مقدمة
قدم كلٌّ من طه عبد الرحمن و طلال أسد نقدًا أخلاقيًّا للعلمانية، فقد رفضا التصور الذي يتبنى المسار الخطي الذي يرى أن علاقة الإنسان بالدين علاقة تطورية تبدأ بالدين وتنتهي بالعلمانية،1 بالرغم من اختلافهما في تحديد مفهوم العلمانية وتشكلاتها وكيفيات تحققها، وتباين تقويمهما لعلمنة الأسرة لاختلاف تصورهما لبنية الأخلاق الدينية. يناقش هذا الفصل التقويم الأخلاقي لعلمنة الأسرة بين طه وأسد منطلقًا من جملة التساؤلات هي: ما طبيعة الدهراني عند طه وما طبيعة العلماني عند أسد؟ كيف نظر كل منهما إلى انفصال الأخلاق عن الدين؟ كيف حددا الأسرة العلمانية الحديثة؟ ولم انقلبت القيم الأساسية التي بشرت بها الأسرة الحديثة؟ وما تجليات هذا الانقلاب على مستوى المروءة والإلزام والسعادة؟ كيف تسبب هذا الانقلاب في تآكل الواجب الأسري وإحلال المنفعة مقياسًا للروابط الأسرية؟ وكيف أجرأ طه مبادئ النموذج الائتماني كحل لأعطاب الأسرة العلمانية الحديثة؟ في المقابل كيف نظر أسد إلى انسحاب الأخلاق الدينية داخل الأسرة العلمانية؟ ما معنى تعطيل التوسط المرتكز إلى الأخلاق الدينية؟ ما حقيقة الأخلاق العقلانية التي حلت محل الدينية داخل الأسرة الحديثة؟ ما دلالة علمنة الأسرة بخضوعها للقبضة القانونية؟ ما ملامح الحلول المستشفة من التشخيص الانتربولوجي لأدواء الأسرة عند أسد؟ كيف يعول أسد على الجماعة كحاضنة للروح الدينية تقاوم القانون الذي حل محل الأخلاق؟ كيف جابهت الأخلاق الائتمانية آثار أخلاق النظام العولمي على الأسرة المعاصرة؟
سيلاحظ القارئ خفوت اسم أسد في الفقرة الأخيرة التي تخص الأسرة والعولمة؛ لأن أسد ظل منشغلاً بعلاقة الأسرة بالعلمانية، ولكن المدرسة الاجتماعية التي ينهل منها بقيت حاضرة من خلال مناقشة اقتراحات طه، وهي مدرسة ناقدة لليبرالية والدولة الحديثة والقانون. بالإضافة إلى أن طه فيلسوف أخلاقي، وغالبًا ما يكون للفلاسفة حلول؛ بخلاف الأنتربولوجيين والسوسيولوجيين الذين يقفون عند التشخيص والتحليل دون اقتراح الحلول، وإن لم يمنع هذا من أن نوازن بينهما في التشخيص وأحيانًا الحلول حتى تستوي المقارنة.
1 العلمانية بين طه عبد الرحمن وطلال أسد
1.1 العلمانية عند طه عبد الرحمن
يؤسس طه نقده للعلمانية على أساس رفضه فكرة أن علاقة الإنسان بالدين خاضعة للتطور الذي ينتقل الإنسان بمقتضاه من مرحلة السحر إلى الاعتقاد بتعدد الآلهة ثم التوحيد إلى أن يتخلص من الدين كليةً.2 وقد اشترك في هذه الرؤية المدرسة التطورية مع تايلور والمدرسة الوضعية الفرنسية مع أوغست كونت، ونتج عنها أمران: زوال الدور الاجتماعي للدين من حيث قدرته على تدبير شؤون المجتمع، واعتبار أن المسيحية أساس العلمانية، وقد أوجز مارسيل غوشيه ذلك بقوله: ”الدين المسيحي هو دين الخروج من الدين“؛ لأنه رأى في المسيحية الدين الأكثر قابلية للعقلنة خصوصًا مع مشروع الإصلاح الديني الذي تحول إلى لاهوت معقلن.3
يرفض طه هذه التحديدات المنهجية في تفسير مسار العلمانية، مستشهدًا ببعض الدراسات التي أثبتت أسبقية التوحيد على الشرك أو ما درج هؤلاء على تسميته بإله السماء أو الإله الأكبر؛ ما يعني أن الدين سجل رجوعًا قويًّا داخل المجتمعات المعاصرة ذات الهياكل والمؤسسات التي لا قِبَل للشعوب البدائية بها، والتي كانت تقتات على الغيبيات في تدبير حياتها، فالعلمانية ليست حصيلة تطور أو تراكم كما يزعم هؤلاء.
ولضبط المفهوم يدقق طه في الاشتقاق اللغوي مبينًا أن العِلمانية من العلم، والعَلمانية من العالم، وهو لا صلة له بالسياق التداولي للفكر الغربي؛ لأن العالم يحيل إلى العلامة التي تشير إلى صاحبها الذي هو الخالق عز وجل، ولذلك يرى أن التسمية الصحيحة هي الدنيوية أو الدنيانية، أي الارتباط الكلي بالدنيا والصد عن الآخرة (عبد الرحمن 2013، 98). فجوهر العلمانية عند طه هو قيامها على الفصل، ويعبر عن ذلك بقوله: ”من أبرز الآليات التي توسلت بها الحداثة في إقامة مشروعها الدنيوي آلية تفريق المجموع“ (عبد الرحمن 2014، 11)، ويسميها أيضا آلية فصل المتصل؛ ولما كان الدين يتصل بمختلف مجالات الحياة اتصالاً يتخذ أشكالاً وأقدارًا متفاوتة، انبرت الحداثة لهذه الأشكال المختلفة لتعطل قانون الدين في هذه المجالات الحيوية إلى أن استقلت بذاتها، سواءٌ في تحديد معاييرها الداخلية أم في تدبير أمورها الخارجية.
يبدو أن الأدبيات السوسيولوجية توافق على تحديد العلمانية بمبدأ الفصل وهو ما عبر عنه ماكس فيبر باستقلالية دوائر القيم4؛ إذ لكل دائرة منطقها ومعاييرها وقيمها، ولكن كيف يحدد طه هذا الفصل المعبَّر عنه بالدنيانية التي يتم بموجبها تجريد دوائر الحياة المختلفة من الدين، أو صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة، وهي أقرب ما تكون إلى المفهوم الإنجليزي (secularization) المعرّب بـ”العلمنة“. فطه يميز بين ثلاثة مستويات من الفصل يختص كل منها بمصطلح خاص. الأول: العَلمانية وهي الصورة الدنيانية التي اختصت بفصل السياسة عن الدين، والثاني: العِلمانية وهي الصورة الدنيانية التي اختصت بفصل العلم عن الدين، والثالث: الدهرانية وهي الصورة الدنيانية التي اختصت بفصل الدين عن الأخلاق.5 و أن المستوى الثالث هو أشد الانفصالات خطورة وأبلغها أثرًا؛ لكونه أتاح إمكانية وجود أخلاق من دون إيمان ومجتمع ديني بلا دين (عبد الرحمن 2014، 12).
يسعى طه—فيما يبدو—إلى طي المشروع الحداثي نظريًّا عبر قلب المبادئ التي يستند إليها وإحلال المبادئ الإسلامية مكانها، فالعلمانية حين تَقصر العمل الديني على المجال الخاص والعمل السياسي على المجال العام، تنمّي نزعة التسيُّد؛ إذ تفصل التدبير عن الدين والتعبُّد عن السياسة، كما تنمي نزعة التغييب؛ إذ تستبعد العامل الروحي والتزكوي الذي يُفتَرض به أن يهذب النزوع نحو التسيُّد، أي أن طه يعترض على الفصل بين الدين (الروح) والدنيا (المادة).
1.2 العلمانية عند طلال أسد
العلماني—في تصور أسد—مفهوم يتضمن سلوكيات وحساسيات ومعارف الحياة الحديثة، ولم يكن يتضمن معنى الإلحاد، ولفهم العلمانية لا بد من فهم التاريخ الغربي، فالديني والعلماني ليسا مقولتين ثابتتين؛ إذ لا يوجد دين جوهري قائم بذاته، ولذلك اهتم أسد بدراسة تَشكُّل ”العلماني“ وتاريخ الانقطاع الذي حصل بين نمط حياة العلماني والمسيحية حيث تمت إعادة تعريف الكلمات والممارسات، وإحلال مفردات خطابية جديدة مكان أخرى، وهو ما يتطلب استكشافًا؛ بالرغم من وجود تداخل بين المقدس والعلماني ظل حاضرًا من خلال إسهام الأسطورة الدينية في تشكل المعرفة التاريخية والحساسية الشعرية الحديثة (Asad 2003, 37). ولكن هذا التداخل لا يجعل من التاريخ والشعر دينيين بالضرورة. يتوخى أسد من خلال أنثروبولوجيا العلمانية الابتعادَ عن فكرة كون العلماني قناعًا للديني، أو أن الممارسة السياسية العلمانية هي محاكاة للدين.
يميز أسد بين ”العلمانية“ باعتبارها مذهبًا سياسيًّا و”العلماني“ باعتباره مقولة إبستيمولوجية تستبطن رؤية للحياة والوجود؛ إذ تظهر إرهاصات العلمانية بوصفها مذهبًا مع حروب القرن السادس عشر الدينية التي تبنى العالم المسيحي على إثرها مبدأ ”الناس على دين ملوكهم“ لحل المشكلات السياسية داخل المجتمع المسيحي الغربي، ومن هنا انشغل صدر الحداثة بالفصل بين السياسة والدين كأداة لتعزيز التسامح والسلام الاجتماعيين؛ جراء حروب أوربا الدينية الطاحنة. وخلافًا للسردية التاريخية التي يتزعمها تشارلز تايلور، يرى أسد أن العلمانية ”ليست إجابة فكرية عن أسئلة تخص دوام السلم الاجتماعي والتسامح، وإنما هي تشريع تَحقق من خلال ممارسة دور الوسيط السياسي (تمثيل المواطنة)6 الذي يعيد تعريف المفاهيم، ويتعالى على مختلف أساليب التعبير عن الذات داخل الطبقة أو النوع أو الدين“ (Asad 2003, 5)، في حين أن الوساطة في المجتمعات ما قبل الحديثة كانت تتضمن أساليب مختلفة للحكم بين الهويات المحلية دون التعالي عليها. فالعلمانية عند أسد تتوزع على ثلاثة مستويات: الأول: العلمانية (secularism) وهي مذهب سياسي يشير إلى الفصل بين الدين والسياسة، والثاني: العلماني (secular) وهو مقولة إبستيمولوجية تقابل المقولات الدينية، والثالث: العلمنة (secularization) وهي السيرورة التاريخية لتجسيد العلمانية في مجالات الحياة، سواء على مستوى المنظومات الفكرية أم البنى المجتمعية.
فكل من طه وأسد يميز إذن بين ثلاثة مستويات للعلمانية ويطلق على كل واحد منها اصطلاحًا خاصًّا، ولكن ما يهمنا هنا هو مستوى واحد من المستويات الثلاثة وهو ما سماه طه ”الدهرانية“؛ بمعنى فصل الدين عن الأخلاق، وسماه أسد ”العلمانيّ“؛ بمعنى المقولة الإبستيمولوجية التي تقابل المقولة الدينية، وذلك لما بينهما من تقاطع، وهو ما سنفصل فيه فيما يأتي.
2 فصل الأخلاق عن الدين بين طه عبد الرحمن وطلال أسد
2.1 طه عبد الرحمن والدهرانية
يتخذ الفصل بين الدنيا والدين وجوهًا مختلفة، منها انفصال القانون عن الدين، والدين عن السياسة، والأخلاق عن الدين وهو محل البحث هنا، ومن تجلياته بروز حساسيات وأنماط سلوكية تخالف الوجدان أحيانًا، وتغلو في العقلانية أحيانًا أخرى كادعاء روحانية بلا إيمان، أو ”أخلاق بلا ألوهية“، أو ”الأخذ بالأخلاق بلا روحانية“ كما عند روسو، فالدهرانية قد تخترع دينًا دنيويًّا كالذي سماه بعضهم ”الدين الطبيعيّ“ أو كالذي سماه آخرون ”الدين المدنيّ“؛ بهدف تجاوز الميتافيزيقا وتأسيس الأخلاق على أسس عقلية أو اجتماعية أو طبيعية لتجنب فكرة التعالي الإلهي. وقد صنف طه هذا في أربعة اتجاهات: طبيعي يمثله جان جاك روسو، ونقدي يمثله إيمانويل كانط، واتجاه اجتماعي يمثله إميل دوركايم، و ناسوتي يمثله لوك فيري.7 لقد وظف طه معيارا يعتمد على ثلاث مسلمات نقدية بنى عليها تقويمه لهذه الاتجاهات وهي مسلمة ”التبدل الديني،“8 ومسلمة ”التخلق المزدوج،“9 ومسلمة الآمرية الإلهية10 التي على أساسها سيجري تقويمه للدهرانية، مركزًا في نقاشه مع هؤلاء المفكرين على رؤيتهم الدهرية التي تجعل الإنسان مركزًا للكون في استعاضة تامة عن الخالق. فجان جاك روسو عارض الدين المنزل بالدين الطبيعي نابذًا كل صنوف الطقوس والخرافة وداعيًا الى دين من دون وحي، وإلى التخلص من كل موروث فكري أوديني، وإلى الإنصات إلى حالة الطبيعة الأولى التي جُبل عليها الكائن في صفائها وبراءتها، أي إلى ضمير الفرد الصافي الذي ما زال صفحة بيضاء خالية من كل شوائب عناصر الثقافة. أما كانط فقد صبغ الدين بمنظور عقلاني، واختزله في المتعالي عن كل ما هو طارئ أو تاريخي حين فصل الدين عن المعتقد نابذًا كل أشكال العبادات كالصلاة والدعاء؛ لكونها تُوقع المتعبد في الوهم والخرافة (عبد الرحمن 2014، 40)؛ فالعبادة الحقة عند كانط هي عبادة الخلُق. أما دوركايم فقد أَنزل المجتمع مكان الإله حين جعل الضمير الجمعي مصدر الإلزام والطاعة والرهبة، والمجتمع مُنشئ الواجبات الأخلاقية من خير و شر، وفضيلة و رذيلة.11 وقد استعاض دوركايم عن الأخلاق المنزلة بأخلاق دهرانية تَمتح من المسيحية ذاتها؛ إذ واجب الإنسان الأساسي نحو الإله هو أداء واجباته نحو أخيه الإنسان (عبد الرحمن 2014، 43)، وهذا ما شجع على تقليص الأعمال الموجهة لله لتصبح وظائف أخلاقية مجردة.
أما لوك فيري فقد رأى أن أخلاق الدين الفلسفي أَولى من أخلاق الدين المنزل؛ لأمرين: الأول: أن الدين الفلسفي هو الصورة الأخلاقية الكلية الفضلى النافعة للبشرية لأن مرجعها العقل، وذلك بخلاف الصورة الفطرية للدين المنزل المؤسسة على الإيمان والمجسدة في العبادات.الثاني: أن الدين الفلسفي يَفضُلُ الدين المنزل؛ لأنه دَهْرَن أخلاقه وأَنْسنَها بشكل تدريجي بعد أن اقتبسها من الدين، في حين أن الدين المنزل نزل بقيم أخلاقية دون سابق علم (عبد الرحمن 2014، 48) أو مراعاة لإنسانية الإنسان.
تشترك هذه الرؤى جميعًا في فصل الأخلاق عن الدين وأَنسنتها ونزع الصفة الإلهية عنها، أي نزع اللباس الروحي عنها وإلباسها لَبوسًا زمنيًّا بالحضور المكثف للنزعة الأنتربولوجية والميتافيزيقية في مقاربة الشأن الإلهي.
2.2 طلال أسد وتَشَكل العلماني
ارتبط مفهوم العلماني عند أسد بإعادة صياغة علاقة القانون بالأخلاق، وحمل معه مشاعر العداء والجحود لما هو ديني؛ مع كراهية للطقوس وسلطة الكنيسة، وقد تداخلت هذه الأحاسيس12 مع التفكير العقلاني والمشاريع المجتمعية الشاملة للإصلاح السياسي والاجتماعي؛ استنادًا إلى الترسانة القانونية، وتعالت صيحات بعض المفكرين العلمانيين بعدم جدوى الإيمان مع الإصلاح الاجتماعي والسياسي في عالم سريع التحول التكنولوجي؛ إذ لم يعد متاحاً المزج بين الأخلاق التي تعني الإيمان، وإعادة بناء المجتمع أو إصلاحه الذي يفترض أسسًا جديدة مرتبطة بالقانون. وحتى يتم هذا الانفصال تم اختراع تصور مختلف عن الجماعة يقوم على أن المجتمع عبارة عن مجموعة سكان لا يحظون بحقوق وحصانة ذاتية وفاعلية أخلاقية فقط، ولكن يمتلكون أيضًا القدرة على انتخاب ممثليهم السياسيين، وعلى هذا الأساس يتم التفاوض بين الأخلاق الشخصية وقانون الدولة (Asad 2003, 24). في القرون الوسطى كان المجتمع هبة ربانية وعبارة عن أرواح مسيحية تحظى بالكرامة المتساوية؛ لكونها تعيش في مدينة الرب بحسب تعريف أوغسطين، ولكننا مع هذا التصور العلماني أصبحنا أمام نمط جديد من تصنيف المواطن على أساس سياسة الأعداد الكبيرة؛ بحيث يتم السعي إلى تمثيل ”الإرادة الجمعية“ عبر قياس الرأي العام ووهم انتخاب المواطنين، يرافق ذلك بثُّ شعور وإحساس لدى المواطن بنوع من الذاتية، وهي إجراءات تكمن علمانيتها لدى أسد في تعاملها حصرًا مع الاستعدادات الدنيوية. ثمة ثلاثة عناصر ساهمت في الانفصال بين الأخلاق والدين المسيحي الأول: التحول الذي طرأ على معنى الوحي؛ فقد تم توجيه الحياة من الغايات الكبرى إلى القدرات الإبداعية للفرد، أي انتقل التفكير من الجانب الوجودي إلى الجانب المعرفي، و تحول الوحي من كونه ظاهرة خارقة للطبيعة إلى فعل إبداعي حتى يحظى بالقبول من طرف المؤمنين، والحال أنه مع تغير العلاقة بين الوحي والمؤمن من علاقة وجدانية وجودية إلى علاقة عقلانية (من الإيمان إلى الاعتقاد)13 تعزز دور اللغة كأداة توسط وتمثيل للوحي، عبر نزع الصبغة الوجودية عنها، فلم يعد يُنظر إلى الكتب المقدسة بوصفها معطى إلهيًّا، بل تَوَجه البحث إلى السؤال عن أصالتها التاريخية من خلال الاستعانة بالفيلولوجيا، وقد ساهم نقد الكتاب المقدس في إنتاج مجال التاريخ العلماني الذي أصبح يمثل ذاكرة نصية لاتنفك عن الحياة الحديثة داخل الدولة القومية. فما حدث كان إرهاصات لأخلاق جديدة تنسحب منها الغايات الوجودية الكبرى، وتتحول العلاقة فيها بين المؤمن والمعتقَد من علاقة وجودية إلى علاقة إبستيمولوجية، فليس المهم الفعالية أي ما تُحدثه من وقع في ذات المؤمن وإنما المعنى الذي ينبغي أن يصل إليه بفعل آلية التأويل العقلاني. لقد أصبحت الأخلاق شأنًا عقلانيًّا بعدما كانت شأنًا وجدانيًّا.
العنصر الثاني الذي ساهم في إعادة تشكيل أخلاق الدين المسيحي تجلى في مفهوم الأسطورة، فقد شكلت بديلاً للدين من خلال تصويرها بأنها قادرة على تقديم إجابات عن الأسئلة الوجودية المحيرة التي يصادفها العقل الإنساني (Asad 2003,55)؛ فقد مثّلت الأسطورة منهجًا للانفلات من قبضة كل ما هو قديم يحيل إلى التقاليد والدين والأخلاق الدينية. وهي بهذا المعنى تحيل إلى مركزية الإنسان؛ فمهمتها فضح سلطة النصوص الدينية، والاحتفاء بمكانة وعظمة الإنسان عبر استرجاع قداسته التي سرقها منه الدين. وحتى تتمكن من ممارسة هذا الدور قدمت المادةَ التي تمكنها من استكشاف سيكولوجيا وعواطف الإنسان مُشَكِّلة بذلك مادة للممكنات وحدود الفعل Asad) 2003, 29). لقد تم تأسيس أخلاق جديدة على أساس أسطوري تنفر من كل ما هو قديم يحيل إلى الدين المسيحي، وتعتمد على العرضي الطارئ، جوهرها الإنسان وليس الإله. وقد ساعد على ذلك التحول، النظرةُ العلمانية للإنسان؛ فبعد أن كان يُنظر إليه على أنه طبيعة ثابتة صار يُنظر إليه—في القرن التاسع عشر—على أنه حالة معيارية تدعم فكرة التقدم الأخلاقي المحدد عبر الفاعلية الإنسانية المستقلة (Asad 2003, 24). إنها تترجم عالم ”الممكن“ وليس ”الفعلي“ الذي هو من الله.
العنصرالثالث الذي ساهم في تشكل الأخلاق الحديثة هومفهوم المقدس؛ فالكلمة لم ترد في السياق التداولي والكتابات ماقبل الحديثة واللاهوت الوسيط، لأن حقل الإمكان المعرفي تضمن فقط الإلهي والشيطاني، لكن كلمة مقدس أصبحت بارزة في زمن الثورة واكتسبت صدى مرعباً للسلطة العلمانية، ولذلك تحدثت مقدمة إعلان حقوق الإنسان والمواطن (1789) عن ”الحقوق الطبيعية والمقدسة غير القابلة للمصادرة،“ ووُصف الحق في الملكية في المادة 17 باعتباره حقًّا مقدسًا، وقد كان شعار ”الحب المقدس للوطن“ تعبيرًا شائعًا في القرن التاسع عشر. لقد غدا مفهوم المقدس خاصية كونية خفية متضمنة في الأشياء وفي الموضوعات لكنها محصورة في العالم الأرضي، كما غدا المقدس قوة متعالية تفرض نفسها على الذات، ومجالاً لايمكن بأي حال اغتصابه أو خرقه. بإيجاز، تحول المقدس إلى شيء خرافي أو أسطوري حيث تم التركيز على الانضباط الإداري والأخلاقي، وأصبح الحق المقدس في الملكية كونيًّا بعد التحرر من الأراضي المشاعية والاقطاعات الكنسية، وتأسست حرمة الضمير كمبدأ كوني يعارض السلطة الإكليروسية وقواعد الإفتاء في قضايا الضمير14 المفوضة، ومع اللحظة الأولى للتحول نحو العلمانية أصبحت هذه الدعوات متعالية ووضعت لنفسها إطارا لحركيتها، وضوابط قانونية و أخلاقية لحماية ذاتها حتى بالعنف إن اقتضى الأمر ذلك؛ باعتبارها مبادئ كونية، وقد وجدت هذه الأخلاق المبنية على هذا المفهوم الجديد للمقدس أبرز تجلياتها في النسق الليبرالي السياسي الذي قام على فكرة الإجماع الثقافي سواء بالعقل أم بالقوة، كتمثيل ”الإرادة الجمعية“ بقياس الرأي ووهم الانتخاب الفردي، كما أنها تفترض نوعًا من الأخلاق مبنية على قداسة الوعي الفردي، والحق الفردي.
3 الأسرة الحديثة بين طه وأسد
3.1 الأسرة الحديثة تجسيدًا للدهرانية عند طه
يجسد نموذج الأسرة الغربية عمليًّا فكرة الدهرانية في نظر طه، فكيف شهد هذا النموذج انفصال الأخلاق عن الدين؟ مهدت العناصر الثلاثة المشار إليها سابقًا لأخلاق لادينية داخل الأسرة الحديثة أصبحت من صميم العلاقات الأسرية؛ فالزواج عقد مدنيٌّ، والطلاق أمرٌ ميسور، وعلاقة الحب بين الزوجين هو المعيار.
الأسرة في نظر طه هي المكان الذي تكون فيه الوشائج بين أفرادها محكومة بضوابط أخلاقية، فهي علاقة زواج وما يستتبعه من علاقة بنوة وأبوة وأخلاق تضفي على هذه العلاقة صبغة إنسانية. ولما كانت الأسرة هي موطن العلاقات الأخلاقية، فإنه يصح القول: لاأخلاق من دون أسرة. ولكن الحداثة قطعت مع الأخلاق الدينية (كالخوف من جهنم والطمع في نعيم الجنة) التي كانت الأسرة تزود بها أفرادها، وقد تجلى ذلك القطع من خلال ثلاثة مبادئ: الأول: الاستعاضة عن الله في كل شيء والتوجه إلى الإنسان، في حين أن الأخلاق الدينية ورثت الإنسان أخلاق المروءة التي كان من خصائصها (أ) التعامل الغائي مع الإنسان مما يوجب حفظ كرامته، (ب) والنسبة الجماعية، أي ضرورة انتمائه إلى جماعة مما يعزز شعوره بإنسانيته، (ج) واعتبار الهوية الخاصة بكل إنسان محددة لشخصيته، فمكانة الزوج محددة من خلال أدواره المعينة التي لا يقوم مقامه أحد فيها. من هذا المنطلق الأخلاقي يستحيل أن يكون الشخص مجرد فرد نكرة، بل هو شخص فعلي معروف يتمتع بخصوصية تجعله يتصف بالمروءة.
هكذا تم نقل الأسرة من الدائرة العامة إلى الدائرة الخاصة في مقابل المجتمع الذي ينضوي في الدائرة العامة، وكأن الدولة الحديثة اعترفت للأسرة باستقلال مخصوص لا تتدخل في مضمونه بل في حدوده (عبد الرحمن 2006، 104). لقد أصبحنا أمام ما يسميه طه بالخصوصية الأخلاقية؛ إذ يُنظر لكل عضو على أنه وحيد لا بديل عنه.
المبدأ الثاني: القطع مع الوحي الذي كان يوجه الإنسان والارتكان إلى العقل وحده، وقد ورث العقل أخلاق الإلزام المتمثلة في (1) الحرية الراشدة، وهي تقوم على العقل الذي يحدد منافع ومضار صاحبه، (2) والواجب الخالص الذي يقوم به الإنسان انطلاقًا من تقديراته الذاتية دون خوف من الآخرة أو طمع في الجنة، (3) والحق الثابت، وهو سعيه المستمر في البحث عن الأفعال التي تحفظ كيانه وتجنبه كل ما يهدد وجوده، كمطلب الحق في الحرية. لقد ورّثت هذه العناصر أخلاق الإلزام لدى الأسرة في الواجبات وهي ”الواجب العائلي قبل الحق الشخصي؛“ علما بأن هذه الواجبات تراعي الفرق بين الجيلين والفرق بين الجنسين، ثم إن حفظ هذه الواجبات صيانة للأسرة وفي ذلك حفظ و تماسك للمجتمع، بهذا المقتضى تحولت أخلاق الأسرة من المصلحة المادية إلى مبدأ الحب الوجداني واستمتاع أعضائها بمبدأ الحب، ومبدأ التراضي ألا وهي السعادة.
المبدأ الثالث: التعلق بالدنيا التي فيها السعادة الحقيقية للإنسان، وما الآخرة أو العالم الآخر سوى وهم من نسج الخيال؛ فبانفصالها عن الدين وتعلقها بالدنيا ورثت هذه الأخلاق أخلاق السعادة، فقد أصبحت السعادة حقًّا طبيعيًّا لا يختلف عن باقي الحقوق، ما يعني أنها جزء من الواجب وتابعة له. وقد تتوافق السعادة الخاصة مع السعادة العامة، ولكن هذا يعتمد أساسًا على درجة الأمن والحرية والازدهار، ومع ذلك تظل السعادة الفردية مقيدة بالسعادة المجتمعية أو الإرادة العامة (عبدالرحمن 2006، 109)، وهي قضايا تتكفل بها الدولة من خلال مؤسساتها المختصة.ويمكن القول: إن سلوكيات الأسرة الحديثة تأسست على قيم أخلاقية يختزلها طه في ثلاثة عناصر: المروءة، والإلزام، والسعادة. إلا أنه برغم ما بشرت به هذه القيم الحداثية من اعتماد العقل في تقدير الحقوق والواجبات والحب المتبادل في تحقيق السعادة، لكن حصرها لغاياتها في الإنسان وفي الحياة الدنيا بمتعها المادية، جَرَّ تضييقًا على أفقها، فانحلت إلى أنانيات وتقاعس عن الواجبات؛ وذلك لكونها قيمًا طارئة غابت عنها الشواهد الأخلاقية المثلى المنبثقة من الدين مما جعلها قابلة للارتداد على ذاتها.
يرفض طه ربط التحولات التي عرفتها الأسرة بقيم الصراع، كما يرفض الرؤية الماركسية والنسوية التي تعتبر هذه التحولات حالة طبيعية، ويرى أن انخراط الأسرة في النسق الرأسمالي ومنطق التبادل التجاري والإدارة البيروقراطية جرَّ عليها تَشَرُّب أخلاق هذه المؤسسات كالقوة والاستهلاك، و لا يعترف طه بوجود أسباب موضوعية في هذه التحولات ويرى أنها استنزفت الباحثين من دون جدوى.
الذي حدث أن أخلاق المروءة والإلزام والسعادة انقلبت والتوضيح كالآتي:
أولاً: انقلبت المروءة إلى إمعية حيث تفككت العلاقة الأخلاقية بين أفراد العائلة بتخلي كل فرد فيها عن واجباته، وبات القانون تبعًا للوضعيات المتطورة التي عرفتها الأسرة، فلم يعد للقانون ”أن يقرر ما ينبغي أن يكون منها، ولا كيف ينبغي أن يكون على مقتضى ما توجبه فلسفة أخلاق الأسرة، بل عليه أن يزكي ماهو كائن منها بالوجه الذي هو كائن على مقتضى ما يقرره علم اجتماع الأسرة“ (عبدالرحمن 2006، 115). يبدو أن موقف طه من القانون يختلف عن موقف أسد الذي اعتبر خطورة القانون ليس في تبعيته، بل في كونه رسم تصورًا جديدًا و قواعد جديدة للأسرة موازية للتحولات الاجتماعية. ولكن إذا كان طه يعيب على القانون تبعيته للأوضاع الجديدة المختلة، فمن الذي صنع هذه الأوضاع إن لم يكن هو القانون نفسه؟ يظهر هذا التناقض حينما ينتقل طه إلى الحديث عن مظاهر الإمعية المتمثلة في إلغاء سلطة الأب فيقول: ”تقرر أن تنتزع منه السلطة على الزوجة“ (عبد الرحمن 2006، 116)، وأن تصبح السلطة على الأولاد وإدارة شؤون الأسرة مشتركة بينهما، بل لقد انتقلت السلطة إلى الأم ابتداءً بالحضانة، مع إنهاء تحكم الأب في النسل، فوحدها الزوجة لها الحق في أن تقرر شأن الحمل والإجهاض والتكتم على الوالد الاصطناعي، وهو ما ترتب عليه الإنهاء التام للصفة النموذجية للأب، من خلال ظهور وسطاء جدد كالنفسانيين والخبراء الاجتماعيين؛ إذ عوض أن يوحدوا بين الأبناء والآباء نجدهم يَحُدّون من السلطة التربوية للآباء، عاملين على تحطيم هيبتهم ومرجعيتهم داخل البيت. في المقابل تم الرفع من شأن وقدرات الأبناء على التكيف مع كل ما يمكنه أن يحصل داخل الأسرة من طلاق أو خيانة، كل هذا في وقت يزداد شعور الرجل بالذنب تجاه المرأة والطفل جراء الثقل التاريخي الغربي للاضطهاد الذي مورس في حقهما. ليست القوانين إذن سبب التحول من أخلاق المروءة إلى أخلاق الإمعية، ولكن السبب في نظر طه هو تجرد الأخلاق من القيم الدينية.
ثانيًا انقلب الإلزام إلى حظ، فتآكلت فكرة الواجب وما تحمله من دلالة دينية،15 وغابت معها واجبات أسرية عدة، كواجب الأمومة والبنوة، وبرزت في المقابل مسألة الحقوق التي اتخذت صورًا عدة؛ ابتداء بالتكثير منها عوض أن تكون حقًّا واحدًا، وتأبيدها حتى وإن جاءت في سياق خاص إلى درجة التضارب، كحق المثليين أو الغلو في طلبها، كحق السفاح الذي يوازي حق النكاح؛ والحال أن سر كل هذا الانقلاب عند طه هو غياب الشاهد/النموذج الأمثل لهذه القيم. فبدلاً من الفطرة الدينية، تم الاستناد إلى حالة الطبيعة كحالة حقوق في توجيه السلوك أو الطبيعة الإنسانية كخصائص موضوعية يتميز بها الإنسان، والحال أن الشاهد الأمثل لالتزام القيم هو الفطرة حيث الواجبات المعنوية والمعاني المثالية، ”فالفطرة هي عبارة عن مجموعة القيم التي يحملها الإنسان في نفسه خَلقًا والتي تحدد كيف ينبغي أن يكون خُلُقا“ (عبدالرحمن 2006، 127).
ثالثًا انقلبت السعادة إلى لعب، فبغياب الواجب حلَّ مبدأ الرغبة، وأصبحت المنفعة مقياسًا للروابط الأسرية، واضمحلت معها السعادة الجماعية أمام تغول النزعات الفردية والأنانية. تجلى ذلك في منطق الرغبات ومظاهرها المادية؛ ابتداء بالاستهلاك وانتهاء بالشهوة الجنسية معيارًا ينبني عليها الحب. لقد تسبب كل هذا في شبه استغناء عن مؤسسة الزواج. ولما كانت السعادة الحقة هي الحياة الطيبة الخالدة عبر فصل الأخلاق عن الدين وما استتبعه من تعلق بالدنيا، فقد ظل مبدأ اللعب هو الغالب على الأسرة، والسبب في ذلك هو تغييب الله وما يتضمنه من قيم التعالي والعقد الميثاقي الذي هو أساس مبدأ الفطرة، وتغييب الآخرة وما تتضمنه من حقيقة الخلود. لقد ضيعت الأسرة الحديثة هذه القيم المثلى، وبضياعها لم تستطع القيم العلمانية أن تملأ الفراغ بأخلاق الإنسانية والعقلانية والسعادة، بل على العكس ارتدت إلى نقيض ما كانت تأمله!
3.2 الأسرة الحديثة نموذج للعلمنة عند أسد
إذا كان طه قد اعتبر الأسرة الغربية نموذجًا عمليًّا للعلمانية، فإن أسد قد اشتغل على علمنة الأسرة المسلمة المصرية الحديثة كنموذج لانفصال دوائر الحياة عن الدين، وتحديدًا انفصال الأخلاق الدينية عن نظام الأسرة، ليتكفل القانون العلماني بإعادة تعريف الأخلاق الحديثة. وإذا كان ”العلماني“ عند أسد مقولة إبستمولوجية ورؤية فلسفية للحياة، فقد ارتبطت المقولة القانونية العلمانية بحساسيات مفصولة جذريًّا عن الأخلاق الدينية؛ إذ لم تعد التصورات التقليدية المجسدة للعدالة فعالة، بل أصبحت السلطة تعتمد كليًّا على قوة الدولة التي يعبر عنها بالقوانين.
تشير كلمة ”عائلة“ إلى مستويين يختزنان الشحنة الأخلاقية التي تمتح من التقليد الإسلامي، فهي تشتق عربيًّا من العلاقة النسبية للأبناء بالآباء، وبكلمة الإعالة، أي تقديم العون للأبناء (Asad 2003, 231) ودعمهم؛ باعتباره مسؤولية دينية وأخلاقية، وقد تطورت بفعل محددات سوسيولوجية لترتبط بوحدة السكن نظرًا لتجمّعهم في منزل واحد يشملهم وذوي القربى، لكن رياح تفكيك بنى التقليد المتمثلة في الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية أجهزت على الوحدات العائلية الكبرى المتمثلة في الأسرة الممتدة، وبتنا أمام نموذج آخر يُعرَف بالأسرة النووية؛ التي أدت إلى تقليص مسؤولية الآباء والإخوة والأخوات والأقارب، وتعويض سلطتهم بقانون الدولة الحديثة، بل أصبحت الأسرة تعني الشراكة كنمط حياة، وهذا يعني أن الزواج يُعقد بمجرد تراضي الطرفين؛ بما في ذلك المشاعر التي يجب أن تكون متساوية بين الرجل والمرأة كضرورة لتعريف بل تحديد مؤسسة الأسرة، وهو—كما يرى أسد—تعريف قانوني للأسرة. ما يُستشف من انفصال الأخلاق عن القانون عنصران: الأول: الاستعاضة عن الروابط الأسرية وما تختزنه من روح دينية حيث الفرد محمي بالجماعة؛ الثاني: هيمنة منطق القانون بارتكان جل العلاقات إلى منطق التعاقد الصوري. والحال أن مكان الأسرة هو الرفق والتضامن والتنازل أي إنها بنية أخلاقية محضة، ولكنها لم تسلم من قبضة الدولة الحديثة تحت سلطة خطابين: أولهما: الرعاية الاجتماعية، وثانيهما: تخليق الحياة العامة. لكن كيف تمت علمنة الأسرة؟ تم ذلك من خلال عدة تحولات نلخصها في الآتي:
-
تعطيل الأخلاق بتعطيل التوسط
تَمَّ—إلى حد ما—اختزال الأسرة ضمن مقولة قانونية بعيدة عن كل الأخلاق الدينية التي تحيا في ظل التقليد، أي أنها فقدت إمكانية إعادة إنتاج نفسها، وفقدت عنصر التوسط الديني المستند إلى الأخلاق الرعائية، بهذا ما عادت قدوة ونموذجًا تحتذي به الجماعة، وعجزت عن توفير الأمان والحماية لأفرادها. فإذا كان التوسط سمح للناس بمراكمة تجاربهم وأعرافهم وتراثهم وخبراتهم، فإنه باجتثاث القانون للأخلاق الدينية أصبحنا أمام توسط جديد من صنع الدولة الحديثة، جعل الأسرة مرتهنة إلى الدولة إحصاءً وتخطيطًا و هيكلة، فهي ساهرة عليها في إطار ما أسماه فوكو ”بالسياسة الحيوية.“16 لقد أصبحت السلطة تمارس على الأجساد، وغدا الأفراد شخصيات معنوية بالمنظور القانوني الذي انتفت معه سلطة الزوجين على جسديهما، فأنت لا تمتلك جسدك؛ لأنك لا تعرف مصلحتك، وكلما اقترب القانون من الأسرة سلبها سلطتها على ذاتها.فخطورة القانون تكمن في نزع وعي الأفراد العفوي؛ باعتبارهم ذاكرة أخلاقية، وتحويلهم إلى ذوات مكتوبة في سجلات محفوظة، مما جعل الأسرة مفهومًا قانونيًّا أحاديًّا عقيمًا. فالقانون هو نتاج العلمنة، ولكونه انبثق من الممكن فإنه لا يمكن إلا أن يكون صوريًّا، أداته الفرض الخارجي المنفصل عن الذوات. فإذا كانت الطاعة في المجتمعات الدينية تسبق القانون، فإن طاعة القانون تظل صورية لا فعلية، فنحن نخضع للقانون وهو منفصل عنا؛ لأنه لا يمثل العالم الفعلي ولكن العالم الممكن.
تكمن عناصر العلمنة في مظاهر: تعميم لغة القانون، وإزاحة الأخلاق لتسهيل عملية التحكم وتطبيع السلوك الاجتماعي الجديد داخل الدولة العلمانية؛ سواء ارتبط بالمجال العام (السياسة) أم بالمجال الخاص (الأسرة الحديثة). لقد مكن انفصال الأخلاق عن القانون المحكمةَ من التدخل في أسرار الحياة الزوجية، وأصبحت موضوعًا للتدخل الإداري، كما يظهر ذلك تقرير وضعه محمد عبده حول المحاكم الشرعية بمصر وتطبيق القوانين حول وضعية الأسرة والتحولات الجوهرية في التعامل مع قضاياها. فما عادت الأسرة شأنًا حميميًّا خالصاً؛ بل أصبحت المحكمة تتدخل باسم القانون للاستماع إلى أدق تفاصيل حياة الزوجين المتقاضيين، وقد أقِر هذا الإجراء بمرسوم 1897 الذي يُلزم بعلنية الجلسات (Asad 2003, 228). إن سحب الأخلاق وتعويضها بالقانون هو أحد أكبر أعراض العلمنة، ويظهر مثاله جليًّا من خلال ما وصفه محمد عبده في تقريره من ترك الناس الاحتكام إلى علاقات القرابة والعصبة والأصهار، ولجوئهم إلى المحكمة لتدبير علاقاتهم وتوتراتهم ونزاعاتهم التي تحدث في البيت، فعلاقاتهم وتوجهاتهم عمودية تجاه القانون أكثر مما هي أفقية تجاه أعرافهم وتقاليدهم وذكرياتهم. لم تعد العلاقات الأسرية تعيش على التراكم، كالواجب والإحسان وأهل الحكمة والفضيلة—وهي مفاهيم يختزنها التقليد الديني—بل أصبحت تخضع لأخلاقيات جديدة تسمى بالصالح العام، ويبدو أن محمد عبده كان واعيًا بجوهر هذا التحول من الأخلاق إلى القانون، فرغم دعواته المتكررة إلى حصر الإصلاح في البنيات والإجراءات الإدارية داخل المحاكم الشرعية دون الشريعة، إلا أنه كان من اللافت أنه اعتبر ”إصلاح الأسرة مشروطًا بإصلاح المحاكم“ (Asad 2003, 228)؛ فقد استوعب أن إصلاح الأسرة لم يعد بيد أفرادها، بل بيد القانون الذي تحتضنه المحاكم.
ما أتت به علمنة الأسرة هو أخلاق ذاتية مستقلة تختلف عن الذاتية الصوفية المعهودة في الثقافة الإسلامية؛ فقد أصبح الفرد معيار ذاته يُحس بالسيادة، وغدت الالتزامات الدينية شأنًا خاصًّا، مما وسع من الخيارات المتاحة للفرد (Asad 2003, 226). وأمام تراجع المعيار الديني وتعدد الاختيارات، تم الاحتكام إلى العقل العلماني وترافق ذلك مع شعور بالاستقلالية الأخلاقية، كاتساع هامش اختيار نمط الحياة مع الشريك، سواءٌ كانت ليبرالية أم محافظة. ولئن بدت الذات الأخلاقية العقلانية الحديثة مستقلة، فإنها لم تفلت من قبضة قانون الدولة حيث خبا وهج السيادة مع الآلة البيروقراطية وانطفأ نور الاستقلال مع إكراهات نظام السوق، وخير مثال على ذلك إبطال الممارسات المجانية التي ظلت—إلى وقت قريب—تنشط الدورة العائلية، وتهيئ غطاء سميكًا لحماية أفرادها وعلى رأسهم المرأة. فالحداثة لم تستطع استيعاب الأفعال المجانية التي تمارس—باستمرار—نوعًا من المقاومة، فجعلتها قابلة للتقويم المادي، وقد عبر كل من بيير بورديو ماكنتاير (Bourdieu 1994, 180–181; MacIntyre 2007) عن هذا المعنى بالقول: إن الترتيبات الاقتصادية قد نشأت ضد غرس الفضيلة، وقد دفع طرح مفهوم الأجر في العلاقات الإنسانية إلى العدمية.
أصبح أفراد الأسرة أشخاصًا معنويين بالمنطق القانوني، وغدت الواجبات الأسرية موضوعًا للتفاوض عوض أن تكون موضوع امتثال لها بوصفها التزامات دينية. فمع تمدد لغة القانون بين مفاصل الأسرة وغياب التوسط الفعلي بأفول لغة الواجبات لحساب لغة الحقوق، حدث شرخ بين منطق حاجات الأفراد ومنطق حياة الأسر، تجسد من خلال تنامي الفجوة بين التنشئة الأسرية والواقع المعاش، وزُرع التوتر بين ما هو كائن (حيث الاستطراد الأخلاقي وصوت الواجبات) وما ينبغي أن يكون (حيث القانون والحقوق الممكنة)، حتى بدت العلاقات الأسرية كأنها مصطنعة. صحيح أن اكتساح القانون للأسرة حمل معه إمكانات متعددة من ضبط للعلاقات تحت مسطرة الحقوق والواجبات؛ بحجة ضمان استمراريتها، لكن المفارقة هي الانسحاب التدريجي للتواصل الفعلي بين أفراد هذه المؤسسة.
4 فعالية النقد الأخلاقي في تقويم علمنة الأسرة
إذا كانت الفكرة المركزية في نقد الأسرة الحديثة هي فصل الأخلاق عن الدين، فكيف سيعمل المنهج الائتماني على ربط الأخلاق بالدين، وكيف سيؤثر ذلك في إعادة توجيه وتقويم الأسرة الحديثة؟
في المقابل إذا كان فصل الأخلاق عن الدين قد تم بفعل السلطة والقوة لدى أسد، كيف نستشف من المنهج الانتربولوجي معالم إعادة إنتاج الأسرة ذاتها من جديد في استقلالية عن كل تنميط قانوني؟
يرى طه أن سر هذا الفصل الذي حكم الرؤية الدهرانية هو التنكر للآمرية الإلهية؛ فالدهرانية تحمل تصورًا باطلاً عن علاقة الله بالإنسان يَلزم عنه علاقة باطلة بين الأخلاق والدين أساسها الفصل لا الوصل، ومن هنا يقدم النموذج الائتماني نفسه بديلاًعن النموذج العلماني. لن نتناول هنا كل عناصر الأنموذج الائتماني، ولكن سنركز على عنصرين لهما ارتباط وثيق بتقويم نموذج الأسرة وهما: مبدأ الإيداعية ومبدأ الفطرية.
لنشرع بالمبدأ الأول وهو الإيداعية. كان من انعكاسات علمنة الأسرة الحديثة حصولُ آفة التَرَبُّب؛ فالدهرانية توجهت إلى الإنسان بدل الله، فأصبح الإنسان قادرًا على تحديد مصيره، وامتلاك زمام أمره مستقلاً عن أي قوة غيبية مما أدى إلى تسيده. وقد كان من نتائج المبدأ العلماني في تعظيم الإنسان وما ورثه من أخلاق المروءة الاستغناء التام عن القوة الغيبية، وفقدان الحس الأخلاقي الديني الذي هو عماد الأسرة، وذلك بانقلابها من أخلاق المروءة إلى أخلاق الإمعية، وفقدان كل فرد القدرة على الارتقاء بها أخلاقيًّا؛ إذ لم تعد هناك مرجعيات ولا ثوابت واضحة للأسرة حتى غدا أفرادها غير قادرين على تحديد هويتهم الشخصية، فهم يتقلبون بحسب نوازعهم الذاتية ومصالحهم الفردانية إلى حد الرغبة في تملك كل شيء. يقترح طه للخروج من هذا التحول الذي عرفته الأسرة أخلاقًا تستند إلى المعية الإلهية ليعيد مبدأ الإيداعية تقويم علاقة الدين بالعالم الذي تنبني عليه مسألة ربط الأخلاق بالدين في مقابل تسيد الإنسان أو إرادة القوة التي تحكم علاقته بالوجود. إن سبب فصل الرؤية الدهرية الأشياءَ عن خالقها الأصلي هو إرادة نسبتها إلى الذات الإنسانية، والحال أن نسبة الأشياء إلى الإنسان نفسية، أما نسبتها إلى خالقها فهي روحية، ذلك أن قوة نسبة الأشياء إلى خالقها تكمن في الحيلولة دون التَرَبُّب من جهة، و في أن يصبح الخالق هو الوسيط بين الإنسان و الأشياء التي هو صاحبها من جهة ثانية. ”فالإيداع هو أن تملك ما تملك، لا ابتداء أي بنفسك، وإنما بواسطة، أي بخالقك الشاهد لك وعليك؛ بحيث يكون عبارة عن أمانة يودعها لديك. فالوديعة إذن هي الشيء الذي يجعله الخالق الشاهد في حوزتك، مُوكلاً إليك أمر رعايته. وكل ما يوكل إليك الخالق رعايته يقتضي حقوقا لك وحقوقًا عليك، إلا أن التمتع بحقوقك فيه موقوف على أداء الحقوق التي عليك بشأنه“ (عبد الرحمن 2014، 99). يستشف من هذا النص لطه توسيع مبدأ الإيداع لحس المسؤولية؛ سواء داخل المجتمع أم الأسرة، فليس الإنسان هو مركز الكون، وكل ما هو تحت تصرفه من أشياء أو ذوات هو مستخلف فيه. إن مبدأ الإيداعية يمنع تحول أخلاق المروءة إلى إمعية داخل الأسرة، بحيث لا يتصرف ويتقلب وفق مصالحه فقط، فالإيداعية تستند إلى الشاهد الأمثل، وتوجه وتسدد أخلاق الأسرة الحديثة العلمانية المحتفية بالإنسان وبعظمته وقدرته على تدبير أموره بمعزل عن أي توجيه وإرشاد رباني.
أما بخصوص المبدأ الثاني من مبادئ الائتمانية وهو الفطرية، فهو مقابل لمفهوم الطبيعة التي باتت هي مصدر الإلزام، ومع مفهوم الطبيعة صار الواجب الأسري أقرب إلى العبث بالحقوق، وهو مفهوم علماني وهمي يعظم الحقوق و ينبذ الواجبات؛ وقد تحولت الطبيعة إلى حظوظ هدامة لأسس الأسرة السليمة، كحظ الفصل بين الولد والابن مثلاً، وحظ الفصل بين الجنس والإنجاب. أما مفهوم الفطرة فيسمح لنا بتسديد ما وقع من اعوجاج في الأسرة الحديثة، وذلك بنقل الإلزام من قاعدة الحقوق الطبيعية إلى قاعدة الواجبات الوجدانية التي مقتضاها أن ”مجموع القيم التي يحملها الإنسان في نفسه خَلقا … تحدد كيف ينبغي أن يكون خُلقًا“ (عبدالرحمن 2006، 127). فبدلاً من استنباط الأخلاق من حالة الطبيعة، يقترح علينا طه أخذها من الفطرة الأولية التي هي خطاب إلهي للآدميين في عالم الغيب، لذلك تظل الأخلاق الحية محتفظة بذكرى هذه الألوهية؛ إذ من مقتضياتها تطابق الآيات التكوينية والآيات التكليفية، فيُحفظ التوازن بين الحقوق والواجبات داخل الأسرة؛ إذ يمتنع أن يكون حق دون واجب يقيد طالبه (عبدالرحمن 2006، 123). وإذا تحقق هذا فلا مكان للحظوظ التي هي سبب مآسي الأسرة الحديثة.
إن طه يقترح إذن حلولاً للخروج من النفق المظلم الذي دخلته الأسرة الحديثة، فلكي تحفظ نفسها من الأزمات الناتجة عن مبادئها العلمانية يقترح الأنموذج الائتماني مقيدًا إياه بالعناصر الآتية:
-
استحضار معية تقتفي آثار معية المتعالي مع خلقه، و هذا التعلق بالله يمنع الفرد داخل الأسرة من أن ينقلب إلى إمعة حتى وإن خالط غيره، فلا تصاب فرديته بالاختلال ولا مكانته بالاهتزاز.
-
ربط التزامات أفراد الأسرة بالقيم الأخلاقية التي أساسها الفطرة الدينية، وهي تزيد الفرد وأسرته خُلُقا وإنسانية، فينتقل من الالتزام الهين داخل أسرته إلى الالتزام القيم الذي تتوارى معه كل إمكانات التسيب الأسري من ادعاء الحظوظ وكثرة الرغبات وأشكال اللعب.
-
تعلق أفراد الأسرة بالآخرة، فكلما استحضروا عالم الخلود كانت أفعالهم ومسؤولياتهم ذات آثار بليغة وممتدة.
بخلاف طه الذي يرى ضرورة التأسي بالأخلاق كقواعد مصدرها الفطرة الأولى، نجد أسد يعتبرها مسألة استطرادية داخل الجماعة تتقاسمها القواعد الدينية والاجتماعية. لذلك لا يعول في تقويم اختلالات الأسرة الحديثة على العناصر الداخلية فقط سواءٌ كانت ضميرًا17 أو فطرة؛18 بل أيضا على ”العلاقات المجسدة بين الناس والتي تتم بكثافة أثناء تنشئة الطفولة، بل أيضا لدى الراشدين، حيث تتدخل سلطة الأقارب، وأحيانًا الأصدقاء في الحالات الخاصة كضرورة لممارسة هذه القدرة أو للتعامل مع عواقب الفشل، ليغدو الجسد والعقل معا موضوعًا للتربية الأخلاقية“ (Asad 2003, 247–248)، فالأخلاق—عند أسد—لغة تُبنى داخل الجماعة، أساسها السلطة الخطابية ضد مبدأ التجوهر على الذات أو الهوية.
فإشكالية أسد هي تدبير الأخلاق بين الأفراد والمجتمع في وجه السلطة الحديثة، لذلك يمكننا استنباط بعض الحلول انطلاقا من تشخيصه الانتربولوجي لمآلات الأسرة العلمانية الحديثة. وحتى تضمن إعادة إنتاج نفسها من جديد، لابد من مراعاة العناصر الآتية:
-
إذا كانت الممارسة الدينية تحتاج إلى الجماعة؛ إذ ”يمكن للشخص أن يؤدي الصلاة بمفرده، لكن عليه أن يتعلم الأداء الصحيح للصلاة مع الآخرين“ (Asad 2003, 243) فإن الأسرة أحرى بهذا الاحتياج، ذلك أن الواجبات الدينية هي حصيلة العلاقات الاجتماعية، وأن إصلاح الأسرة رهين بإعادة تحصين وتقوية الجماعة التي ظلت في السابق تحمي الأسرة بتسديد اعوجاجاتها ومدها بالنموذج الصحيح. وذلك اعتمادا على الأعراف والشرائع والموروث كعناصر تعطي الأولوية للعلاقات الأفقية على العمودية، للتخفيف من حدة تدخل أصناف السلط الحديثة في ممارسة التحكيم ابتداء بالقانون وانتهاء بالمحاكم. فقد كان يعتبر اللجوء إليها للتقاضي مؤشرا على إفلاس كل من الجماعة والعصبة والأسرة في تدبير وحل مشاكلهم.
-
ليس غرس الفضائل الأخلاقية مسألة متوقفة على الفطرة الأولى، بل إنها تُتَعلم عبر وسائل كالتنشئة والتقليد والتعلم والمحاكاة ”فالتزامات الأبناء تجاه آبائهم وآبائهن بقدر ما هي دينية“ (Asad 2003, 243) هي التزامات اجتماعية، لذلك ظل مكان الأخلاق هو التقليد بالمعنى الذي يعرفه فيلسوف الأخلاق ماكنتاير ”كامتداد تاريخي استدلالي مجسد اجتماعيًّا“ (MacIntyre 2007, 223). وما النقاشات المستمرة حول قضايا الإسلام الأخلاقية كالمروءة، والواجب، والإحسان، والتسامح إلا دليلاً على جزء من هذا التقليد الديني الإسلامي المتنوع كما هو جزء من غيره (Asad 1986, 16).
-
ليس انفصال الأخلاق عن الدين نسيانًا للميثاق الغيبي، بل هو بفعل السلطة والقوة، فهي التي وضعت استراتيجية الفصل بقصد تمكين الفعل القانوني من تطويع وتربية الذوات داخل مجال يسمى بالأخلاق العامة الجديدة؛ ولما كانت سلطة القانون ونظام السوق قد أفرزا أخلاق التعاقد بجعلهما أفراد الأسرة ذوات صورية معنوية محضة علاقاتها طارئة بالاصطلاح القانوني، حيث تتلاشى معها كل الاستعدادات الأخلاقية الدينية المتراكمة في الزمن، فإن أسد يقترح في المقابل أخلاق المشاركة التي تقوم على سلطة النموذج بإرجاع علاقات أفراد الأسرة فعلية مبنية على القوة الاستطرادية للتقليد أساسها فكرة النموذجية أو المرجعية الأبوية والتي تحول دون تسلل كل أولئك الوسطاء—سواء كانوا خبراء أم مستشارين نفسانيين—الذين يُبيحون لأنفسهم التدخل في الشأن الخاص باسم القانون، بهذا يمكن إعادة التواصل الفعلي بين أفراد هذه المؤسسة.
5 مآلات الأسرة المعاصرة بين الأنموذج الائتماني و تحديات العولمة
يراهن طه على قيمة ودور الأسرة في سبيل النهوض بحداثة إسلامية؛ إذ بالالتزام الأخلاقي يتشرب كل فرد القيم الفضلى والحسنى التي هي أساس الفطرة البشرية، فالأخلاق—عند طه—لا يقف أثرها عند الفرد أو الأسرة بل يمتد إلى المجتمع والإنسانية جمعاء، ”فيقوم كل منهم بأفعاله على اعتبار أنها لا تزيد في أخلاقيته وإنسانيته داخل أسرته هو فحسب، بل إنها تزيد في أخلاقية وإنسانية الخلق جميعًا داخل العالم كله“ (عبد الرحمن 2006، 139). فطه يعول كليًّا على أن تشرب واستبطان الأفراد للأخلاق يشكل منطلقًا لتحسين و زيادة أخلاق البشرية؛ لأنه ينظر إلى الأسرة باعتبارها النواة الأساسية لإصلاح المجتمع، والوسيط المكلف بمهمة تثبيت الناس ككائنات أخلاقية اجتماعية. فالأسرة نموذج للانتماء يُقتدى به من طرف كل المؤسسات والبناءات الاجتماعية الأخرى؛ لقدرتها على رسم معالم العلاقات الاجتماعية19، ولتفردها بالقدرة على تزويد أعضائها بالشعور بالأمان مما يضمن عملية اندماجهم، وبقدرتها على المأسسة وما تحيل إليه من فعل التماسك والثبات (Bourdieu 1994, 139). لكن ما حصل هو أنه بفعل العولمة تمت زحزحة هذا النموذج باقتلاع العلاقات الأسرية من سياقاتها المحلية الخاصة وإعادة تشكيلها في نطاق زماني ومكاني غير محددين، وقد استند هذا الاقتلاع إلى ثلاث ركائز أساسية:
الأولى: انتزاع العلاقات الاقتصادية من بناها الاجتماعية، كما عبر عن ذلك الانثروبولوجي الاقتصادي كار بولانيي،20 فأصبحت العلاقات الأسرية رهينة نموذج اقتصادي محض، وقد غمرتها روح المصلحة المادية التي أدت إلى تعميم الاستعدادات الحسابية وما ترتب عنها من تآكل روح التضامن وتشكل الفردانية بدل القرارات الجماعية، فقد أدت القوة الاقتصادية إلى الحد من قوة التلاحم داخل الأسرة مع تعليق قوانينها (Bourdieu 1994, 190)؛ إذ يَبعد العثور على الذات الحاسبة بين أفراد الأسرة؛ لأنها ببساطة قد نُشَّئت أخلاقيًّا على الدخول في لعبة التبادل دون مصلحة ودون حساب، وهو ما جعل بيير بورديو يعتبر أن هذه المؤسسة بالضبط ظلت تنكر وتتجاهل الحقيقة الموضوعية للمبادلات الاقتصادية باستماتة منطقها الأخلاقي في إقصاء ونفي كل أشكال التسعير وإضفاء القيمة النقدية على تعاملاتها؛ إذ يستحيل دفع الأجرة للابن أو الزوجة (Bourdieu 1994, 180)، ذلك أننا بصدد مفهوم المجانية كما هو في علم اجتماع العائلة، الذي يقابله أخلاقيًّا مفهوم الصبر (جاهل 2009، 92). لكن مع تَغَوُّل نموذج العولمة الاقتصادي—كما حدده السوسيولوجيون—ودنوه من الأسرة تراجعت أخلاقية الإرشاد والتوجيه والتنشئة والتضحية وغدا من يمتلك النفوذ المالي داخل الأسرة هو من يقرر وهو صاحب السلطة، ضاربًا بذلك كل أشكال السلطة الرمزية المتراكمة للأبوين من امتثال واحترام وطاعة.
الركيزة الثانية: العولمة، وهي—بحسب المصطلح الانجليزي globalization—منح الشيء طابعَ العالمية بجعل مجال تطبيقه عالميًا (Webster 1991, 521)، أي تعميمه وتوسيع دائرته ليشمل الكل قسرًا أو طواعية، فقد حصل تدفق هائل من القوانين والمواثيق الدولية التي تخص الأسرة وتمَسّ طبيعتها، إذ لأول مرة كان حظ المواثيق والقوانين الدولية من مدونات الأسرة لا بأس به عبر إدراج ذلك الكم من القضايا التي تخص الصحة الجنسية والإنجابية، والأمهات العازبات، وإمكانات إنشاء أشكال أخرى للعلاقة الزوجية،21 مع إعادة النظر في القوامة، والولاية الشرعية على الأبناء باعتبارها تضييقًا للحريات، مما حذا بالبعض إلى الدعوة إلى القضاء على البناء القيمي والأخلاقي كعائق، وذلك لضرورة إخضاع كل الأحكام الشرعية التي تخص الأسرة إلى المقولات الكونية؛ دون اعتبار لما هو قطعي وثابت، وما هو متغير، خصوصًا وأن الناظم الأساسي لهذه المواثيق هو حقوق الإنسان وما تتميز به هذه المقولة من طابع تفريخي على شاكلة الدمى الروسية؛ إذ لاننفك نخرج من حق حتى ندخل في المطالبة بحق آخر، فبعد المساواة أصبح الحديث عن النوع، ثم جاء بعد ذلك الإجهاض الذي يوظف كمقدمة وسند للإباحية، ثم المساواة في الإرث. لقد توقف التعامل مع الأسرة كمعطى فعلي، بل أصبحت تُبنى في ظل سيل من المقولات والمبادئ القانونية التي عملت على خلق استعدادات وأحاسيس سمحت بشكل جديد من الامتثال الأخلاقي الصوري التعاقدي، و بأنواع مختلفة من المعرفة والفعل والرغبة الممكنة، فأصبحت ثقافة الحق تغلب ثقافة الواجب، وغدا مفهوم الحرية يعلو على مفهوم الالتزام، وحلت القيم التعاقدية محل القيم التراحمية، وتآكلت معها مفاهيم كالتضحية والصبر والإيثار، وهي مفاهيم تمتح من الأخلاق الدينية.
الركيزة الثالثة: بما أن العولمة هي تعميم نظام الخبرة كنظام مجرد (Giddens 2006, 18) ونمط من المعرفة التقنية المستقلة عن الفاعلين الحقيقيين الذين هم أفراد الأسرة، فإن إحدى تجليات اقتلاع العلاقات الأسرية من سياقها الخاص هو التوسط المنتظم للخبراء النفسيين والاجتماعيين والمساعدين الاجتماعيين وأصحاب الدعم العائلي بإقحامهم شفرات مجردة لا تتماشى مع الإيقاع الحقيقي للأسرة، وقد ترتب على هذا نتيجتان، أولا: تعطيل فعل التواصل الطبيعي بين أعضاء الأسرة، ووأد كل إمكانية لإبداع آليات ومهارات عفوية لتجاوز الخلافات وترميم الذات، ثانيًا: إفراغ الأسرة من خلال جعلها قالبًا مجردًا بعيدًا عن كل مضمون أخلاقي حيوي، علمًا بأن الحياة الأسرية في خضوع مستمر لمنطق استطرادي متجدد، وليست قوالب مجردة؛ إذ إن هذا التباعد بين منطق الخبراء وواقع الأسرة لم يزرع سوى الريبة والحذر تجاه هذه الوسائط التي أفرغت الحياة الأسرية من محتواها التقليدي بإحداثها لتأثيرات مُعَولمة؛ وتجلت خطورة تدخل سلطة الخبير في الأسرة من خلال مستويين: الأول يعمل على التحطيم التدريجي للغة العادية، ليس بقصد تجاوزها بل لاستخدام فتاتها بإعادة تجميعها في شبكات إحصائية أو رقمية رياضية مبسطة ليمنع بذلك من تشكل أي لغة وسيطة تواجه نصاب السيطرة (جاهل 2009، 39)، والثاني—وهو مترتب عن الأول—يمثل جسر عبور لبرامج العولمة المتمثلة في المواثيق والاتفاقيات الدولية دون مراعاة للخصوصيات باسم الحقوق الكونية.
أمام هذه الأشكال الثلاثة من الاجتثاث العولمي، ما الذي يمكن أن تقوم به الأخلاق الائتمانية لإنقاذ وضع الأسرة؟ يقر طه بأن العولمة ليست حالة للعالم وإنما هي فعل مستمر فيه (عبد الرحمن 2013)، وهي فعل حضاري غربي بامتياز22، ولذلك يقترح تقويمًا أخلاقيًّا من خارجها وينهل من الدين الإسلامي؛ لكونه خاتم الديانات أولاً، ولحتمية زمنه الأخلاقي ثانيًا. ويضع طه معايير أخلاقية لتسديد تلك الاعوجاجات23 التي عصفت بالمجتمعات وعلى رأسها الأسرة المعاصرة التي تقوم على ثلاثة مبادئ هي: مبدأ الاعتبار في وجه السيطرة التقنية، ومبدأ التعارف في وجه سيطرة وتدفق المعلومة، ومبدأ ابتغاء الفضل في وجه اكتساح منطق السلع، وكل مبدأ من هذه الثلاثة يقابل شكلاً من أشكال السيطرة والانحراف الذي أحدثته العولمة في الأسرة. سنركز هنا على المبدأ الثالث فقط؛ لاشتغاله على التقويم الأخلاقي لأعتى وأقوى عنصر في العولمة وهو العنصر المنبثق عن الفعل الاقتصادي الذي عمل على تفكيك الأسرة باختراقها عبر مفهومين أساسيين هما: تغيير بنيتها باسم التنمية الاقتصادية، وشل طاقتها باسم المصلحة. اقترح طه مبدأ أخلاقيًّا سماه مبدأ ابتغاء الفضل، ليرفع الاقتصاد من رتبة المنافع المادية إلى المصالح الخلقية، وهو بهذا يربط الفعلَ الاقتصادي بالاعتبار الخلقي، ذلك أن السلعة تكتسي قيمة خلقية فضلا عن قيمتها التجارية عبر تغيير مدلول التنمية الاقتصادية لتصبح تزكية للمال والحال. إنها إرجاع الملكية إلى الخالق المالك الحقيقي (وكأن طه يشير إلى مبدأ الاستخلاف) حتى لا ينجر صاحب المال إلى الطغيان، هكذا لايصبح المال إلا وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل. ولما كان الفعل الاقتصادي فعلاً ملموسًا، وجب أن تدخله المعاني الروحية لتغدو التجارة تبادل أفضال تَعرج بالمستهلكين إلى الأفق الروحي، وتصبح القيم الأخلاقية من صلب عملية التنمية الاقتصادية، أي أنها وسيلة إلى مزيد من التخلق.
ويمكن هنا إيراد اعتراضين سوسيولوجيين :
الأول: هو اقتراح طه تقويمًا أخلاقيًّا خارجًا عن المنطق الاقتصادي للعولمة، أي ليس من جنسها، (عبد الرحمن 2013) ويقصد بذلك الأخلاق الإسلامية؛ ولكن من بين آثار التحديث العولمي المكره هذا التشظي الأكسيولوجي والمعياري والقانوني لمجالات الحياة، ذلك أن ثمة مبادئ أخلاقية ومعاني روحية داخل المنطق الاقتصادي، وهو يعمل جاهدًا على تعميمها لضمان إعادة إنتاجها. ألم يحصل التوافق بين الرأسمالية في ثوبها الأول والبروتستانتية التي عملت على عقلنة الدين جاعلة الروح الحسابية من صلب أخلاق اللاهوت المسيحي؟24 يزداد الأمر استفحالاً مع العولمة حيث أفرز المنطق الاقتصادي المتوحش أخلاقيات من جنسه،25 بل نجح إلى حد ما في تعميمها وتسويقها مثلما أفلح في تسويق البضائع والسلع، لعل أهمها ثلاثة: الأولى: أخلاقيات المنافسة والربح مقابل أخلاقيات الصالح العام، والثانية: أخلاقيات عدم الانتماء للجماعة وترنح الهوية كنتاج لوتيرة تحولات الفعل الاقتصادي اللاهث وراء الربح. فالعلاقات الإنسانية المنبثقة من هذا المنطق الاقتصادي المهيمن تتسم بضعف الكثافة الأخلاقية (Durkheim 1989, 360) بالمعنى الدوركايمي، حيث تعرف انقطاعات بحسب المد والجزر الذي يطرأ على الفعل الاقتصادي، فهي ليست ثابتة وليست ذات مرجعية راسخة. والثالثة: أخلاقيات أسبقية الصراع من أجل الحياة عوض الاتحاد من أجل الحياة.ولكن في ظل هذا الوضع، هل ستظل أخلاقيات العلاقة داخل الأسرة نموذجًا يُحتذى في باقي العلاقات كما تصورها طه؟ (عبدالرحمن 2006، 100).
الواقع أنه لن تَسلم الأسرة من الاقتصاد المُعَولم وروحه الأخلاقية، فحتى إن جُوبهت العولمة بأخلاق من خارج مرجعيتها ستظل لها الغَلبة مادامت السيادة لها على أرض الواقع.
الاعتراض الثاني مفاده أن الحلول التي يقدمها طه تبدو كأنها داخل حقل فارغ، والحال أن ما يحدد طبيعة المجال الاجتماعي هو موازين القوى، فنحن أمام لغة ومنطق القوة؛ إذ العولمة—كما عرّفها—هي السعي إلى تحويل العالم إلى مجال واحد من العلاقات (عبد الرحمن 2013). إنها فعلٌ؛ بما تحمله الكلمة من قوة التأثير مع إرادة الاستمرارية والبقاء، وليست منفصلة عن مراكز القرار الدولية والدوائر الاقتصادية والمؤسسات المتعددة الجنسيات التي تعمل—باستمرار—جاهدة من أجل الحيلولة دون تغليب منطق الأخلاق على منطق الربح المادي السلعي. فأي نموذج أخلاقي قد يقف أمام مقتضيات منطقها الاقتصادي في ”إتلاف الخيرات الاستهلاكية التي تهاوت أثمانها؛ حفاظًا على مصالح المنتجين؟ يمكن تبرير هذا الإتلاف من الوجهة الاقتصادية بصحته الموضوعية“ (Weber 1992, 416)، مثل رمي الطماطم في البحر و إحراق البن. إنه يلبي أخلاقيات ومقتضيات القوانين الداخلية للفعل الاقتصادي المتمثلة في الحفاظ على سيرورة الإنتاج عبر قانون توازن العرض والطلب؛ مجسدًا بذلك أعلى مستويات العقلنة الاقتصادية التي تسهر عليها هذه الدوائر الرأسمالية الكبرى وتحميها، ولعل الخلفية الفلسفية للحقل الفارغ من إرادات القوة جعلت طه لا يلقي بالاً لقوة القانون، بل اعتبره أيضًا ضحية لتغير العادات و السلوكيات بعد ما كانت مهمته تتمثل في وضع قواعد لما يستقبل من الأحداث؛ وفق قيم أخلاقية محددة بحيث يكون مقومًا للمسالك وموجهًا للمطالب (عبد الرحمن 2006، 115). إن الاختلاف بين طه وأسد فيما يخص اجتثاث الأخلاق هو أن الأخلاق عند طه مرتبطة فقط بالميثاق الغيبي وأن فصلها عن الدين جاء نتيجة الإخلال بمقتضياتها ونسيان الميثاق الذي جَرّ عليها صنوفًا من آفات التسيد والتَرَبُّب، في حين يرى أسد أن هذا الفصل قد تم بفعل السلطة والقوة؛ إذ لم يُحرم القانون من وظيفته في دعم الأخلاق كما تصور ذلك طه و”المتمثلة في إقراره لما ينبغي أن يكون داخل الأسرة ضمن ما تقتضيه الفلسفة الأخلاقية للأسرة“ (عبد الرحمن 2006، 115). لقد تَمَّ وضعُ استراتيجية فصل الأخلاق الدينية قصد تمكين الفعل القانوني من تطويع وتربية الذوات داخل مجال يسمى بالأخلاق العامة الجديدة،26 وهذا ابتكار جديد لم يكن بالإمكان وجوده إلا بعد تحرير القانون من سلطة التقليد الديني التي ظلت تمنعه من التمركز كأداة في يد الدولة الحديثة، فاستحضار هذه الاعتبارات السوسيولوجية قد يسهم—إلى حد ما—في توسيع النقد الائتماني الأخلاقي وذلك بمراعاة المآل—بلغة الفقهاء—حتى يسمح بفك شفرة العبور من لغة الأخلاق كما يطرحها طه إلى منطق الحياة الاجتماعية المتغيرة.
خاتمة
تكمن قوة الصرح الفلسفي لطه في قدرته على إبداع نسق أخلاقي بمعايير حداثية مشبعة بالثقافة والتراث الإسلامي، وقد أخذ على كاهله مهمة تشخيص أمراض الحداثة الغربية وتصويبها. إن من حسنات هذا الصرح أيضًا إخراج الأخلاق من حقل الممارسة والسلوك إلى حقل التأمل والنظر العقلي المسدد فيها؛ إذ لطالما ردَّد أن ”من لا عمل له لا عقل له؛“ تحاشيًا لكل صنوف العقول المجردة. فهل يفلح هذا الصرح الائتماني الأخلاقي في أن يخرج إلى حقل التدبير الاجتماعي؟
صحيح—كما يقول طه—أن السلطة التدبيرية هي حقُّ الجماعة، وأن الفعل الأخلاقي مسألة مثابرة واصطفاء لا يظفر بمقام التسديد فيه إلا من تخلصت أنفسهم من أدران وحظوظ الشهوات ماديًّا ومعنويًّا؛ حتى صارت بصيرتهم أقدر على استقبال آثار الوحي تمثلاً وتأسيًا وصحبة، وتلك هي القلة الفاضلة التي تتكفل بإخراج الصورة الفطرية وتقريبها للناس عبر صور حية للتخلق يتم تجسيدها في حياتهم، ولكن الإشكال يبدأ حينما تتحول الأخلاق إلى قواعد على شاكلة المقولات الآمرية عند كانط؛ إذ تُحرَم من قوتها الاجتماعية التي تَتَحَصّن بالعلاقات الاستطرادية بين الناس، والتي تمنعها من أن تُنسَج في منطقة الفراغ عوض المشترك الجماعي، لتصبح عُرضة للتحكم والتلبس من طرف المدعين، فمن ذا الذي يمنع أناسًا من أن يدّعوا حق الأهلية في تدبير شؤون الناس؛ بمقتضى أخلاقهم التزكوية التي حصلوها بمثابرتهم واجتهادهم، وهو الأمر نفسه الذي مارسته الدولة الحديثة في ثوبها الفكري الليبرالي، بادعاءها أولوية التوسط الذي هو جوهر العلمانية؟
يرفض طه عبد الرحمن وطلال أسد المنهج التطوري الخطي للأديان؛ فطه لايسلم بحجج هذه الأطروحة أثناء نقاشه مع مارسيل غوشيه ونهج المدرسة الوضعية الفرنسية التي تنسب لأوغست كونت وترى أن الدين ابتدأ سحريًّا ثم طقوسيًّا ثم تعدديًّا مع نشأة الدولة الوطنية ليصبح توحيديًّا في عهد التعالي، فطه يرى أن البشرية منذ نشأتها عبدت الإله الواحد وسمته إله السماء، وأن القول بالتطور يعني الاستعاضة عن الدين بالعلم في مرحلة متقدمة من التطور، وهو قول يُكذبه تزايد الحاجة إلى التدين في عالمنا الحديث. انظر: (عبد الرحمن 2012، 187). أما طلال أسد فينتقد خوسيه كازانوفا وباقي السوسيولوجيين وتشارلز تايلر. يرى تايلر أن العالم الغربي المسيحي عبارة عن قصة متطورة بشكل خطي ابتدأت مع المتعالي لتنتهي بالمحايث الذي هو خاصية العالم الحديث، ولكن أسد يرفض وصف التطور التاريخي للعلمانية بأنه تسلسل خطي للأفكار ابتداء من الإصلاح البروتستانتي كسبب وصولاً إلى الحداثة العلمانية كأثر؛ فأسد يرى أن المسألة الدينية أعقد من هذا التصور التبسيطي. انظر: (Asad 2006, 210; Polat 2012).
يطلق على هذه المرحلة مفهوم التخلي عن الآليات السحرية للخلاص، أو ما يسمى بالفرنسية désenchantement du monde المرادفة Entzauberung der welt باللغة الألمانية الفيبرية، وهو مفهوم فيبري استقاه من ماكس شيلر، ذلك أن جل الدراسات تجمع على معنى التخلي عن الآليات السحرية للخلاص، فنجد مارسيل كوشي Marcel Gauchet يعرف Désenchantement بـ”إقصاء السحر من حيث كونه تقنية للخلاص“ وهو ما يؤكده ماكس فيبر، حيث يقول ”استطاع الورع الديني أن يتموقع داخل العالم كأداة للإله، وقطعه الصلة مع كل الوسائل السحرية للخلاص cut off from all magical means of salvation، لقد تم الانتقال من وسيلة سحرية إلى وسيلة عقلانية“ وهذا ما جعل معظم الباحثين يعتبرون أن هذا المفهوم الفيبري قد واكب السيرورة التاريخية للفكر الديني الغربي. في حين يطلق عليه طه عبد الرحمن مفهوم تبصير العالم، يقول شارحًا التبصير: نزع الصبغة السحرية عن الأشياء المرئية، وترك التوسل بها في تفسيرها (وضده التسحير). لمزيد من التعمق راجع (طه 2012، ص 509؛ Weber 1995، 200؛ Gauchet 1995، 1).
يقول ماكس فيبر في هذا السياق: ”ليس من قبيل الصدفة كون المسيحية الغربية قد استطاعت أن تبني بشكل منهجي أكثر لاهوتها وبطريقة معاكسة لعناصر اللاهوت الذي نجده في اليهودية، بل إنها أعطته تطورا ذا معنى تاريخي يعتبر بدرجة بعيدة الأكثر اعتبارا. وهذا ما نجد تفسيره في تأثير الفكر الهليني، إذ كل لاهوت غربي ينطلق من هذه الروح، مثلما ينطلق كل لاهوت شرقي بشكل ظاهر من الفكر الهندي. فاللاهوت هو ”عقلنة“ فكرية للإلهام الديني.“ راجع (Weber 1995, 153).
يقول فيبر بهذا الصدد: ”بمقدار ما تزداد بقوة عملية العقلنة حيث الشعور بتسامي الإنسان في علاقته بدوائر القيم المتنوعة الداخلية والخارجية. فهناك ضغط وإكراه سواء بالنسبة للديني أو الدنيوي نحو الوعي بالاستقلالية وبالقانون الداخلي الخاص لكل الدوائر المتفردة، لذلك تنجرف داخل توتر سيظل في إطار العلاقة الخارجية مع العالم“. انظر (Weber, 1995, 329).
استعمل جمال الدين الأفغاني في ”الرد على الدهريين“ تعبير ”الدهرية“ للدلالة على التوجه المادي في الحياة، في حين أن (secularism) التي تترجم عادة بالعلمانية سماها طه الدهرانية، واعتبر أن يعقوب هولييوك هو أول من استعمل (secularism) للدلالة عن رفع الوصاية الدينية عن الأخلاق، أي أنه دهراني باصطلاح طه. انظر: (عبد الرحمن 2014، 12–13).
استعمل طلال أسد مفهوم التوسط (mediation) مميزا بينه وبين التوسط الحديث الذي هو عماد الدولة الحديثة، أدواته القانون خصوصا في نقاشه مع بنيديكت أندرسون حول الجماعة المتخيلة كآلية التحام الجماعة وتشارلز تايلور في أطروحته حول الدولة وبناء الهوية الوطنية لشد لحمة المجتمع ضد الحروب الدينية.
يبدو أن هناك قصدية لدى طه في انتقاء هذه النماذج باعتبارها ممثلة للفكر الغربي سواء الفلسفة الاجتماعية عبر روسو أو الفلسفة النقدية عند كانط أو علم الاجتماع عند دوركايم والفلسفة المعاصرة مع لوك فيري، والقصد من ذلك أن فصل الأخلاق عن الدين سمة تخص الحداثة الغربية التي تمثلها هذه الاتجاهات.
من مقتضيات ”التبدل الديني“ لدى طه أن كل الديانات المنزلة—بما فيها الإسلام—تتخذ صورتين: الأولى فطرية أصيلة تحفظ آ ثار علاقتها بالغيب، والثانية صورة وقتية، أي تلك التي يتخذها الدين في فترات الانفصال عن الرسول، وتعرف ترسبات اعتقادية وتصورية تحد من إبداعية نورانية رسالته، إذ من خصائصها النقص الروحي. انظر (عبد الرحمن 2014، 32).
اتسمت أخلاق الصورة الفطرية للدين بكونها أخلاق الباطن تنبعث من داخل الإنسان لتتجه إلى خارجه، في حين يعرف أخلاق الصورة الوقتية للدين بأنها أخلاق الظاهر تنطلق من خارج الإنسان متجهة إلى داخله. انظر (عبد الرحمن 2014، 32).
مقتضى هذه المسلمة أن أوامر الله كلها خير، ونواهيه كلها شر حتى وإن لم تعلل أو لم يفهم مقاصدها، ذلك أن تطبيق الأوامر يزيد في التخلق، وإتيان المعاصي يحول دونه. انظر (عبد الرحمن 2014، 33).
في هذا السياق يرى إميل دوركايم أنه إذا ما أردنا منهجيا الحكم على قاعدة هل هي أخلاقية أم العكس، فإنه علينا تفحص ما إذا كانت لديها علامة أخلاقية خارجية أم لا؛ هذه العلامة التي تتجسد في العقاب الردعي المنتشر أي توبيخ الرأي العام الذي ينتقم من كل خرق للقاعدة ”فالوعي الجمعي هو الذي يصنع ويثمن القاعدة الأخلاقية ومدى أهميتها وهل تستوجب العقاب بخرقها أم لا“ (Durkheim 1990, 41).
لقد انتبه طلال أسد إلى أهمية الإحساس (sensibility) ودوره في تشكيل الذات الأخلاقية، حيث نقله من مستواه العفوي التلقائي إلى المستوى الإدراكي يتحدث طلال أسد مثلا عن دور المنهج الأسطوري في الكتابة الروائية مع توماس ستيرن إليوت وجيمس جويس وكيفية مساهمته في تشكيل الإحساس العلماني (secular sensibility) بنكرانه الإيمان الديني، حيث يعرف جيمس جويس المنهج الأسطوري بكونه ”أسلو باً في التحكم، والتنظيم، وإضفاء الشكل والمعنى على المشهد الهائل للعبث والفوضى الذي هو التاريخ المعاصر.“ نحن أمام نوع من الأدب ينبني على قيم علمانية خيالية والذي يظهر في نهاية الأمر دون أساس، ذلك هو الإحساس العلماني الذي يزود به الذات هذا النوع من الأدب. انظر بهذا الصدد (Asad 2003, 53). وممن استفاد جيدًا من هذا التعريف، تلميذاه حسين عجرمة وصبا محمود في بحثها حول الصلاة كشعيرة، ومدى إتاحتها لإمكانية تشكيل الذات وتأهيلها لإنضاج حس أخلاقي نقدي تجاه قضايا الحياة اليومية عبر القدرة على التمييز بين مخبر ومظهر الأمور، ذلك أن الغاية من ممارستها هو ”تحو يل حب الله إلى نقد ذاتي يومي،“ أي كيف تنضج شعيرة الصلاة إحساسًا يسمح بإعادة إدراك وتقييم ما حولنا، فلا تظل الصلاة مجرد شعور إيماني فحسب (Mahmood 2009, 196).
يرى أيضا حسين عجرمة كيف أن هيمنة القانون على الشريعة جعل الشريعة تكتسب أحاسيس تطابق التوقعات الليبرالية العلمانية عن الدين. من جملة هذه الأحاسيس تشربها لفكرة الخصوصية الشخصية، وإحساس الابتعاد عن المساهمة في صناعة السياسات العامة للدولة، فالإحساس هنا إدراك ومواقف أخلاقية متشربة بفعل سيرورة العلمنة. انظر: (Agrama 2012, 75).
بخلاف الإيمان (faith) يرى طلال أسد أن مفهوم الاعتقاد belief كما تحدث عنه الفلاسفة شعور، وهو ميل أيضا كما حدده دفيدهيوم وبشكل أعم هو حالة عقلية، ذلك أن الكلمة اللاتينية credere التي تترجم إلى اللغة الانجليزية إلى فعل الاعتقاد كانت تستعمل بالمعنى الأخلاقي لا المعرفي، فهي تشير إلى ثقتك بشخص ما؛ أما اليوم فهي تحيل إلى قناعتك بأن مجموعة أطروحات صحيحة، لذلك حين يشير الناس إلى الاعتقاد فعادة ما يتحدثون حول مجموعات يستحيل قياسها من المفاهيم والأحاسيس والالتزامات والآثار. انظر (Asad 2014, 43: 1).
مفهوم casuistry يخص قضايا الضمير والأخلاق، الفتوى تدخل في حيز هذا المفهوم لارتباطها بالرعاية والاعتناء بالذات الأخلاقية.
تلتقي أطروحة طه مع الباحث جيل ليبوفتسكي حول دواعي هذا النفور المطلق من فكرة الواجب، وذلك لكونها تحمل معها شحنة دينية، تمثل مرحلة من تاريخ الغرب مقابل المطالبة بالحقوق التي هي إحدى مكتسبات الحداثة، نُنصت إلى هذا الأخير يقول: ”لاشك أن الدعوة إلى الواجب ليست من خاصيات الحداثة، لكن ما ينضوي تحتها هو الواجبات الغريبة عن كل المعتقدات السماوية، والتعميم الاجتماعي لأخلاق متحررة من كل وصاية إلهية“ راجع (Lipovetsky 1992, 36).
يقول ميشيل فوكو معرّفًا السياسة الحيوية: ”إنها التكنولوجيا الجديدة للسلطة … وهي تتعلق بمجموعة من العمليات والإجراءات، مثل نسبة الولادة والوفاة ومعدل الخصوبة والإنجاب … إنها الموضوعات الأولى للمعرفة والأهداف الأولى للسياسة الحيوية في المراقبة.“ انظر (فوكو 2003، 236).
يرى أسد أن الضمير مفهوم حديث، وبالأخص فكرة الضمير الفردي الذي رفع كانط من شأنه باعتباره مكتفيًا بذاته، والحال أن الفعل الأخلاقي ليس قائما في الضمير ولا مكتفيا بذاته، بل هو فعل اجتماعي متعارف عليه؛ لأن الناس يحيونه. يقدم طلال أسد مثالا: ”فحينما يتصرف شخص بأسلوب يتعارف عليه الناس بكونه مكروها، فهذا يعني كونه فعلا ملاحظا، كأن يصفوا هفوة صاحب فعل، فنحن أمام فعل أخلاقي، ولكنه ملاحظ من طرف الناس، لكن الغريب أنه حتى وان كان ملاحظا فهو ليس موضوعا للتداول أمام المحكمة، في المقابل هناك أفعال تخضع للتقاضي مثل التعاقدات التي تتطلب تقصيا حول سلوك غير قابل للملاحظة كمسألة النية“، هكذا يعيد طلال النظر في التمييز الوضعي المنسحب على الثقافة الإسلامية بين الأخلاق كشأن داخلي مجالها الضمير غير قابل للملاحظة، والأحكام القانونية كأفعال خارجية يمكن عرضها في المحاكم أمام الملأ. انظر (Asad 2003, 24).
إذا كان طه يعتبر أن الفطرة هي الذاكرة الأصلية للإنسان التي تحفظ ذكرى شهادتها بالتوحيد الذي هو أساس الفعل الأخلاقي، فإن أسد يعتبر الفعل الأخلاقي حصيلة سيرورة منضبطة من التربية والتعلم. انظر (عبد الرحمن 2014، 36).
يقول طه: ”فالأسرة هي إذن منشأ العلاقة بين الناس بحق، بحيث لا علاقة إنسانية بغير أخلاق، ولا أخلاق بغير أسرة.“ انظر (عبد الرحمن 2006، 100).
لقد انتبه كارل بولانيي إلى التحول والمنعطف الكبير الذي حدث في العصور الحديثة حيث تحرر الفعل الاقتصادي من كل الدلالات وانسلخ من الأسس الاجتماعية التي ظلت تغلفه وتوجهه، مثال لا تتم التجارة في العلاقات الاجتماعية مع أي كان ذلك أنها تخضع لضوابط، حيث تجري أمام شهود يضمنون باختيارهم العملية ويتم اختيارهم من بين فاعلين يتمتعون بالمعرفة ولهم سمعة بين الناس. انظر (بولانيي 2009).
يميز طه بين ”العلاقة الزوجية“ و”العلاقة الزواجية“ إذ تشمل الأولى كل أصناف الاقتران سواء كانت مستندة لعقد أو غير مستندة، في حين لا تنطبق الثانية إلا على الاقتران الذي يتم على مقتضى الأحكام والقوانين المعهودة في مدونات الأحوال الشخصية. انظر (عبد الرحمن 2006، 100).
لطه توصيف خاص بالعولمة، فهي—في نظره—إعقال العالم؛ بتحويله وحصره في مجال واحد من العلاقات عبر سيطرات ثلاث: اقتصادية وتقنية وشبكية، حيث عملت كل واحدة منها على إرباك أخلاقي لدوائر الحياة كإخلال الأولى بمبدأ التزكية الذي ينافي التسلط الاقتصادي ولغة المصالح، وإخلال السيطرة الثانية بمبدأ العمل حيث استبدل التقني بالمعرفي وهيمن عليه، بل أصبح يقرر مصير الناس، وأخيرًا سيطرة الشبكة في مجال الاتصال والتي عملت على تدمير التواصل وما يحمله من أسبقية المضامين على الإشارات والمعروفات على المعلومات. انظر: (عبد الرحمن 2006، 78، 81، 83)
تتمثل الحلول الأخلاقية التي اقترحها طه لمواجهة الآفات الأخلاقية للعولمة في: مبدأ ابتغاء الفضل، وهذا يفترض عنصرين: الأول تكامل الاقتصاد مع المقومات الأخرى، ثانيًا الاتصال بالأفق الروحي، تم مبدأ الاعتبار والذي يفترض هو الآخر أولاً مسلمتين: النظر في الأسباب الحكمية عوض العلل السببية، ثانيًا النظر في المال عوض التركيز على الحال، وأخيرًا مبدأ التعارف الذي يقتضي عنصرين: أسبقية التعارف على الاتصال لكون الأول مسألة أخلاقية محمودة، والثانية أن التعارف يقتضي علاقة أخلاقية من احترام وتسامح، وهو لب الاعتراف. (عبد الرحمن 2006، 89، 93، 96).
ثمة نقاش منهجي حول العلاقة بين الاقتصاد والأخلاق، دار بين طرفين: يمثل الأولَ كلٌّ من عالم الاجتماع ماكس فيبر، واللاهوتي إرنست ترولتش، ويمثل الثانيَ كل من الاقتصادي الماركسي رودولف ستاملر والمؤرخ هيوج ريفر تروبر. ويطرح ”غي أنكير“ فكرة السببية الدائرية؛ باعتبار أنه ليس هناك عامل واحد حاسم في التأثير، سواء بالنسبة لنمط الإنتاج—كما طرحته الماركسية—أم بالنسبة للتوجه الديني الكالفيني كما طرحه فيبر وأتباعه. انظر: (Guy 1972, 147; Lallement 2006, 231).
يرى جون لوك أن الممارسة الاقتصادية طريقة تربط الأفراد بالعالم المحيط بهم وتشكل طبيعتهم، لذلك قد تصبح الأنانية من الفضائل (أخلاق) ما دام المنطق الاقتصادي يقوم على فكرة سعي الناس إلى تحقيق المنفعة الذاتية. انظر (Taylor 2014, 51: 2).
حول عدم حيادية القانون وكونه أداة قوة وتطويع، وأحيانًا أداة هدم، يرى بورديو أن القانون المدني يسير في اتجاه تفكيك الأسرة، وقد طرح مجموعة من المشاكل على أهل بيارن Béarnais—قرية في جنوب فرنسا—الذين عانوا الأمَرَّين للحفاظ على الأسرة القائمة على حق الابن البكر في الميراث، في الوقت الذي فرض عليهم القانون القسمة بالتساوي، مضطرين إلى اختراع كل أشكال الحيل للالتفاف على القانون بقصد الحفاظ على ديمومة المنزل ضد قوى الاختراق التي أدخلها عليهم القانون. انظر (Bourdieu 1994, 195).
المصادر والمراجع
بولانيي، كارلز 2009. التحول الكبير:الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر. ترجمة فاضل طباخ، بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
جاهل، نظير. 2009. تسديد المنهج علم الاجتماع بمواجهة عنف العولمة. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
عبد الرحمن، طه. 2006. روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية. ط 1، بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2012. روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية. بيروت: المركز الثقافي العربي.
عبد الرحمن، طه. 2013. الحوار أفقا للفكر. ط 1، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
عبد الرحمن، طه. 2014. بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
Agrama, Hussein Ali. 2012. Questioning Secularism: Islam, Sovereignty, and the Rule of Law in Modern Egypt. Chicago: University of Chicago Press.
Ankerl, Géza. 1972. Sociologues allemands. Études de cas en sociologie historique et non-historique avec le dictionnaire de l’ Éthique protestante et l’ esprit du capitalisme de Max Weber. Neuchâtel: Á la Baconnière.
Asad, Talal. Responses. 2006. In D. Scott and C. Hirschkind (eds). Powers of the Secular Modern: Talal Asad and His Interlocutors. Stanford: Stanford University Press.
Asad, Talal. 2003. Formations of the Secular: Christianity, Islam, modernity. Standford: Stanford University Press.
Asad, Talal. 2014. “Genealogies of Religions, Twenty Years On: An Interview with Talal Asad.” Bulletin for the Study of Religion 43 (1 February).
Bourdieu, Pierre. 1994. Raison Pratiques Sur la théorie de l’ action France. Paris: Editions du Seuil.
Durkheim, Emile. 1989. De la division du travail social. Paris: Press Universitaires de France.
Durkheim, Emile. 1990. Les règles de la méthode sociologique. Quadrige: Press Universitaires de France.
Gauchet, Marcel 1995. Le désenchantement du monde: une histoire politique de la religion. Paris: Editions Gallimard.
Giddens, Anthony. 2006. Modernity and Self-Identity, Self and Society in the Late Modern Age. Cambridge: Polity Press in association with Blackwell Publishing Ltd.
Lallement, Michel. 2006. Histoire des idées sociologiques des origines a Max Weber. Économie et sciences sociales: France sous la direction Echaudemaison. Paris: Éditions Nathan.
Lipovetsky, Gilles. 1992. Le Crépuscule du devoir. L’ éthique indolore des nouveaux temps démocratiques. Paris: Editions Gallimard.
MacIntyre, Alasdair. 2007. After Virtue, A Study in Moral Theory. Notre Dame: University of Notre Dame Press.
Mahmood, Saba. 2009. Politique de la piété le féminisme a l’ epreuve du renouveau islamique. Paris: Éditions la découverte.
Polat, Ayşe. 2012. “A Comparison of Charles Taylor and Talal Asad on the Issue of Secularity.” Human and Society Journal 2 (4): 217–230.
Taylor, Timothy. 2014. “Economics and Morality.” Finance and Development 51 (2 June): www.imf.org/external/pubs/ft/fandd/2014/06/taylor.htm
Weber, Max. 1992. Essais sur la théorie de la science. Paris: Ed Plon Agora.
Weber, Max. 1995. “The social psychology of the world religion.” In Hans Gerth and Wright Mills (eds). From Max Weber: Essays in sociology. London: Routledge.
Webster’s new collegiate dictionary. 1991. Springfield, MA: Merriam-Webster.