مقدمة
حاولت الحداثة الغربية تأسيس أخلاق عقلانية لا دينية، فقَطَع العقل مع الماورائي وفُصلت الأخلاق عن الدين، ولكن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن حاول تأسيس فلسفة أخلاقية إسلامية حديثة تعارض نظيرتها الغربية المرتكزة على الفصل بين الديني والأخلاقي. وقد تمّ له هذا عبر نقده لمسألة علمنة الأخلاق والتصور المادي للحداثة الغربية. وفي هذا الإطار، صاغ طه عبد الرحمن مفهوم ”الائتمانية“ على الشكل الآتي: ”إن تمتُّع الإنسان بحرية الاختيار—منذ وجوده في العالم الغيبي—يجعله يُرجع العمل التعبّدي والعمل التدبيري في العالم المرئي إلى أصل واحد هو الائتمان الإلهي“ (عبد الرحمن 2012أ، 449). بهذا المبدأ يحاول طه الخروج من الفصل بين الديني (عالم التعبد) والسياسي (عالم التدبير)، أو بين العلمانية والدين. فالائتمانية تتخذ طريقا آخر يصبح فيه للتعبد والتدبير أصل واحد هو الأمانة. والفلسفة الائتمانية عند عبد الرحمن مؤسسة على ”العقل المؤيد“ أو العقل الصوفي في مقابل أي فلسفة علمانية مؤسسة على ”العقل المجرد“ أو العقل العلمي الحديث. وهذا التأسيس من شأنه أن يُمكِّن هذه الفلسفة من تَجنُّب شطط العقل المجرّد ومن حواجز العقل ”المسدد“ (عبد الرحمن 2014، 14)1 أو العقل الديني السلفي. ويمكن تحديد الفلسفة الائتمانية بثلاثة مبادئ: مبدأ الشهادة الذي يحدِّد بدوره هوية مؤيدة للإنسان ومرتكزة على مبدأ الغيرية، ومبدأ الأمانة الذي يحرر الإنسان من روح التملك، ومبدأ التزكية الذي بموجبه يحاول الإنسان تحقيق القيم الأخلاقية ابتغاء مرضاة خالقه (عبد الرحمن 2014، 15–16).
وفي إطار اعتراضه على الحداثة الغربية، يوجّه طه سهام نقده على الخصوص إلى النظام العلمي-التقني، الذي قطع مع التصور الديني والأخلاقي للعالم. ولكن إذا كانت معارضة الحضارة الغربية عند المنطقي المغربي تأخذ حيزاً رئيساً في نقده الائتماني، حيث تبدو ”حضارة ناقصة عقلاً وظالمة قولاً ومتأزمة معرفةً ومتسلِّطة تقنيةً“ (عبد الرحمن 2006ب، 145)، فإن نقده للنظام العلمي-التقني يظل مرتبطًا بالنقد الغربي، رافضًا له حيناً ومُكمِّلاً لنقصه حيناً آخر. وقد دأبت الدراسات المهتمة بالفكر الأخلاقي الغربي على تقسيم نظرياته إلى ثلاث فئات كبرى: أخلاق الفضيلة، وأخلاق الواجب، وأخلاق المنفعة. وإذا كانت الفئة الأولى موجهة نحو فكرة الخير، والفئتان الأخريان تأخذان بعين الاعتبار فكرة العدل في الحكم على أخلاقية فعل معين، فهل من مكان لنسق الائتمانية بين هذه النظريات فيما يخص المجال العلمي الحديث ومعضلاته الأخلاقية؟ هذا ما سنحاول بحثه في هذا الفصل.
إنّ نسق الائتمانية مفادُه أن هوية الإنسان هوية دينية بالأساس، فطه يؤكد أنه ”لا إنسان بغير دين“ (عبد الرحمن 2006ب، 149)؛ ممّا يعطي الإنسان بعداً أنثروبولوجياً مُوجَّهاً إلى الحياة الدينية؛ لأن وجوده في ذاته يتوقف على الدين. فلا فرق عند طه بين العقل من جهة، والشرع والقلب والحس من جهة ثانية. بل هو يرفع هذه الفروق إلى مرتبة موانع معرفية تحول دون قيام فلسفة أخلاقية إسلامية. وإذا كان الفصل بين العقل والشرع نتيجة لفصل الفكر اليوناني بين اللوغوس والميثوس، فإن طه يقدم طرحاً آخر مفاده: ”أن يكون العقل شرعاً يتلقاه الإنسان من الداخل وأن يكون الشرع عقلاً يتلقاه الإنسان من الخارج“ (عبد الرحمن 2006ب، 151). فالفصل بين العقل والقلب هو المسؤول، بنظر طه، عن تشييء العقل وتفقيه ممارسة الشعائر الدينية في الإسلام.2 أما الفصل بين العقل والحس فقد كان سبباً في تقديس العقل إلى حد التأليه، أو ما يسمّيه طه ”الوثنية العقلانية“ (عبد الرحمن 2006ب، 155). يستعين طه في طرحه هذا بالمرجعية الدينية مرتكزًا على عدة آيات لتأكيد الصلة بين العقل والحس (عبد الرحمن 2006، 154)، ويستقي أسس نظريته الأخلاقية في نسق الائتمانية من حوادث تؤثث المخيال الإسلامي، يجمع من خلالها بين العقل من جهة والشرع والحس من جهة أخرى،3 ليقترح أخلاقاً إسلامية على المستويين المعرفي والثقافي، تُطهر وتؤهِّل من يأخذ بها، وتكون قادرة على تقديم حلول للمعضلة الأخلاقية في ميدان العلم الحديث.
يعالج هذا الفصل إذن نسق الائتمانية عند طه ومكانته بين النظريات الرائجة لحلِّ المعضلات الأخلاقية التي يطرحها العلم الحديث في تطبيقاته الحالية من خلال ثلاثة محاور: ينظر الأول في النقد الائتماني ومدى تناغمه أو اختلافه مع النظريات الأخلاقية الرائجة في المجال العلمي-التقني. ويحاول المحوران الثاني والثالث تطبيق نسق الائتمانية على مجالين: البيئة وضرورة الحفاظ عليها للأجيال الحالية والمقبلة، وأخلاقيات علم الأحياء، وتحديدًا ما سمي الموت الرحيم. والهدف المتوخى هو إبراز منطق الائتمانية الأخلاقي في الحكم على أفعال تضاربت فيها الآراء وفق النظريات الأخلاقية السائدة.
1 النقد الائتماني للنظام العلمي-التقني
في إطار نقده للحداثة الغربية، اختار طه عبد الرحمن نقد مفهومَي العولمة والأسرة الغربية4 باعتبارهما المفهومين الأكثر تضررًا (عبد الرحمن 2006أ، 74) من التعقيل الأداتي والتفصيل البنيوي كعنصرين أساسيين لمبدأ النقد.5 فالعولمة تخضع لثلاث سيطرات: سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية، وسيطرة التقنية في حقل العلم، وسيطرة الشبكة في حقل الاتصال (عبد الرحمن 2006أ، 78). بهذه الأنواع الثلاثة من الهيمنة والعولمة جرى تبسيط العالم وتحويله إلى حقل واحد من العلاقات بين الأفراد والمجتمعات. في السيطرة الأولى، يحمِّل طه عبد الرحمن الشركات الدولية مشاكل المجتمعات المعاصرة. ذلك أن هذا الجانب المادي للاقتصاد الحالي أخلَّ بما يسميه مبدأ التزكية الذي يُفترض أن يصلح حال الإنسان المادية والمعنوية (عبد الرحمن 2006أ، 80). أما سيطرة التقنية في حقل العلم فتعني اعتماده الكلي على التقنية. لكنّه باتِّهامه أربابَ العولمة وأخلاقهم بتقديس العلم وتأليه التقنية على نحوٍ أخلَّ بمبدأ العمل، لا يخرج طه عن إطار طرح ماكس ڤيبير ويورغان هابرماس للعقلانية العلمية-التقنية المحايدة والصورية واللااجتماعية التي ”تمثل مصلحة الجنس البشري، مصلحة معرفية-آلية تتفوق على كل القيم المحددة الخاصة بمختلف الفئات الاجتماعية“ (Feenberg 2004, 141).
هذه التشوهات التي تسببها العولمة يجب أن تعالج بأخلاق من خارج نظام العولمة الذي أنتجها، وإلا قام النظام نفسه بتذويبها. إنها أخلاق ينبغي أن تأتي من مصدر أقوى من النظام، وأن تكون أخلاقاً كونية. وحده الإسلام، حسب طه، يستطيع توفير مثل هذه الأخلاق.6
ويراجع طه عبد الرحمن التطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول من خلال تطورين: الأول يخص مفهوم المواطنة الذي ينبغي أن يرتقي إلى مفهوم المؤاخاة، والثاني يتعلّق بمفهوم التضامن الذي ينبغي أن يرتقي إلى مفهوم التراحم. فيما يخص مفهوم المواطنة فيرى أنه لا يمكن أن يرتقي إلى المؤاخاة إلاّ من خلال اعتماد أخلاق الإحسان الإسلامية كمرحلة أخيرة من التجربة الروحية الدينية (عبد الرحمن 2006أ، 223) المستمدة من العقل المؤيد (العقل الصوفي عند طه). وهذا الارتقاء يقوم على مبدأين: الإخلاص في مواجهة الظلم ضد النفس وضد الآخر (عبد الرحمن 2006أ، 223–224)، والأمة لتحقيق ماهية الإنسان من خلال البحث عن الخير للبشرية وحمايتها (عبد الرحمن 2006أ، 227). على هذا النحو يعطي طه مفهوم الأمة بعداً كونياً يجعله مفهوماً حديثاً، ويصوِّر أعضاءها أفراداً في سعيٍ دائمٍ إلى تحقيق الخير للبشرية. وفيما يخص مفهوم التضامن يستعير طه من المعجم القرآني فكرة تطور التضامن إلى تراحم لتأسيس هذا التطور على مبدأ رأفة المخلوقات بعضها ببعض على الرغم من اختلافاتها؛ تخلّقاً بإحدى صفات الخالق وهي ”الرحمن“ (عبد الرحمن 2006أ، 244). وعليه، يوسع مفهوم التضامن إلى التراحم تجاه الآخر الذي يشمل الإنسان وكلَّ ما حوله من مخلوقات وأشياء. وهكذا تكون قيمة الإنسان والوجود محمية (عبد الرحمن 2006أ، 252–253). وبناء على ذلك، فإن طه الذي يرى أن فكرة ”الحداثة في الغرب“ هي مجرد تطبيق غربي لروح الحداثة، يحاول تجاوز الحداثة الغربية بالتغلب على العلاقات المادية عبر تأسيسها على قيم أخلاقية مستمدة من نموذج إسلامي يريد له أن يكون كونياً.
بالنسبة لطه، فإن هدف العلمانية التي تمّ تتويجها في الغرب بفضل العلم الحديث، هو إقامة أخلاق مستقلة عن الدين؛ استقلالاً متعدد الأشكال، وهذه الأشكال تواجه ”الآمريةَ الإلهية“ برفضٍ ينتقده طه واصفاً الفكر العلماني بالبؤس والفحش (عبد الرحمن 2014، 71)، وبـ ”الجهل بالقدْر الالهي“ المتمثل في تصورات أربعة لعلاقة الإله بالإنسان.7 ويرفض فكرة وجود الإله خارج الذات الإنسانية كما هي في التصور الخارجي لعلاقة الإله مع الإنسان، مؤكداً أن هذه الفكرة الخاطئة شائعة بين العلمانيين (عبد الرحمن 2014، 72).8 وانطلاقاً من رؤيته الصوفية للوجود، يرفض طه ما قام به الفكر العلماني من فصل الدين عن الأخلاق على أساس تلك التصورات الأربعة، ويقدم تصورًا يدمج الدين والأخلاق على أساس النموذج الائتماني بمبادئه الأخلاقية الخمسة التي تؤكد جميعها أن ”الآمرية الإلهية“ هي أساس وجود القواعد الأخلاقية، وهذه المبادئ هي: (1) مبدأ الشاهدية، وبموجبه يشهد الإلهَ (أي يأمر ويرى) ما ظهر من أعمال الإنسان وما بطن، والشاهدية هي أساس الأخلاق؛ (2) الآياتية، وتتحدد بها العلاقة بين الدين والدنيا بوصفها سلسلة متصلة من الآيات وليس من الظواهر، أي أن الدين قادر على إدارة البشرية (وليس فقط الإنسان أو المجتمع) على أساس أخلاقي بقصد حمايتها (عبد الرحمن 2014، 97)؛ (3) الإيداعية التي تفترض أن الأشياء كلها ليست إلا ودائع الإله عند الإنسان—ويتعارض هذا المبدأ مع فكرة الملكية (عبد الرحمن 2014، 100)—ويصير الإنسان مسؤولاً أمام الإله عن العالم الذي حوله مع إعطاء الأولوية لحقوق العالم على حقوقه؛ (4) الفطرية، وتعني أن الأخلاق مأخوذة من فطرة الإنسان التي تحافظ على صورة الدين الأولى والنقية التي من شأنها أن تتغير في الواقع الزمني (عبد الرحمن 2014، 101)؛ وخلافًا للحجة العلمانية، فإن الصورة الفطرية وأخلاقها ليست في حكم المفقود (عبد الرحمن 2014، 102)، بل يمكن استرجاعها. ويضيف طه أن هذه المهمة لا تهم جميع أفراد المجتمع بل نخبة منه (عبد الرحمن 2014، 103)،9 هي القادرة على إنتاج أخلاق الفطرة في الواقع الاجتماعي؛ (5) الجمعية، وبموجبها يُعرَّف الدين على أساسٍ كُلّي من خلال مستويين: الأول من خلال صفات الإله التي لا تصلح لتعريف الذات الإلهية فقط، بل هي أيضا تجليات كونية تغطي مجموعة من القيم والمعاني هي مصدر للأخلاق التي يحتاجها الإنسان، والثاني: من خلال الأحكام المنزّلة التي ليست مجرّد أوامر دينية يجب احترامها، ولكنها أيضا آيات تكليفية متعلقة بمقاصد أخلاقية وآفاق روحية (عبد الرحمن 2014، 104). ووفقًا لهذا الرأي، لا يستعيد الإنسان إنسانيته الكاملة وروحانيته غير المحدودة إلا من خلال هذه المبادئ الخمسة، ولا يمكن بلوغ هذا الهدف من خلال الأخلاق العلمانية وفصل العلم عن الأخلاق.
يواصل طه انتقاده للتصور المادي للحداثة الغربية مفترضاً أن الفلسفة الغربية عالجت العلاقة بين الأخلاق والدين من خلال ثلاثة تصورات: تبعية الأخلاق للدين، وتبعية الدين للأخلاق واستقلال الأخلاق عن الدين (عبد الرحمن 2006ب، 31).
في التصور الأول، يؤسس مؤيدوه تبعية الأخلاق للدين على نقطتين: الإيمان بالإله، وإرادة الإله. ويُفْهَم أن طه عبد الرحمن لا يرفضه بل يدافع عنه بمشاعر صوفية أكثر وضوحًا (عبد الرحمن 2006ب، 32–33). في التصور الثاني، تستند تبعية الدين للأخلاق على مبدأ ”الإرادة الخيِّرة للإنسان“ (عبد الرحمن 2006ب، 35) عند كانط، على أن ما يرفضه طه عبد الرحمن في الفكر الكانطي هو استقلال الأخلاق عن السياق الديني وعلمنتها بفصلها عن الدين؛ إذ يرى أن ما فعله كانط لا يتعدّى الاستعاضة عن المفاهيم المنتمية إلى المجال الديني بأخرى من خارجه، كـ ”العقل“ محل ”الإيمان“، و”الإرادة الإنسانية“ بدلاً من ”الإرادة الإلهية،“ و”احترام القانون“ مكان ”محبة الإله،“ الخ، وأقام مقايسة بين الأخلاق الدينية وأخلاق الواجب؛ لوجود تشابه مقصود أو مرغوب بين الأحكام الدينية والمعاني والأحكام الأخلاقية (عبد الرحمن 2006ب، 39).
وبخصوص التصور الثالث، أي استقلال الأخلاق عن الدين، يعود طه إلى ديفيد هيوم وقانونه الأخلاقي (عبد الرحمن 2006ب، 41)، فيسجل عليه مأخذَين هما: إخراج الأحكام الدينية من الأحكام الأخلاقية، وإعلان الأحكام الدينية غيرَ مناسبة لوضع الأحكام الأخلاقية. فهيوم يرى أن الدين مجرد نظرية حول الماورائيات، في حين أن طه يرى أنّ الدين مؤسسة تتضمّن ”مجموعة الأحكام والمعايير التي تحدد كيفيات العمل من أجل تلبية حاجات معينة“ (عبد الرحمن 2006ب، 44)، ولذلك يجب أن يكون الدين أخلاقياً؛ لأنه مصدر كل حس أخلاقي (عبد الرحمن 2006ب، 46). بل إنه لا يمكن فصل الخير الديني عن القيمة الأخلاقية؛ لأنها ليست علمية، ولكنها ذات طابع عملي يبحث عن معنى الخطاب الديني (عبد الرحمن 2006ب، 49). فـ”الدين والأخلاق شيء واحد، فلا دين بغير أخلاق ولا أخلاق بدون دين“ (عبد الرحمن 2006ب، 52). وباختصار، إذا كانت الحداثة، خاصة مع كانط، قد حاولت تأسيس أخلاق لا دينية، فإن طه يؤكد أنّها لم تفعل سوى إلباس الأخلاق الدينية لباسًا لا دينيًّا باستعمال معجم علماني. وبذلك تمّ القطع مع الماورائي والفصل بين الأخلاق والعلم. من هذا المنظور، وجّه طه سهام نقده للنظام العلمي-التقني، الذي فصل بشدة بين الأخلاق والدين (عبد الرحمن 2006ب، 23–113). على أنّه في نقده لهذا النظام لا يبتعد عن النقد الغربي له، كنقد ماكس فيبير وهربرت ماركوز، ومن بعدهما الثلاثة: هانز يوناس وكارل أوتو آبل ويورغن هابرماس10، الذين سيكرس صفحات للاعتراض على أطروحاتهم في نقد النظام العلمي-التقني.11
يؤكد طه على أهمية مساهمة فكر هانز يوناس في نقد النظام العلمي-التقني من خلال المسؤولية المتصلة بالخوف، لصياغة مبدأ ”الأمر المطلق“ الخاص بالبيئة.12 ويضيف طه أن مبدأ المسؤولية تمكّن من إعادة تنشيط المصالحة بين الحداثة الغربية والأخلاق الدينية التي يرفضها النظام العلمي-التقني، في إشارة إلى مبدأين يعدّهما طه من مبادئ الأخلاق الإلهية: مبدأ تعظيم الخلق ومبدأ الاستخلاف (عبد الرحمن 2006ب، 125)، لكنه ينتقد يوناس لعدم تضمينه للآخرة في مبدئه، ولتوقفه عند حدود مستقبل الإنسانية المهدد. في حين أن المستقبل، بنظر طه، لا يخيف الإنسان بل إن ما يلاحقه هو ديناميكية الثواب/العقاب في الآخرة (عبد الرحمن 2006ب، 125).
يبدو أن عبد الرحمن يحمِّل طرح يوناس مفردات دينية لا يتحملها؛ إذ يصعب أن نُدرج في فكر يوناس رؤية دينية، على الأقل كما يتصوره طه. والمثال الواضح هو مفهوم الإله عند يوناس؛ إذ يقول فيلسوف البيئة: ”إن هذا الإله ليس إلهاً قادراً على كل شيء!“ (Jonas 1994, 27)، لأنه لم يستطع أن يأمر بمنع المحرقة. ونموذج هذا الإله الذي يحتاج إلى مساعدة البشر في أطروحة يوناس لا يمكن أن يكون نموذج الإله الذي يبتغيه مشروع طه الفكري المتجسّد في نسق الائتمانية.13 ولكن ماذا عن الإمكانات التطبيقية للفلسفة الائتمانية؟ هذا ما سنركز عليه فيما تَبَقى من الفصل من خلال معالجة مسألتين تطبيقيتين.
2 حماية البيئة من منظور أخلاقي
من المعلوم أنّ نظام التنمية الاقتصادية التقليدي له فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة، لكنه يواجه اليوم تقييدات بفضل فكرة حماية البيئة والفعاليات المرتبطة بها، وهذا ما يدفع—على سبيل المثال—إلى المفاضلة بين اختيار استغلال الوقود الأحفوري وتطوير الطاقات الخضراء؛ الشيء الذي يضع صنّاع القرار أمام معضلة أخلاقية تملي علينا الاختيار بين التقدم الاقتصادي كما يعرفه المجال التداولي للطاقة اليوم، وحماية البيئة كواجب أخلاقي. ويبدو أن المجتمع الدولي يجد نفسه في طريق مسدود أمام معضلة الاختيار بين الاقتصاد والبيئة، ومعضلة عدم اتخاذ موقف ينحاز إلى واحد من هدفين متناقضين لحدّ الآن.14 من جهة أخرى يبدو أنّ الأجيال القادمة هي المعنية أساساً بتدهور الوضع البيئي، ومن هنا يُطرح السؤال حول ما إذا كان على أبناء الحاضر مسؤولية أخلاقية تجاه أبناء المستقبل ومن يحددها؟ لنرَ إذن ما يمكن أن تقدمه النظريات الأخلاقية من أجل فهم هذه المعضلات التي يطرحها الحفاظ على البيئة وقد صار محط اهتمام الفلسفة الأخلاقية منذ ستينيات القرن الماضي.15
2.1 حماية البيئة في النظريات الأخلاقية الرائجة
سبق أن أشرنا إلى ثلاث فئات أو نظريات أخلاقية سائدة هي: النفعية وأخلاق الواجب وأخلاق الفضيلة. فأخلاق المنفعة تستند أساسًا في بناء أحكامها على نتائج الفعل؛ بمعنى أن القيمة الأخلاقية للفعل تعتمد على عواقبه وليس على نية أو طبيعة الفاعل. ووفق نفعية جيريمي بنتام، يكون الفعل مقبولاً من الناحية الأخلاقية إذا زاد من سعادة أكبر عدد من المعنيين به، وقلّل من معاناتهم. فالنفعية هي ”المبدأ الذي يوافق أو لا يوافق على أي إجراء من أي نوع؛ وفقًا للاتجاه الذي يبدو أنه يزيد أو يقلل من سعادة الشخص أو الأشخاص الذين تكون مصالحهم على المحك“ (Audard 1999, 209)، وهي رؤية تعبر عن الحد الأدنى من الأخلاق، ولا تُملي سلوكًا أخلاقيًّا معيّناً على الآخرين، وتتجنب حالة الأبوية بالنسبة للدولة حتى لا تملي رؤيتها على المواطنين.
وإذا ما نقلنا هذه الفكرة إلى مجال البيئة، سيكون من الأخلاق الامتثال لمبدأ الحفاظ على البيئة من أجل تأمين حياة أفضل للأجيال القادمة؛ لأنها أولا أكثرية (إذا أخذنا في الاعتبار أن الإنسانية في تزايد مستمر) ومعنية بالأمر (أي أنّ مصالحها على المحك بتعبير بنتام)، وثانيًا، لأنها كائنات حساسة وجب تجنيبها المعاناة والزيادة في سعادتها من خلال الحفاظ على البيئة في الوقت الحالي.
أما أخلاق الواجب فستسلك مسلكًا آخر تجاه الحفاظ على البيئة، فما دامت الأجيال المقبلة كائنات مستقلة، فإنّه يحظر أي فعل يؤدي إلى تقويض استقلالها أو يُعيق تطورها.ويتعدى الحفاظ على البيئة، في عرف النفعيين والكانطيين، الإنسان إلى الحيوان؛ فوَفقاً للنفعيين: ما دامت الحيوانات كائنات حساسة تشعر بالسعادة والشقاء، فقد وجب أخذها بعين الاعتبار.16 ووفقًا لأخلاق الواجب، فبالرغم من أن كانط يعتقد أن الحيوانات مجرد أشياء، فإنه يؤكد على وجود واجبات على الإنسان تجاه الحيوانات؛ بقدر ما يمكن أن تؤثر معاملتها على واجبات الإنسان تجاه الإنسان.17 أمّا الفيلسوف الكانطي المعاصر توم ريغن فقد ذهب إلى أن الحيوانات كالبشر، تعيش حياتها وتُجَرِّب أشياءها بقيمة متأصلة فيها وخاصة بها (Davis 2014, 321). لكنّ السؤال الذي يُطرح على الكانطيين الجدد هو: إذا تعارضت حقوق الإنسان مع حقوق الحيوان أيهما يجب تقديمه؟
وإذا كانت البيئة لا تقتصر على الإنسان والحيوان فقط، وإذا كانت آثار الأفعال الإنسية على البيئة تمتدّ إلى الأجيال المقبلة من إنسان وحيوان، فلماذا لا يمكن اعتبارها ممتدّة أيضا إلى كل كائن حيّ؟ وَفقاً لهذا الطرح يكون على هذا الإنسان بوصفه الكائن المفكر والفاعل في هذه المسألة، أن يمنح جميع الكائنات الحية وضعاً أخلاقياً، وهو ما نظّر له بول تايلور في فرضيته حول المركزية الحيوية (biocentrism) التي تقوم على أن جميع الكائنات الحية لديها حق متساوٍ في التقدير والاهتمام، فالإنسان جزء من نظام بيئي مترابط لا تفوق له فيه، ولكن كل عنصر فريدٌ في نوعه ويسعى بطريقته الخاصة إلى تحقيق مصلحته (Taylor 1986, 122). ولكنّ هذا الطرح الراديكالي رغم احترامه للبيئة، يضعنا أمام إشكالية ترتيب الأولويات، ممّا سيدفع الإنسان بصفة شبه حتمية إلى تقديم مصلحته على مصالح الكائنات الأخرى؛ ما دام هو الذي يقرّر ذلك كما هو معروف حول علاقته بالكائنات الأخرى.
يطوّر بول تايلور أربعة مبادئ أساسية تتعلق بالواجبات الإنسانية تجاه العالم الطبيعي غير البشري (Taylor 1986, 172–173). وهي: (1) عدم الأذى أي الالتزام بعدم الإضرار بأي كائن حي؛ (2) عدم التدخل ويحيل إلى واجب عدم فرض أي شيء على المخلوقات والسماح لها بالازدهار؛ (3) الولاء، وينطوي على عدم كسر الثقة التي يمكن أن يضعها حيوان في إنسان؛ (4) والعدالة الإصلاحية، وتشير إلى الحاجة إلى إصلاح ما ترتّب عن الأذى الذي ألحق بالكائنات الحية من جرّاء أفعال بشرية مثل انتهاك أحد المبادئ الثلاثة السابقة نتيجة أفعال إنسانية.
هذا ويفترض جلّ هذه النظريات الأخلاقية المنشغلة بإشكالية البيئة حسن نية الإنسان كفاعل أساسي في محيطه، ذي دور رئيسي في التدهور البيئي. في هذا الإطار يظلّ طرح هانز يوناس مميّزاً؛ من حيث إنه طرح مبدأ ”الأمر المطلق“ الخاص بالبيئة، ولاحظ أن اقتحام التكنولوجيا لجميع قطاعات الحياة البشرية يُوهن الحياة نفسها، كما أنه طرح مفهوم ”الوظيفة الاستكشافية للخوف“ (Jonas 1999, 16)، وهو المفهوم الذي يجب أن يُجبر الإنسان على أن يضع في اعتباره أقل الأخطار احتمالاً. إنه إذن شكل من أشكال التشاؤم، يدعو إليه يوناس على أساس الخوف من الأسوأ بدلاً من الرغبة في الأفضل. ويقول في هذا الصدد: ”من الضروري أن نُنصت أكثر إلى نبوءة التعاسة بدلاً من نبوءة السعادة“ (Jonas 1999, 73). والوظيفة الاستكشافية للخوف هي التي تُحدِّد المسؤولية عن مستقبل الأجيال القادمة، فهي المرجع الأساس لأخلاق المسؤولية.
يكرّس يوناس العديد من الصفحات لما يسميه ”وهن الطبيعة“ (Jonas 1999, 31)، ويوليه اهتماماً خاصاً لكي نتبيّن إلى أي مدى أصبحت هذه الطبيعة اليوم ضعيفة وهشة ومهدّدة بالتكنولوجيا الحديثة بعد أن كانت مهابة ومحترمة؛ الأمر الذي يتطلب حكمة عملية عالية ويدعو إلى أخلاق من نوع جديد هو أخلاق المسؤولية. وهي وإن كانت مطلوبة من أجل المستقبل البعيد، فهي حاضرة الآن بالفعل؛ بسبب الخطر المُحْدق بالبيئة. ويرتبط أساس هذه الأخلاق بفكرة وجود خطر كوني يُثقل كاهل البشرية بسبب انتشار الأسلحة الكيميائية والنووية، والأزمة البيئية العالمية وتعميم التكنولوجيات البيولوجية الجينية، الخ.
من الواضح أن هناك إجماعاً على حماية البيئة من قِبَل النظريات الأخلاقية السائدة، ولكن كيف يمكن لنسق الائتمانية أن تعالج هذا الموضوع؟
2.2 نسق الائتمانية وحماية البيئة: الرحمة والأمانة
ثمة عدد من العناصر المكوِّنة لنسق الائتمانية يمكنها أن تدعم حماية البيئة أخلاقيًّا، من أبرزها مفهومان: أولهما: مفهوم التراحم الذي استعمله طه في مقابل مبدأ الشمول الحداثي، وصيغته هي: ”الأصل أن الموجودات، على اختلافها، يرحم بعضها بعضًا؛ تخلّقاً باسم الرحمن من أسمائه تعالى“ (عبد الرحمن 2006أ، 244). وثانيهما: مفهوم الإيداعية، وهو أحد المبادئ الخمسة التي بنى عليها طه فلسفته الائتمانية. والإيداع—كما يعرفه—”هو أن تملك ما تملك، لا ابتداء، أي بنفسك، وانما بواسطة، أي بخالقك الشاهد لك وعليك؛ بحيث يكون عبارة عن أمانة يودعها لديك؛ فالوديعة إذن هي الشيء الذي يجعله الخالق الشاهد في حوزتك، موكِلاً إليك أمر رعايته؛ وكلُّ ما يوكِل إليك الخالق رعايته يقتضي حقوقاً عليك، إلا أن التمتع بحقوقك فيه موقوف على أداء الحقوق التي عليك بشأنه“ (عبد الرحمن 2014، 99).
بناء على هذين المفهومين فإن حماية البيئة أمر محسوم وبصفة مطلقة؛ بموجب نسق الائتمانية. فالتراحم يتضمّن أركاناً ثلاثة18 (عبد الرحمن 2006أ، 244) توسع حدوده ليشمل كلّ الكائنات، بل يتعدى ذلك ليشمل الأشياء المحيطة بالإنسان كما سبق. و”الرحمة“ مأخوذة من صفة ”الرحمن“ الإلهية التي يعتبرها طه ”أولى القيم وأكملها على الإطلاق“ (عبد الرحمن 2006أ، 245)، فالرحمة هي المفهوم الأكثر قدرة على إرساء فكرة الحفاظ على البيئة. وفي معرض حديثه عن ركن الرحمة، يقيم طه علاقة بين ”الراحم“ و”المرحوم“ لا تكتفي بإيصال المنافع من طرف الأول إلى الثاني، بل ”تتجاوز الإسعاف بالحاجات إلى الإنماء للقدرات“ (عبد الرحمن 2006أ، 251)، كما أنّها لا تتعلّق بالإنسان وحده بل تتعدّاه إلى جميع الأشياء الموجودة. ودليل طه على هذا التراحم—أو على ضرورته—هو ”أننا نشعر بوشائج بيننا وبين هذه الأشياء حتى كأنها تملك روحانية مثل روحانيتنا، بل كأنّ وجودها مثل وجودنا؛ متى أضحت مهدّدة في هذا الوجود، كما نرى في حالات تلوّث الطبيعة“ (عبد الرحمن 2006أ، 251). واستناداً إلى هذا، فالعلاقات التي يريد لها نسق الائتمانية أن تسود بين الموجودات هي علاقة الرحمة (عبد الرحمن 2006أ، 254)؛19 لأنّ كلّ الموجودات تملك روحانية مثل روحانية الإنسان.20
يختلف تصور طه هنا عن جل الأطروحات الأخلاقية التي تم عرضها، كما يختلف عن التوجه الذي يحمّل الدين المسؤولية عن تدهور البيئة؛ بحجة أنه لا يولي الطبيعة منزلة توازي تلك التي يحتلها الإنسان الذي يهيمن على سائر الموجودات؛ لأنه أرفع منها ومكرّم بينها، وهو التصور الذي شجع الإنسان على استغلال الطبيعة بحسب بعض الباحثين (White Jr 1967, 1205). فطه ينظّر لعلاقة رحيمة بين الموجودات—ومنها الأشياء—من خلال صفة ”الرحمن“، وهي صفة إلهية قرآنية تحدّد جانباً كبيراً من العلاقات بين الخلق والخالق في الديانات التوحيدية. ويمكن القول: إنّ العبارة القرآنية ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف، 156) تأخذ بعداً أشملَ في نسق الائتمانية؛ إذ تصبح الرحمة ممارسة ضرورية بين الموجودات الحالية والمقبلة؛ من حيث إن رحمة الله وَسِعت كل الموجودات وهو تعبير أبلغ دلالة من ”رَحِمَ“. هكذا يُلبي طه مطلب ”وايت“ المنادي بتغيير منطق التفكير الديني السائد؛ إذ يقول: ”لن يخرجنا المزيد من العلم والتكنولوجيا من الأزمة البيئية الحالية حتى نجد ديناً جديداً أو نُعيدَ النظر في الدين القديم“ (White Jr 1967, 1206).
فمبدأ الرحمة الواسع النطاق سيحتّم على الإنسان—باعتباره المخاطب العاقل في نسق الائتمانية—أن يستعمل الطبيعة دون استغلال؛ لأنها موجودات تملك (أو قد تملك حسب طه) روحانية. وهذا الطرح يقترب بعض الشيء من طرح كينيث جودباستر الذي تساءل عمّا يجعل الموجودات معتبرة من الناحية الأخلاقية، وخلَص إلى أن مجرد وجودها شرطٌ ضروري وكافٍ لاعتبارها ”موجودة“ من الناحية الأخلاقية (Goodpaster 1978, 308–325).
لا يقف نسق الائتمانية عند حدود مبدأ الرحمة في مسألة حماية البيئة، فهناك أيضاً مبدأ الأمانة كأحد المبادئ الثلاثة المؤسِّسة للفلسفة الائتمانية. والأمانة هنا تلتقي بمبدأ الإيداع الذي يقتضي حقوقًا وواجبات تجاه ما أودعه الخالق للإنسان كما تمت الإشارة إليه. وبالعودة إلى مبدأ الأمانة يؤكد طه على أنّ ”كلّ الموجودات، في العالم الائتماني، عبارة عن أمانات لدى الإنسان“ (عبد الرحمن 2014، 15). لكنّ الأمانة في نسق الائتمانية مفهوم جارف إلى أبعد الحدود؛ فبالمقارنة مع مبدأ المسؤولية عند هانز يوناس،21 يمكن القول: إنّه إذا كان هذا الأخير قد وسّع مفهوم المسؤولية ليشمل المسؤولية عن الأجيال القادمة أيضًا، فإنّ طه صاغ المسؤولية—بموجب مبدأ الأمانة—في قالب يشمل كلّ ما يوجبه كمال عقل الإنسان من أفعال وذوات وكائنات حية وأشياء جامدة؛ ما دام كل هذا يعتبر أمانة عند الإنسان بمقتضى مبدأ الإيداع، وبعبارة طه: ”الأمانة عبارة عن المسؤولية التي تشغل ذمة المُواثِق“ (عبد الرحمن 2017، 168–169). بهذا الطرح تصبح حماية البيئة ضرورة لا لخوف أو من أجل أجيال قادمة، ولكن لأنها أمانة مودعة من الخالق عند خلقه العاقل، ووجب على هذا الأخير أن يتحمل المسؤولية تجاهها.
بعد هذا العرض حول حماية البيئة حسب مقتضيات نسق الائتمانية الطهوي، ننتقل إلى الموضوع الثاني الذي يخصّ تقديم المساعدة الطبية على الموت للمرضى المشرفين عليه والأشخاص المصابين بالخرف، لنرى كيف يمكن لنسق الائتمانية الخروج بحلول للمعضلات التي يطرحها علم الأحياء على الإنسانية في الوقت الحالي.
3 أخلاقيات علم الأحياء: ”الموت الرحيم“ نموذجًا
ما يسمى ”الموت الرحيم“ موضوع جدل منذ العصور القديمة، وكان يصنَّف في خانة الانتحار الذي كان مجرد التفكير فيه يعدُّ إهانة لألوهية النفس من طرف الفيثاغوريين مثلاً (Ekanga 2013, 29). أما الأبيقوريون فقد أدركوا من جانبهم أهمية الحرية الفردية، لكنهم ظلوا يشكون في أن يكون هذا الفعل عقلانياً (Gorsuch 2006, 25). وفي وقت لاحق، استخدم الرواقيون مصطلح ”أوتانازيا“ بمعنى الموت بشكل جيد، أي الانتحار في نهاية المطاف (Ricot 2010, 47). من جهة أخرى، رفضت اليهودية القديمة أي شكل من أشكال الانتحار أو القتل الرحيم، ونُظر إليه على أنه عصيان وجحود ليهوه. أما بالنسبة للمنظور المسيحي، فقد تشكل مع القديس أوغسطين الذي أكّد أنه لا يمكن أبداً قتل إنسان آخر، حتى لو أراد هو ذلك. وفي العصور الوسطى، أدان العديد من المفكرين كالقديس توما الإكويني وأبيلار ودانتي العملَ الانتحاري، واعتُبِر قتلُ المرء لنفسه رجساً (Dowbiggin 2005, 12–16). ولكن منذ عصر النهضة، أدى تقدم العلوم إلى فهم آخر للجسد الذي بات يُنظَر إليه على أنه آلة وليس سرّاً إلهياً (McDougall and Gorman 2008, 4–5)، وبلغ الأمر بفيلسوف كفرانسيس بيكون أن يدعم علناً فعل القتل الرحيم، ويعتبره ”موتًا عذباً محاطاً بالرعاية“ (Aumonier et al 2001, 36–37)، وهو التوجُّه نفسه الذي نجده الآن عند المدافعين عن المساعدة الطبية على الموت. وقد ساهمت فلسفة الأنوار والظروف التي أتاحتها العلمانية والتقدم في العلوم إلى تبني قيم تعطي الأولوية للعلم على الدين وتعطي الطبيب ثقة أكبر ومكانة أحسن. وبفضل ما عرفته التكنولوجيا والطب من تطور أدى إلى شيخوخة أطول (زيادة الأعمار)، فإن المعضلة الأخلاقية حول القتل الرحيم أصبحت اليوم فائقة الأهمية مقارنة بما كانت عليه من قبل. وفي هذا السياق، يمكن استيعاب ما قامت به بلدان مثل بلجيكا وسويسرا وهولندا، ولوكسمبورج والمملكة المتحدة وكندا وكذلك بعض الولايات في أستراليا من إصدار قوانين تسمح بأشكال معينة من القتل الرحيم بناءً على طلب المريض ووفقاً لمعايير مختلفة.22 ويمتد النقاش حول القتل الرحيم الآن إلى العالم الغربي بأكمله تقريبًا، ويترافق التقدم الطبي مع تجديد أهمية بعض القضايا الأخلاقية المحيطة بنهاية (أو إنهاء) الحياة.23
ولكن إلى أي حد يمكن القبول من الناحية الأخلاقية بقانون المساعدة الطبية على الموت للمرضى المشرفين عليه وكذلك الأشخاص المصابين بالخرف؟24 سنحاول إيضاح كيف يمكن للنظريات الأخلاقية الكبرى أن تجيب على هذا السؤال، وما الإجابة التي تقدمها الفلسفة الائتمانية. يتصل الحكم على ”الموت الرحيم“ بأربع توجهات أخلاقية هي: أخلاق المنفعة عند بنتام وجون استوارت مل، وأخلاق الواجب عند كانط، وأخلاق الفضيلة عند أرسطو، والأخلاق البيولوجية. وسنوضح منطق حكم كل توجه في مثال الموت الرحيم والتعليل الذي يقدمه لحكمه قبل أن نتعرض للفلسفة الائتمانية والحل الذي تقدمه لهذه المعضلة.
3.1 العدل في الحكم على أخلاقية ”الموت الرحيم“
لا ترى أخلاق المنفعة مشكلة في تسهيل موت المرضى الميؤوس من شفائهم والمصابين بالخرف؛ لأن رفاهية الإنسان ونوعية الحياة هي معيار أخلاقية الفعل، وضمان سعادة أكبر عدد ممكن من الأفراد يتم عبر تقييم عواقب الخيارات المختلفة المتاحة.
ففي مثال الموت الرحيم، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار عناصر مختلفة تؤثر في مستوى رفاهية المجتمع منها: التكاليف العالية التي تنفقها الدولة على هذه؛ فوَفقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن التكاليف الإجمالية لحالات الخرف وصلت في العام 2015 إلى مبلغ 818 مليار دولار أمريكي، أو 1 ٪ من الناتج الإجمالي العالمي. وتختلف التكلفة الإجمالية كنسبة مئوية من الناتج الإجمالي لتصل إلى 1.4 ٪ في البلدان ذات الدخل المرتفع (World Health Organization 2018). وهذا يمثل مبالغ كبيرة يجري ضخّها في قِطاع الصحة من دون أن يستفيد من العلاج المرضى الذين ما زال هناك أمل في شفائهم. يُضاف إلى ذلك أنّ البلدان الغربية على وجه الخصوص تواجه صدمة ديموغرافية حتمية بسبب ارتفاع نسبة المعمِّرين؛ ممّا يجعل الإنفاق على الصحة يتزايد باستمرار. ويمكن في هذه الحالات رصد الضغوط الجسدية والنفسية والاقتصادية على الأسر ومقدمي الرعاية أنفسهم من خلال ما جاء في تقرير منظمة الصحة العالمية (World Health Organization 2018)؛ فمثل هؤلاء المرضى يحتاجون إلى مساعدة إلى جانب التطبيب قد تستغرق سنوات عديدة قبل وفاة الشخص المصاب؛ أي أن المقاربة النفعية تشرِّع أخلاقياً لوضع قانون ينظِّم ”الموت الرحيم“ في مثل هذه الحالات على الأقل.
أما أخلاق الواجب التي تمثل ردّا على نفعية ميل، فتركز على حقوق الأفراد وواجباتهم، وفكرتها الأساسية أن القيمة الأخلاقية للأفعال أو القرارات تقوم على الالتزامات المتبادلة واحترام حقوق الآخرين. ويفرّق كانط بين واجب سلبي (كامل وصارم)، وهو الواجب المطلق الذي ينطبق على الجميع وفي كلّ الحالات ويكون دائمًا بصيغة الحظر (لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب، الخ.)، وواجب إيجابي (غير كامل، ومُوسّع)، وهو واجب التدخل الذي يتطلب مشاركة الآخرين (كواجب الرحمة والمساعدة والتعاطف، الخ). وفي حالة التعارض بين الواجب السلبي والواجب الإيجابي يتم تفضيل الأول؛ لأنه الواجب المطلق.25
ومن المهم هنا استحضار قسم أبقراط؛ لأنه يتماشى مع النهج الكانطي، وقد احتفظ بقيمة رمزية على مر العصور، فهو يطالب الأطباء خاصة بعدم قتل المريض. ففي إحدى صيغه القديمة يُقسم أبقراط: ”… ، وأقصد في جميع التدابير—بقدر طاقتي—منفعة المرضى، وأما الأشياء التي تُضر بهم وتدني منهم بالجور عليهم فأمنع منها بحسب رأيي، ولا أعطي إذا طُلب مني دواء قتّال، ولا أشير أيضاً بمثل هذه المشورة …“ (ابن أبي أصيبعة 1996، 205).26 فأخلاق الواجب تحول دون تمرير قانون يسمح بالموت الرحيم.
3.2 الخير في الحكم على أخلاقية ”الموت الرحيم“
فيما يخص أخلاق الفضيلة، فقد اعتبر فلاسفة اليونان الإنسان جزءًا من الطبيعة، وأن الفضيلة تكمن في العيش في انسجام مع الطبيعة، ومن ثم تُعرّف الطبيعة على أنها الكون (cosmos)، وهو كلّ منظَّمٌ يشغل كل فرد مكانًا فيه ويجب عليه أن يجده. في هذا الإطار، يعتقد أرسطو أن الطبيعة ”لا تفعل شيئًا عبثًا“ (Aristote 2014, 1038, 1633)؛ فهي تعمل دائماً بذكاء في السعي وراء الغايات، ويبقى الخير هدفاً نهائياً لها بالرغم من وجود حالات طارئة قد لا يتحقق الخير فيها دائمًا، ويرى أرسطو أنّه يجب على الإنسان أن يدرك جوهره المزدوج المتمثل في أن الوجود الإنساني موجَّه باتجاهين متكاملين يحدِّدهما العقل: الحياة التأملية من خلال البحث عن المعرفة، والحياة العملية (الأخلاقية) من خلال البحث عن العدل في علاقته بالآخرين. في الحياة العملية—وهي مجال الأخلاق—يَنشد الإنسان التصرف الأمثل والممكن؛ استنادًا إلى الوضع المحدد الذي يواجهه. فالتصرف الأخلاقي هو التصرف وفقاً للغايات التي تحددها الطبيعة، ولكن التحدي في هذه الحالة يتمثل في تكييف المبدأ المطلق مع الحالة الخاصة التي نواجهها.
لم ينشغل الفكر اليوناني بالفرد على عكس التصور الكانطي، ولكن كيف يمكن لأخلاق الفضيلة أن تحكم على حالة محددة مثل: هل يجب أن نتوقف عن الاعتناء بمريض لا أمل في علاجه؟ وفق التصور الأرسطي، إذا ما قررنا التوقف عن رعاية هذا المريض سنكون قد تركنا الطبيعة تفعل فعلها، وهي لا تفعل شيئًا عبثًا، ومن ثم فهي التي تضع حداً لهذه الحياة تفادياً لمعاناة لا لزوم لها ناتجة عن إصرار غير معقول على مواصلة العلاج. فإذا قمنا بذلك، فإنّنا لا ننتهك قدسية الحياة ولا ننهتك مبدأ حظر القتل؛ فكلّ ما قام به المُعتني في هذه الحالة هو أنّه ترك الطبيعة تُنجز عملها حين توقف عن تقديم الرعاية الصحية التي لا جدوى من ورائها.
إنّ الأنواع الثلاثة السابقة من الأخلاق: المنفعة والواجب والفضيلة هي نتاج مدارس فكرية تاريخية لم تواجه معضلات أخلاقية كهذه، ولكن يتم اللجوء إلى مفاهيم مبتكرة داخل كل مدرسة لاجتراح حلول لمعضلات أخلاقية حالية، وربما تبدو هذه النظريات غير ملائمة أو غير وافية لحل بعض الإشكالات المعاصرة، ولذلك من المهم الاستعانة بنهج رابع هو الأخلاق البيولوجية، قبل معرفة الإجابة التي يمكن للفلسفة الائتمانية أن تقدمها في هذا الموضوع.
3.3 التوجه المبدئي لحل المعضلة الأخلاقية في إطار الأخلاق البيولوجية
تصبو الأخلاق البيولوجية إلى الدفع بالنقاش ليصبح أقلَّ إيديولوجية وأكثرَ عقلانية من أجل أخلاق تقوم على الأدلة. ولتحقيق ذلك، سنستعمل أهم تيّار بين التيارات المتنازعة في حقل الأخلاق البيولوجية، وهو التوجه المبدئي (principlism) الذي يهدف إلى إيجاد حلول للنزاعات الأخلاقية الناتجة عن النشاط الطبي والبيولوجي. نشأ هذا التوجه في السياق الأمريكي، وأسس الممارسة الطبية والبيولوجية على أربعة مبادئ هي: احترام الاستقلالية والإحسان وعدم الإساءة والعدالة.27 ولكن كيف يمكن تطبيق هذا في المثال محل النقاش؟ من أجل احترام استقلالية المريض أولاً، يجب أخذُ موافقة الشخص بحرية وبشكل واعٍ، ثم إن المساعدة على الموت لا بد أن تكون لمصلحة المريض وليس لأغراض شريرة، ولكن كيف يجيب هذا التوجه على الإشكال المتمثل في أن الموت يعدُّ ضرراً لشخص ما ولأقاربه عموماً؟ يجيب مؤيدو هذا التوجه بأن الموت في الحالة محل النقاش هو راحة للمريض وليس ضرراً، ما يعني أنه يحقق مبدأي الإحسان وعدم الإساءة. بقي المبدأ الرابع وهو العدالة، ففي المجتمعات الحديثة تم إقرار مبدأ مفاده أن لكل شخص حقاً في الحصول على الحد الأدنى من الرعاية الصحية ولكن هذه العدالة تحتّم إخلاء السرير لمريض آخر يؤمَل في شفائه وتخفيفَ الضغط على العاملين في حقل التطبيب ليتكفلوا بهذا المريض.
إذا ما نظرنا إلى هذا التحليل، فإننا سنجد أنه يولي أهمية لاستقلالية الشخص التي تظلّ أحد أركان الرغبة في إرساء قانون المساعدة على الموت، ومنح الأفراد حق وضع نهاية حياتهم. لكن تبقى المشكلة قائمة بالنسبة لمن يصلون إلى مراحل متقدمة من الخرف ولا يملكون أهلية اتخاذ القرار وهو ما يخل بمبدأ الاستقلالية؛ إذ يمنح طرفًا آخر حق التسلط على المريض.28
يتبيَّن مما سبق، أنه—وبخلاف موضوع حماية البيئة—هناك تضارب بين النظريات الأخلاقية السائدة في تقديم حل لمعضلة الموت الرحيم. ولكن كيف تعالج الفلسفة الائتمانية هذه المعضلة؟.
3.4 الفلسفة الائتمانية والموت الرحيم
إن قرار الموت الرحيم تشترك فيه جهات عدة تشمل فئة المشرّعين التي يمثلها النواب البرلمانيون،29 وفئة الأطباء الذين يتولون تقييم حالة المريض ودرجة المرض، الأمر الذي يلعب دورًا حاسمًا في عملية اتخاذ القرار والنتائج المترتبة عليه والتي من بينها: إيقاف الرعاية الطبية لهؤلاء المرضى، وزيادة الطلب على عمليات الموت الرحيم، وثمة فئة ثالثة تضمّ أقارب المرضى، وهي فئة تعيش وضعية صعبة لرؤية قريب وصل إلى حالة المرض أو الخرف القصوى. وإن كان ثمة بُعد إيجابي لهذه الفئة يتمثل في الراحة المترتبة على عملية الموت؛30 إذ سيكون عليهم أن يتقبلوا حقيقة أن قوة الحياة والموت هي في يد المريض وحده، وأنه لا يحق لهم التأثير في مجرى أحداث المساعدة الطبية على الموت.
إن هذه الفئات جميعًا سيكون عليها تحمُّل تعارض القيم المطروحة إزاء هذه المعضلة، فإقرار قانون الموت الرحيم سيساعد على إرساء قيم المودة والمساعدة والرحمة والتعاطف مع الأفراد الذين يجدون أنفسهم في حالات صحية متردية كالحالة الخضرية الدائمة أو القريبة منها على سبيل المثال. وهي قيم تتيح للمريض مغادرة الحياة إذا رغب في ذلك، أو تَقَرر طبيًّا عدم إمكانية عودته إلى حالة طبيعية مقبولة. وهناك قيمة الكرامة التي تبقى من صميم عملية اختيار الموت في الظروف الصحية بالنسبة للمرضى، وهي تحتم ضمان الحق في الموت الكريم لكل شخص، كما كان له الحق في العيش الكريم، وهناك قيمة الاحترام التي يتمُّ من خلالها اعتراف الدولة والمجتمع باستقلالية الشخص واحترام خياراته، خصوصًا في لحظة المرض القصوى التي يكون فيها أكثر وَهناً.
ولكن في المقابل، إن حظر الموت الرحيم يحقق جملة قيم تستمد سلطتها من الدين عموماً، تتمثل في قدسية الحياة بذاتها والتي تقود إلى اعتبار مثل هذا الفعل قتلاً للنفس، وانتهاك الطبيب لقسم أبقراط؛ فالطبيب في هذه الحالة يعارض أهم مقصد من مقاصد الطب وهو مساعدة المرضى على التعافي وليس إنهاء حياتهم، وقيمة الابتلاء والتمحيص المطهر من الذنوب وهو ناتج عن مبدأ الإيمان بالله، وهو ما يدفع المؤمنين إلى رفض الموافقة على الموت الرحيم. فهؤلاء يفضلون الاستمرار في الحياة مع المعاناة على الموت المريح إلى أن يقضي الله أمرًا. تميل الائتمانية إلى الخيار الأخير هنا، غير أنّ طه يقدم له تنظيرًا متينًا مستعينًا بجملة من المفاهيم التي يصوغها بنفسه للبرهنة على أخلاقية المحافظة على الحياة ورفض عملية الموت الرحيم.
ترفض الائتمانية الموت الرحيم استنادًا إلى مفهومي الإيداع والأمانة؛ فالحياة أمانة أودعها الخالق لدى خلائقه، ما يعني أن الحفاظ عليها واجب جميع الفئات المذكورة سابقًا بما فيها المريض إذا كان يتمتع بالأهلية. ولكنّ ماذا لو خرج الألم عن طاقة المريض أو كان لا يُرجى شفاؤه، أو بلغ درجة كبيرة من الخرف وكان قد طلب أو أوصى بذلك حال أهليته؟
تنفي الائتمانية أصلاً وجود معضلة أخلاقية في هذه الحالات، ففي حالة الخرف والحالة الخضرية، فإنّ المؤتمن على حياة المريض هنا هو الفئات المتعددة التي ذكرناها سابقًا، ما يعني أن واجب رعاية المريض يقع على عاتق هذه الفئات. وعملية تسهيل الموت أو تسريعه هي ليست رعاية، كما أنها تخالف مقتضيات مبدأي الإيداع والأمانة. كما أن علاقة هذه الفئات بالمريض في هذه الحالة هي علاقة رحمة، فواجب هذه الفئات أن تكون ”راحمة“ وحق المريض أن يكون ”مرحوماً“، وأن تُنَمّى قدراته كذلك، الأمر الذي يقف سدّاً منيعاً أمام إمكانية إنهاء حياته.
بقيت حالة الألم الذي لا يُطاق والذي لا يُرجى بُرؤه، فإنّها تضع مبدأي الرحمة والأمانة أمام إشكال حقيقي وهو أن تسهيل موت المريض في هذه الحالة يمكن أن يدخل في مبدأ الرحمة نفسه، ويجعل من مبدأ الإيداع قاصرًا أمام فظاعة الألم فأي وديعة هنا؟. وهل تُعفي مساعدته على الموت الفئات المعنية من مسؤوليتها؟
ثمة مفهوم آخر يروج في فلسفة طه هو مفهوم الكرامة، وخاصة ما يسميه ”الكرامة التفضيلية“. وقد أضاف هذا المفهوم في معرض مناقشته لموضوع ”الخلايا الجذعية بين إرادة الخلود ومحنة الجنين“ (عبد الرحمن 2012ب، 255–294)، وعرف الكرامة التفضيلية بأنها ”القيمة التي يورّثها للآدمي اجتهادُه في التقرب إلى الذي قدّر خَلقه وائتمنه على مخلوقاته؛ ممتحنًا له“ (عبد الرحمن 2012ب، 288). استخرج طه من هذا التعريف عدّة عناصر نأخذ منها ما يفيد في حل المعضلة التي نحن بصددها، فالعنصر الأول يخص اقتران تكريم الإنسان بابتلائه بالخير والشر، وهذا الاقتران يعدّ ”تمحيصاً لما في قلبه (الآدمي) من إيمان وعرفان؛ فيبتلى، مثلاً، بمزيد من الصحة حتى يُعدّ من المعمّرين كما يبتلى بنقص فيها حتى يُعدّ من الزمْنى واليائسين“ (عبد الرحمن 2012ب، 288). ويتمثل العنصر الثاني في ”أنّ الآدمي ينزل من مراتب الكرامة بحسب درجته في التقوى وتحمّل الابتلاء الذي ينزل به“ (عبد الرحمن 2012ب، 288). من خلال هذين العنصرين يمكن لنسق الائتمانية الخروج من المأزق الذي قد يواجه حالة الألم الذي لا يطاق ولا يرجى برؤه. فهذا المريض مطالب بالصبر على مصابه (عبد الرحمن 2012ب، 290) مهما كان حجم معاناته؛ لأن الصبر قيمة تؤهل المريض لدرجة أعلى سواءٌ في التطهير من الذنوب أم في رفع الدرجات، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
خاتمة
أمكن لنا في هذا الفصل المقارنة بين النظريات الأخلاقية الرائجة اليوم ونسق الائتمانية، وقد أتاحت لنا هذه المقارنة استكشاف بعض الإمكانات العملية الكامنة في فلسفة طه والتي من شأنها أن تسهم في حلّ بعض المعضلات الأخلاقية التي أنتجتها الحداثة الغربية. وقد بدا لنا من خلال هذه المعالجة أن الائتمانية منظومة فكرية وأخلاقية تنتمي إلى المجال التداولي الإسلامي وذات إمكانات عملية إلى جانب بنائها النظري وطاقتها النقدية.
فالمحور الأول من هذا الفصل أتاح لنا الوقوف على الإشكالية التي يتمحور حولها نسق الائتمانية، وفيها انتقد المفكر المغربي الحداثة الغربية وأخلاقها؛ لتقديسها العلم وتأليهها التقنية على نحوٍ أخلّ بالحياة الأخلاقية، كما حاول تجاوز هذه الحداثة المتعصبة للعلم الحديث، بالتغلب على العلاقات المادية عبر تأسيس الائتمانية المرتكزة على مبادئ وقيم أخلاقية مستمدة من النموذج الإسلامي. انتقد طه النظام العلمي-التقني؛ لأنه فصل بين الأخلاق والدين، وأكد على أهمية فكر هانز يوناس في نقد هذا النظام ولكنه عاب عليه توقفه عند حدود مستقبل الإنسانية المهدد، ولذلك اقترح تكميله بديناميكية الثواب/العقاب في الآخرة لتوفير نوع من الردع للمسؤولين عن تلوث البيئة.
وفي المحور الثاني تم ربط فكر طه بالنظريات الأخلاقية الرائجة في حقل البيئة، وقد استعان هذا المحور بمبدأين مهمين هما الرحمة والأمانة اللصيقان بمبدأ الإيداع. تحتِّم هذه المبادئ على الإنسان التعامل مع الطبيعة دون استغلال، الأمر الذي يفرض الحفاظ على البيئة. وقد افترق تصور طه عن تصورات غيره وإن التقى مع بعضها في مسألة الوضع الوجودي للموجودات.
أما المحور الثالث فقد كشف عن الإمكانات العملية التي تقدمها الائتمانية لمعضلة الموت الرحيم، مستعينًا بمبدأ آخر هو مبدأ ”الكرامة التفضيلية“، ليبيّن زيف المعضلة الأخلاقية المطروحة؛ إذ إن الإنسان مطالب بالحفاظ على حياته وحياة الآخرين مهما كلّفه ذلك من آلام. ويلتقي طه هنا مع أخلاق الواجب في مسألة عدم تسهيل موت المريض.
وفي الختام، لا بدّ من التأكيد على أنّ نسق الائتمانية يتوخّى بناء نظرية أخلاقية إسلامية قادرة على حلّ المعضلات الأخلاقية الحديثة استناداً إلى طبيعة الهوية الإنسانية التي يعتبرها طه أخلاقية دينية. وفكر طه، وإن كان يرفض أن يكون جزءاً من المجال التداولي الغربي الحديث، فإنه يلتقي في عدد من النقاط مع بعض نظريات المجال التداولي الغربي، وهذا ما يصُبّ في فكرة وجود قيم وأخلاق إنسانية مشتركة تتقاسمها الأديان والفكر الإنساني معًا.
عن العقول الثلاثة: العقل المجرد والعقل المؤيد والعقل المسدد، (عبد الرحمن 1997).
حيث فقط الأفعال الظاهرة للمسلم تبقى معتبرة في ضوء أحكام الشريعة، ودون اعتبار لمعناها الأخلاقي (عبد الرحمن 2006ب، 153). ينظر عبد الرحمن في مسألة تجديد مقاصد الشريعة، ويؤكد على وجوب التعامل مع مجال المقاصد كعلم للأخلاق الإسلامية. أي وجوب التعامل مع أهداف الشريعة وفقا للأساليب العلمية المستعملة في مجال الأخلاق (عبد الرحمن 2015، 94–95).
يتمّ هذا الجمع بين العقل والشرع باتفاق مبرم بين الشارع والإنسان العاقل. والحادث الذي من شأنه أن يسند هذا الاتفاق هو سؤال الله بني آدم: ألست بربكم؟ فأجابوا بالإيجاب، وفقا للآية القرآنية 172 من سورة الأعراف. أما الجمع بين العقل والقلب، فالحادث الذي اختاره طه عبد الرحمن هو شق الصدر. ويعتبر ما وقع للإنسان النموذجي لدى المسلمين، أي رسول الإسلام، حاملاً لأخلاق التطهير. ويربط عبد الرحمن الجمع بين العقل والحس بالحدث التاريخي الذي حوّل به النبي محمد القبلة بأمر قرآني سنة 623. وبعيدا عن المعنى السياسي والديني لهذا الحدث، يعطيه عبد الرحمن بُعداً أخلاقياً حركياً بوصفه أخلاقاً إشارية أخرجت المسلم في صلاته من محسوسية القبلة إلى معقولية التعبد (عبد الرحمن 2006ب، 158–166). خلاصة القول، يقترح عبد الرحمن أخلاقا إسلامية كونية معرفيا وثقافياً، لا محلية تخص شعبا بعينه، وأخلاقا عميقة تطهر وتؤهِّل من يأخذ بها، وأخيرا هي أخلاق حركية وليست راكدة، لأنها إشارية وانفتاحية واجتماعية.
في تقدير طه، الأسرة الغربية سقطت ضحيةَ ما أرست أُسُسَه الحداثة من علمانية فصلت الأخلاق عن الدين (عبد الرحمن 2006أ، 100 وما بعدها).
في تعريفه ”روحَ الحداثة“، يحدد طه عبد الرحمن ثلاثة مبادئ أساسية لهذه الاخيرة: مبدأ الرشد، أي الانتقال من حالة القصور إلى حالة الرشد، حسب الطرح الكانطي لفلسفة الأنوار؛ مبدأ النقد، أي الانتقال من حالة الاعتقاد إلى حالة الانتقاد؛ ومبدأ الشمول الذي يقضي بانتقال الحداثة من حال الخصوص إلى حال الشمول (عبد الرحمن 2006أ، 25–29). ويؤكد عبد الرحمن أن هذه المبادئ هي التي تعطي المبادئ الأخرى المستخدمة لوصف الحداثة كمبدأ العقلانية ومبدأ الحرية، الخ. (عبد الرحمن 2006أ، 24، الحاشية 4).
يعتمد طه في طرحه هذا على ما يسمّيه ”دليل الزمن الأخلاقي“ الذي يقسّم التاريخ الإنساني إلى ثلاثة أزمنة أخلاقية، الزمن الأخلاقي اليهودي والزمن الأخلاقي المسيحي والزمن الأخلاقي الإسلامي الذي تنتمي إليه العولمة والحداثة. انظر تفصيل ذلك في: (عبد الرحمن 2006أ، 86–89).
يرفض طه التصور التجزيئي للعلاقة بين الإله والإنسان؛ لأنه اختزالي يقرّ ببعض صفات الله ولا يقر بالبعض الآخر، يأخذ ببعض القيم الأخلاقية المنصوص عليها في الكتب السماوية ويعارض القوانين والأحكام الدينية. كما يرفض التصور التسييدي الذي يسعى فيه الإنسان للحلول محل الإله في إدارة الكون، وذلك أساساً عن طريق تمجيد العقل. وأخيراً يرفض التصور التجسيدي الذي يعدّه مهيمناً على الفكر الغربي، علمانياً كان أم دينياً. فهذا التصور ينقل القداسة من الإله إلى الإنسان ويجعله شريكاً في الخلق عبر مساواة كاملة بينهما (عبد الرحمن 2014، 71–91).
في الواقع، هذا التّصوُّر للإله هو أيضا منتشر على نطاق واسع في الثقافة الإسلامية. وفكرة طه هذه تأتي بالتأكيد من خلفيته الصوفية، حيث فكرة المعية بدل فكرة الله الخارج والبعيد عن الانسان.
في الواقع، لا يقول طه الكثير عن خصائص هذه النخبة. ولكن من وصفه الوجيز، يمكن القول إنها نخبة قادرة على الأخذ بالنموذج الائتماني، ويحدد طه لها صفتين هما: ”أفراد متميز ين“ و”خواص“.
خصوصا في ”التكنولوجيا والعلم كإيديولوجيا“ الكتاب الذي تظهر أفكاره ضمناً في الصفحات التي خصصها طه لنقد النظام العلمي-التقني. وللإشارة، فإن الكتاب يظهر ضمن قائمة المراجع، رغم أن طه لا يستشهد به في الكتاب (عبد الرحمن 2006ب، 235).
نشير إلى أن طه، في إطار نقده، يقتصر على المبادئ التوجيهية والأفكار العامة ل ”مبدأ المسؤولية“ لجوناس و”الأخلاق والتواصل“ لهابرماس و”الأخلاق في عصر العلم“ لأبل.
الأمر المطلق حسب جوناس هو كالتالي: ”افعل بحيث يمكن لآثار فعلك أن تصبح متوافقة مع دوام حياة أصيلة إنسانيا على الأرض“ (Jonas 1999, 40).
تجدر الإشارة الى أنّ ”الأمر المطلق“ مفهوم كانطي وهذه إحدى صيغه: ”إفعل الفعل بحيث يمكن لمسلمة إرادتك أن تصبح دائما وفي الوقت نفسه مبدأ تشريع عام“ (Kant 1994, 178).
من جهة أخرى، يوجِّه طه نقده إلى الفيلسوفين الألمانيين آبل وهابرماس تحت صيغة ما يسميه حدود نظرية التواصل عندهما. فهو يرى أن التواصل عندهما لا يحمل الحق في طبيعته ولا في واقعه، ولذلك ينفي إمكانية تأسيس أخلاق على هذا المفهوم، ويضعنا أمام خيارين: إما تواصل آخر يأتيه الحق من خارجه؛ أو البحث عن مصدر آخر للأخلاق غير التواصل. ويميل عبد الرحمن نحو احتمال أن يكون هذا المصدر اتصالاً روحانياً (عبد الرحمن 2006ب، 127).
بمعنى أنّه مادام المجال التداولي الحالي يَرهَن التقدم التقني باستغلال الطاقة الهيدروكربونية، وهي المسؤول الأول عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المسؤول بدوره عن ظاهرة الاحتباس الحراري، على الأقل حسب رأي الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ. انظر على سبيل المثال: (Climate Change 2014).
يعزى عادة ظهور الوعي البيئي إلى كتابين مهمين: ”Silent Spring“ ل Rachel Carson الصادر سنة 1962، و”The Population Bomb“ ل Paul R. Ehrlich الصادر عام 1968.
مع اختلاف بسيط في نفعية بيتر سينغر، عند تعارض المصالح الحيوية للإنسان والحيوان، فتقدم الأولى على الثانية.
يعطي كانط مثال الكلب الذي يقتله صاحبه لأنه لم يعد قادراً على الخدمة، ويعتبر أنّ هذا الفعل غير إنساني ويسبب أضراراً في ذاته. إذ يجب على الإنسان أن يكون لطيفاً تجاه الحيوان، لأن ذلك سينعكس على تعامله مع الإنسان (Heath and Schneewind 2001, 212).
وهي ”الرحمان“ و”الرحمة“ و”التخلق.“
هذه الرحمة يصفها طه بالكونية، بل إن قيماً مثل العدل والمساواة والحرية تستمدّ كونيتها من كونية الرحمة.
لنسجل أن طه لا يجزم بروحانية الأشياء، لذلك يستعمل كلمات من قبيل ”حتى كأنها … بل كأنّ.“
تفادى طه إجراء مثل هذه المقارنة كما يشير في الهامش رقم 11.
أو ولايات كواشنطن وأوريغن ومونتانا في الولايات المتحدة الأمريكية، التي أقرت مبدأ ”الانتحار المنطقي“ وهي الحالة التي يضع فيها الشخص المريض حدّاً لحياته بنفسه وبمساعدة شخص آخر يكون مخوّلاً لذلك وفقاً للقوانين والقرارات الجاري بها العمل في الولاية أو البلد (انظرAbu-El-Noor and Abu-El-Noor 2018).
في مقاطعة كيبيك الكندية مثلاً، يتمّ تداول مصطلح ”الموت بكرامة [mourir dans la dignité]“ في المشاورات السياسية وفي أوساط المجتمع المدني منذ سنوات حول الموت الرحيم والانتحار المنطقي.
في حالة قبول القانون، يصبح بإمكان الأشخاص المصابين بالخرف (مثل مرض الزهايمر)، قبل تدهور حالتهم، طلب وضع حدٍّ لحياتهم عند وصولهم الى مرحلة جدّ متدهورة من المرض.
في حالة التعارض هذه، تحل الفلسفة الكانطية المعضلة الأخلاقية بترتيب الواجبات. وهذا بالضبط ما تحتاجه المعضلة الأخلاقية المطروحة في هذا الجزء من الورقة. ولكن تجدر الإشارة الى أنّ الإشكال الأخلاقي يجد صعوبة في طريقه الى الحل عندما تتعارض الواجبات السلبية فيما بينها، أو الواجبات الإيجابية فيما بينها.
تجدر الإشارة الى أنّ قسم أبقراط قد تمّ تعديله عبر التاريخ ليلائم العصر والعقليات. في هذا السياق نذكر إعلان جنيف (أو ما يعرف بقسم الأطباء) الذي عُدِّل مؤخراً في 2017. في صيغته الأخيرة يترك قسم جنيف الباب موارباً لإمكانية الموت الرحيم عبر احترامه الموسع الحياة الإنسانية ولاستقلالية وكرامة المريض.
تمت بلورة التيار المبدئي كنهج أخلاقي لاتخاذ القرارات في الولايات المتحدة من قبل اللجنة الوطنية لحماية الأشخاص البشرية في إطار الأبحاث البيوطبية والأبحاث السلوكية في ”تقرير بلمونت“ في أبريل 1979 (Beauchamp and Childress 2008, 30–31).
وكذلك التفصيل الوافي لهذه المبادئ في (Durand 1999, 186–286).
بالنسبة لهؤلاء، يمكن اعتبار أهاليهم مسؤولين عنهم، وبإمكانهم اتخاذ قرار نيابة عنهم بإنهاء حياتهم، أو يمكنهم، وهم في بداية خرفهم، التوقيع سلفاً على وثيقة طبية تشهد على طلبهم لنهاء حياتهم عندما يصلون إلى حالة متقدمة من الخرف. بهذه الوثيقة، يمكن القول بأن الشخص يعطي موافقته طواعية، ما دام لا يوجد حتى الآن علاج للخرف. مما يعني أن الطريقة العلمية الأكثر تقدما لا توجد حتى الآن في هذا المجال.
لن نخوض في الحديث عن التشريع، فهو يخص كل بلد بعينه، ويأخذ بعين الاعتبار مدى قبول المواطنين لمثل هذا القانون. وهذا القبول أو الرفض يمكن رصده من خلال استطلاعات الرأي التي عادة ما تسبق الخوض في المسائل التشريعية.
نستثني هنا الأقارب الذين يرغبون في إنهاء حياة المريض لأسباب مالية (مصاريف العلاج، إرث، الخ)
المصادر والمراجع
ابن أبي أصيبعة. 1996. عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق ودراسة الدكتور عامر النجار، الجزء الأول. بيروت: دار المعارف.
عبد الرحمن، طه. 2014. بؤس الدهرانية.النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين. بيروت: المؤسسة العربية للأبحاث والنشر.
عبد الرحمن، طه. 2006 أ. روح الحداثة.المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية. الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العرب.
عبد الرحمن، طه. 2012 أ. روح الدين.من ضيق العلمانية إلى سَعة الائتمانية. الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2006 ب. سؤال الأخلاق.مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2012 ب. سؤال العمل، بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم. الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2017. سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع.
عبد الرحمن، طه. 2015. سؤال المنهج—في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع.
عبد الرحمن، طه. 1997. العمل الديني وتجديد العقل. الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي.
Abu-El-Noor, N.I., and, M.K. Abu-El-Noor. 2014. “End of Life-Decisions: An Islamic Perspective.” Online Journal of Health Ethics 10 (1): 1–19, http://dx.doi.org/10.18785/ojhe.1001.04.
Audard, Catherine. 1999. Anthologie historique et critique de l’ utilitarisme, tome 1: Bentham et ses précurseurs (1711–1832). Paris: PUF.
Aumonier, Nicolas et al. 2001. L’ euthanasie. Paris: PUF.
Aristote. 2014. Œuvres complètes. Paris: Flammarion.
Beauchamp, Tom, and James Childress. 2008. Les Principes de l’ éthique biomédicale, Paris: Les Belles lettres.
Davis, Thomas D. 2014. Contemporary Moral and Social Issues: An Introduction through Original fiction, Discussion, and Readings. Chichester: Wiley Blackwell.
Dowbiggin, Ian Robert. 2005. A Concise History of Euthanasia. Lanham: Rowman & Littlefield Publishers, Inc.
Durand, Guy. 1999. Introduction générale à la bioéthique: histoire, concepts et outils. Montréal: Fides.
Ekanga, Basile. 2013. À Propos du suicide assisté et de l’ euthanasie aujourd’ hui. Bloomington: iUniverse.
Feenberg, Andrew. 2004. (Re)penser la technique. Vers une technologie démocratique. Paris: La Découverte.
Goodpaster, Kenneth E. 1978. “On Being Morally Considerable.” Journal of Philosophy 75 (6): 308–325.
Gorsuch, Neil. 2006. The Future of Assisted Suicide and Euthanasia. Princeton: Princeton University.
Heath, Peter Lauchlan, and J.B. Schneewind. 2001. Immanuel Kant. Lectures on Ethics. Cambridge: Cambridge University Press.
Jonas, Hans. 1994. Le concept de Dieu après Auschwitz. Paris: Rivages.
Jonas, Hans. 1999. Le principe de responsabilité. Paris: Flammarion.
Kant, Emmanuel. 1994. Métaphasique des mœurs Tome 1. Paris: Flammarion.
McDougall, Jennifer Fecio and Martha Gorman. 2008. Euthanasia. A Reference Handbook. Santa Barbara: ABC-CLIO.
Ricot, Jacques. 2010. Éthique du soin ultime. Rennes: Presses de l’ EHESP.
Taylor, Paul W. 1986. Respect for Nature: A Theory of Environmental Ethics. Princeton: Princeton University.
The Intergovernmental Panel On Climate Change. “Climate Change 2014. Synthesis Report”. Accessed June 21, 2018, www.ipcc.ch/pdf/assessment-report/ar5/syr/SYR_AR5_FINAL_full_wcover.pdf
White, Lynn Jr. 1967. “The Historical Roots of Our Ecologic Crisis.” Science 155 (10 Mar): 1203–1207.
World Health Organization. “Dementia”. Accessed July 2, 2018, www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/dementia