد تامر. القاهرة: دار الحديث.
القرضاوي، يوسف. 2008. الدين والسياسة. القاهرة: دار الشروق.
القرضاوي، يوسف. 2001. من فقه الدولة في الإسلام. القاهرة: دار الشروق.
القشيري. 2017. الرسالة القشيرية في علم التصوف. بيروت: دار المقطم.
المودودي، أبو الأعلى. 1981. الخلافة والملك. تعريب: أحمد إدريس. الكويت: دار القلم.
موسى، محمد يوسف. 1998. فلسفة الأخلاق في الإسلام. القاهرة: مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع.
Comte-Sponville, André. 2006. L’ esprit de l’ athéisme: Introduction à une spiritualité sans dieu. Paris: Albin Michel.
Debray, Régid. 1981. Critique de la raison politique. Paris: Gallimard.
Durkheim, Emile. Les règles de la méthode sociologique. Paris: PUF.
Ferry, Luc. 2004. Le religieux après la religion. Paris: Gracet.
Hallaq, Wael. 1997. A History of Islamic Legal Theories: An Introduction to Sunni Usul al-Fiqh. Cambridge: Cambridge university Press.
Hallaq, Wael. 2013. The Impossible State: Islam, Politics, and Modernity’s Moral Predicament. New York: Columbia University Press.
Horkheimer, Max. 1974. Eclipse de la raison. Paris: Payot.
Mouffe, Chantal. 2005. On the Political. London: Routledge.
Ramadan, Tariq. 2008. Islam, La réforme radical: Ethique et libération. Paris: Edition Archipoche.