مقدمة
يسعى هذا الفصل إلى بحث إمكانات نسق الائتمانية في مجال الإعلام والاتصال بـنَفَس نقدي؛ فهو يسعى إلى استجلاء الإمكانات التي تقدمها الائتمانية في ميدان تطبيقي محدد، ومكامن النقص أو القصور التي تكتنفها؛ مع الاحتفاظ بواجب التقدير والاحترام للمفكر طه عبد الرحمن. وسنعتمد بشكل مباشر على كتاب ”دين الحياء: التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال.“ ولا يسعى هذا الفصل إلى تقديم مراجعة للكتاب ولكنه سيقدم قراءة تحليلية نقدية لمضامينه ومنهجيته.
منذ نحو أربعة عقود توجهت مجمل كتابات طه عبد الرحمن إلى إعادة الاعتبار للعلوم الإسلامية وإحياء الإبداع فيها، مع الجرأة على نقد الحداثة؛ بما يقتضيه من إبداع مفاهيم جديدة، والتمكن من أدوات الفكر الفلسفي الغربي نفسه قراءةً وتحليلاً ونقداً، وقد كانت ثمرة هذا الاشتغال الدؤوب ثلاثية بعنوان: ”دين الحياء: من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني.“ خصص طه الكتاب الأول منها لعرض ملامح نسق الائتمانية بعنوان فرعي هو ”أصول النظر الائتماني،“ وتناول الكتاب الثاني تطبيق النسق الائتماني في مجال الإعلام والاتصال بعنوان فرعي هو ”التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال،“ في حين خص الكتاب الثالث بعنوان: ”روح الحجاب“ للرد على شبهات الإنسان المعاصر حول الحجاب (عبد الرحمن 2017).
يتضح من عنوان الثلاثية أن الحياء هو الخلق الجامع بين الكتب الثلاثة؛ فإذا كان الأول عرضا لنسق الائتمانية وبيان مركزية الأخلاق فيها وعلى رأسها الحياء، فإن الحياء هو علاج الآفات الأخلاقية للإعلام والاتصال، فحين يغيب الحياء يظهر التفرج والتكشف والتجسس، وهي آفات أخلاقية خطيرة تهبط بالإنسان المعاصر إلى دَرَك الاختيان (خيانة الأمانة)، ولا ينفع حينها إلا العلاج الائتماني؛ لإلباس الإنسان المعاصر حُلَّة الحياء فتسمو به إلى مقام الائتمان، والحجاب وثيق الصلة بالحياء فهو مظهره الظاهر.
1 التحديات الأخلاقية للإعلام والاتصال
سنقدم خلاصات مكثفة عن مضمون كتاب ”دين الحياء: التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال“، بهدف فهم تطبيقات النظرية الائتمانية في مجال الإعلام والاتصال وللبناء عليها نقديا فيما بعد. يضم الكتاب ثلاثة أبواب يعالج كل منها آفة من آفات الإعلام والاتصال، وهي: التفرج، والتجسس، والتكشف، ويضم كل باب ثلاثة فصول تتبع المنهجية نفسها وتتناول: الآفة الأخلاقية، وطريق الفقه الائتماري في التصدي لها، ومنهج الفقه الائتماني في علاجها والوقاية منها.
”التفرج“ هو الآفة الأولى التي حددت علاقة الإنسان المعاصر بالشاشة وجعلت منه ناظرا ميتا فقَدَ خُلقي الحياء والأمانة، فانتقل من حالة النظر العادي إلى حالة المتفرج (الناظر الميت)، وعلاج هذه الآفة يكون بإعادة الإنسان إلى مقام الناظر الشاهد وهو المقام المأمول. وقد نجم موت المتفرج عن ست خصال: الأولى: ”التوسط بالصور“؛ فالصور واسطة بعضها إلى بعض وهي واسطة إلى المدركات الأخرى، وهي واسطة بين المتفرج والآخرين. الثانية: ”الرغبة في تملك المصورات“؛ إذ إن نظر المتفرج يزدوج باللمس، فكأن عينه أصبحت يدا تمسك بالمنظور إليه. الثالثة: ”تأذي القدرات“؛ فالمتفرج يتضرر جسميا ونفسيا وفكريا بسبب نمط استهلاكه للصور. الرابعة: ”الإغراق في التوهم“؛ فقد نقل الإعلام الحالي الصور من وضع المحاكاة إلى وضع ”إبدال الوهم بالحقيقة،“ ويشمل ذلك أولوية الصورة المبثوثة على الخبر، ونقل أوصاف الشيء المصور إلى الصورة المبثوثة، وتقديم الصورة المبثوثة على الشيء المصور. الخامسة: ”الوقوع في التلصص“ وهو امتزاج التفرج بشهوة النظر، ويظهر في النظر إلى الصور عموما بشهوة النظر وشهوة الجنس، وفي النظر إلى الصور الإباحية. السادسة: ”التشبع بالعنف؛“ فالصور الإعلامية تؤجج ميول العنف عند الإنسان.
ولكن كيف يواجه الفقه الائتماري آفة التفرج وصفاتها؟ يعمل الفقيه الائتماري على استنباط الأحكام الفقهية المناسبة بحسب كل صفة، فالنظر إلى الصور المبثوثة يخضع عنده إلى مبدأ تكيف بصر المتفرج مع ثقافة الصور القديمة (الأيقونية أو التمثالية)، وهو جائز؛ لأنه إما تكيفٌ مع ما عمت به البلوى من باب التيسير، أو تكيف يتعذر الخروج منه فيندرج ضمن قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، أو ألا يقصده الناظر فيقع ضمن قاعدة إنما الأعمال بالنيات، أو أنه لا ضرر يترتب عليه؛ إذا كان مقطوعا أنه لا يؤدي إلى العبادة أو التعظيم. ولكن يحرم النظر الذي ينزل الصورة منزلة الند الذي يقيم الصورة مقام المصوَّرات وجودا وحكما، كما يحرم النظر الذي يرقى بالصورة إلى مرتبة البُدّ الذي يتخذ حيالها سلوكا طقسيا صارما (عبد الرحمن 2017، 2: 77)، ويجعل حكم اللمس الملازم للبصر تابعا لحكم النظر بإطلاق، فحيثما جاز أو حرم النظر جاز أو حرُم اللمس (عبد الرحمن 2017، 2: 78)، وهكذا يستمر في استنباط الأحكام الفقهية وإلقائها إلى المتفرج بصيغة الأوامر الإلهية.
ولكن بماذا يختلف الفقه الائتماني عن الفقه الائتماري وكيف ينقل المتفرجَ من الحالة الاختيانية إلى الحالة الائتمانية؟ يعتني الفقيه الائتماني بالناظر والمتفرج معا فيراعي أسباب طغيان بصر المتفرج المتمثلة في: سعيه لاستقلال إرادته؛ بذريعة أنه أقدر على تدبر شأنه، واستعماله لعقله؛ لأنه لا يقبل أن يفكر أحد بالنيابة عنه. فالفقيه الائتماني يتدرج مع الناظر/المتفرج مراعيا خصوصيته النفسية وفق الأسباب السابقة في حين أن الفقيه الائتماري يلقي الأحكام والفتاوى دفعة واحدة من دون تدرج أو تربية. ففيما يخص استقلال الإرادة الذي يزعمه المتفرج، يلاحظ الفقيه الائتماني غياب المتفرج عن مجلسه في أوقات التفرج فينبهه إلى أن هذا الغياب دليل على أنه مملوك للصور وعبد لها، فينزعج المتفرج من ذلك، ويبقى معه على هذه الحال إلى أن يؤثر فيه انزعاجه فيقر بشذوذ تفرجه واستعباد إرادته، ليُقبل على العلاج من هذا الشذوذ (عبد الرحمن 2017، 2: 89). وفيما يخص استعمال العقل الذي يزعمه المتفرج، يلاحظ الفقيه الائتماني أن المتفرج يقف بتفكيره عند صور الأشياء لا يعدوها، فينبهه إلى أن الصور لا تمثل إلا ظاهر الأشياء، وأنه محتاج إلى معرفة باطنها، ثم يدعوه إلى النظر في نفسه كيف هي غير مردودة إلى ظاهره، وحينما يحاول المتفرج معرفة نفسه بما تلقاه في ثقافة مجتمعه من وسائل فإنه يعجز عن ذلك، ويقر بعجز عقله عن معرفة باطن نفسه (عبد الرحمن 2017، 2: 90).
إن بطلان الادعاءين السابقين يعني أن المتفرج ”ظالم لنفسه“ و”جاهل بها،“ ومرد ذلك إلى فصل قيمتي ”الإرادة الحرة“ و”العقل المنتج“ عن أصلهما الأسمائي؛ لأن استقلال الإرادة الحق هو استقلالها الروحي ذو الحياء، لا استقلالها النفسي الفاقد له، واستعمال العقل الحق هو استعماله الروحي ذو الحياء، لا استعماله النفسي الفاقد له (عبد الرحمن 2017، 2: 91)، فالفقيه الائتماني ينبه المتفرج إلى أن فصل القيمتين عن أصلهما الأسمائي ناتج عن منازعة النفس للشاهد الأعلى في أسمائه الدالة على صفاته، ومنازعة النفس للألوهية في صفاتها، فهو ينازع الله عز وجل في أحد أسمائه الحسنى وهو ”المصور“ ويريد أن يكون له ”التصوير المطلق.“ فالفقيه الائتماني يدعو المتفرج إلى ترك ذلك لينتقل من مقام التفرج إلى مقام ”المشاهدة“ بما هي نظر روحي حي ذو حياء (عبد الرحمن 2017، 2: 93). وعلاقة الفقيه الائتماني بالمتفرج هي علاقة بصرية حضورية، ولذلك يساعده على ذلك الانتقال بطريقة عملية من خلال دعوة الفقيه الائتماني المتفرجَ إلى إتيان الأعمال بالتدرج، ويراقب آثارها عليه، فإن آنس منه الاستعداد انتقل به إلى مستوى أعلى من الأعمال، فالفقيه الائتماني يتدرج في نقل نظر المتفرج من رتبة النظر الــمُلكي الذي يتعلق بالظواهر إلى رتبة النظر الـمَلكوتي الذي يتعلق بالآيات، فيلفت نظره بإشارات تجعله يشك في ملكيته للصور، ثم يسعفه للخروج من شكه بعمل أسمائي1 يدله عليه، ليستيقن به من أن الصور هي التي كانت تملكه (عبد الرحمن 2017، 2: 99).
وهكذا لا يزال الفقيه الائتماني يتعهد المتفرج بالرعاية داعيا له إلى التفكر ومكلفا له بأعمال أسمائية متدرجة حتى يُحصِّلَ ميثاقي ”الشهادة“ و”الأمانة،“ فيبدأ في تحري الأمانة في كل ما تقع عليه عيناه من صور، ويغلبه الحياء في ذلك، فينسلخ المتفرج عن تفرجه ويدخل مقام ”المشاهدة“ (عبد الرحمن 2017، 2: 100–101).
الآفة الثانية هي ”التجسس“ الذي يحدد علاقة الإنسان المعاصر بما خفي عنه من معلومات، وقد جعل طه له خمس آفات متفرعة عنه هي: الغلو في المراقبة، والنفوذ إلى باطن الأشياء، والنفوذ إلى الحياة الخاصة، وطلب الإحاطة بكل شيء، والرغبة في التحكم في كل شيء. وتنبع هذه الآفات من تأثر الإنسان المعاصر بفكر الحداثة وتستجيب عنده إلى نزعة ”التأله؛“ فالتجسس المعاصر هو الصورة البصرية التي اتخذها التأله في الحياة المعاصرة (عبد الرحمن 2017، 2: 223)؛ ذلك أن تلك الآفات الخمس هي آفات نفسية تعكس—في عمقها—منازعات للخالق عز وجل في صفاته التي تدل عليها أسماؤه الحسنى، وهي آفات: منازعة الرقيب، ومنازعة الخبير، ومنازعة اللطيف، ومنازعة العليم، ومنازعة المهيمن.
ولكن كيف يتصدى الفقه الائتماري لهذه الآفة؟ استعرض طه الوجوه المحتملة لتعامل الفقيه الائتماري مع خصائص التجسس منتقدا اقتصاره على إصدار الأحكام الفقهية دون أن يصحبها بإبطال مبادئ يتحجج بها المتجسس لمواصلة عمله الشنيع؛ لذا تبدو أحكامه الموجهة للمتجسس مجرد أوامر لا مسوغ لها، فلا يعيرها اهتمامًا ولا يعمل بها.
فأما الغلو في المراقبة، فينطلق الفقيه الائتماري من مبدأ ”تعميم النهي عن التجسس“ ليحرم القرصنة الإلكترونية وعموم المراقبة الصحافية، إلا ما كان من مراقبة للأشخاص الذين ظهرت أمارات إضرارهم بالمجتمع فيجيزها (عبد الرحمن 2017، 2: 191)، بينما يختلف موقف الفقيه الائتماري من تجسس المؤسسات تبعا للمؤسسة المتجسسة، فهو يحرم التجسس الاقتصادي بإطلاق، ويجيز التجسس العسكري بإطلاق، ويجيز من التجسس الأمني القدر الذي يدفع الضرورة، ويتعامل مع التجسس العلمي وفق ”آلية التقييد“ (عبد الرحمن 2017، 2: 192–193)، أما النفوذ إلى الباطن، فينطلق من مبدأ ”الأخذ بالظاهر“، ليحرم كل أشكال تفتيش الجسد سواء بكشف اللباس أو عبر آلات المسح، ويجيز القياسات الحيوية الموجهة إلى اليد أو الوجه أو العين في التعرف على هوية الشخص (عبد الرحمن 2017، 2: 195)، بينما يستند الفقيه الائتماري في حكمه على التجسس النافذ إلى الحياة الخاصة، إلى ”مبدإ احترام الخصوصية“؛ فيحرم تعميم إنشاء الملفات المعلوماتية على جميع أفراد المجتمع، أيا كانت الجهة التي تلجأ إليها: أمنية كانت أو اقتصادية. (عبد الرحمن 2017، 2: 200–206). أما نزعة الإحاطة بكل شيء فيفتي فيها بالتحريم، بل يعدها كبيرة من الكبائر لما يترتب عليها من دائم الانتهاك للخصوصية الذي يشبه الاغتياب الدائم. أما التحكم بكل شيء، فيميز فيه الفقيه الائتماري بين أنواع التجسس: العلمي والاقتصادي والأمني والشخصي، ويلجأ إلى التفريق بين الأهداف المرسومة له وبين الوسائل المتبعة في تحقيقها، فيفتي في غالب الأهداف بغير ما يفتي به في الوسائل من جواز أو تحريم. فيحكم—مثلا—بالجواز على هدف التحكم العلمي الذي هو تسخير الكائنات، لكنه لا يجيز أغلب الوسائل التجسسية التي يتوصل بها العلم إلى هذا الهدف؛ ويحرم هدف التحكم الاقتصادي الذي هو تحويج المستهلك، لكنه قد يجيز بعض الوسائل التي تتوصل بها المقاولة إلى هذا الهدف كتحسينها للعمل التجاري (عبد الرحمن 2017، 2: 212–213).
أما الفقيه الائتماني فهو الوحيد الذي يستطيع إدخال المتجسس في تجربة روحية خاصة تعيد له حياءه وتزيل عنه آفة التجسس؛ بفضل مجلسه الذي يقوم على المعاينة والملازمة مما يمكن الفقيه الائتماني من إنشاء علاقة وجدانية مع المتجسس تقوم على الصحبة والود، كما يقيم الفقيه الائتماني علاقة اشتغالية مع المتجسس تقوم على الاجتهاد في الأعمال والارتقاء في المراتب؛ تطهيرا للنفس وتطويرا للسلوك (عبد الرحمن 2017، 2: 222). فالفقيه الائتماني له طرقه في إخراج المتجسس من آفة التجسس، وهي طرق تجمع بين إبداء الرحمة والحث على الخدمة، وتقوم هذه العلاقة/الطريقة الوجدانية على التلطف مع المتجسس وإرسال إشارات التنبيه المباشرة وغير المباشرة إليه، وخلخلة وعيه بالأسئلة التي تستفز عقله، حتى إذا لمس منه الاستعداد المبني على الشك فيما كان عنده من مسلمات، والإحساس بخطأ ما تعوده من تجسس، ألقى عليه من الأعمال الأسمائية ما يرقى به ويخرجه من آفة التجسس إلى حياء الشاهد (عبد الرحمن 2017، 2: 225–247).
الآفة الثالثة هي ”التكشف“ التي تحدد علاقة الإنسان المعاصر بالآخر الناظر إليه، متفرجا كان أو متجسسا أو ناظرا غير متفرج ولا متجسس. توقف طه عند خمس صفات للمتكشف المنظور إليه تجعل منه منظورا ميتا؛ والمنظور الميت—كالناظر الميت—هو المنظور إليه الذي ضيع الحياء؛ الذي به تكون حياة الحي، وهذه الصفات هي: الأولى: إبداء الكل، حيث يُظهر المتكشف كل شيء من حالته الجسمية والنفسية. الثانية: إبداء الباطن حيث يُفشي المتكشف أسراره ويودعها مذكّرته في شبكات التواصل. الثالثة: حب الوجود حيث يعتبر المتكشف أن وجوده رهين بظهوره واشتهاره سعةً وقيمةً. الرابعة: حب الذات حيث يعشق المتكشف صورته أو جسمه أو بصره. الخامسة: استهواء الآخر؛ إذ يحرص المتكشف على أن يؤثر في الآخرين ليجعلهم يتكشفون كما تكشف.
كيف يتصدى الفقه الائتماري لهذه الآفة؟ استعرض طه الوجوه المحتملة لتعامل الفقيه الائتماري مع خصائص التكشف الخمس، ليخلص إلى القول: إن أحكامه تتأرجح بين التحريم والتجويز والعفو بحسب كل حالة، وهي لا تؤثر في المتكشف إلا بالقدر التي تؤثر فيه الأوامر المجردة التي يعتقد أن الوقائع قد تجاوزتها، فضلاً عن كونها لم تأخذ بعين الاعتبار معانٍ أساسية ارتبطت بالتكشف مثل ”نزع اللباس“ و”تحدي الخالق“ و”التخلق بأخلاق إبليس،“ فلا يتفاعل المتكشف مع أحكام الفقيه الائتماري؛ مُصرا على أنها أوامر تضر بحريته في الظهور والوجود، فدل ذلك على أن ”الفقه الائتماري“ لا يتوصل إلى نقل الإنسان المعاصر من الحالة الاختيانية إلى الحالة الائتمانية.
أما الفقه الائتماني فيتعامل مع خصائص التكشف الخمس واحدة واحدة، تعاملاً يؤثر إيجابا في المتكشف؛ إذ إن هذا الفقيه يراعي ظروفه ويأخذه باللطف حتى يتعلق به، فيدعوه إلى العمل متدرجا به في معرفة عيوب نفسه إلى أن يستيقن أنه ينازع ربه في اسم من أسمائه الحسنى وهو ”الشهيد،“ فينتقل به إلى الحال الذي يشعر فيه بالحياء من ربه، وهو حال ”المشهود“ وقد كان قبلها في حال ”المتكشف.“
بعد أن قدمنا خلاصة الفلسفة الائتمانية في مجال الإعلام والاتصال، سنحاول فيما تبقى من الفصل أن نقدم رؤية نقدية لها، مع بيان ميزاتها وإمكاناتها، ثم سنحدد أوجه القصور فيها والتي نعتبر الاشتغال عليها تطويرا وتجويدا سيضاعف من إمكانات نسق الائتمانية إعلاميا رغم ما تميزت به—في وضعها الحالي—من معالجة متقدمة وغير مسبوقة للتحديات الأخلاقية في هذا الحقل.
2 الائتمانية في مجال الإعلام والاتصال وإمكاناتها التطبيقية
تتوزع خصائص المنهجية الائتمانية في مجال الإعلام والاتصال على مستويين: المضمون والمنهجية وبناء على هذا التقسيم سنفصل فيهما.
2.1 مضمون الكتاب
تدرج النظر الائتماني في التحديات الأخلاقية للإعلام عبر ثلاثة مضامين هي: وصفي تحليلي يتناول آفات الإعلام الأخلاقية، وفقهي ائتماري يتلخص في بيان الحكم الفقهي المتعلق بكل صفة من صفات الآفة الأخلاقية، وتربوي يعرض المنهج الائتماني في علاج صفات آفات الإعلام الخلقية وكيفية الوقاية منها.
اجتهد طه كثيرا في الشق الفكري التحليلي الذي يرصد الآفة الأخلاقية ويوضح صفاتها ومظاهرها وأسبابها ومفاسدها، فكان موسوعي العرض والاقتباس عن أعلام علم النفس مثل فرويد وجاك لاكان، فقد برع—مثلا—في تحليل الآليات النفسية العميقة والكامنة وراء آفة التلصص (عبد الرحمن 2017، 2: 49–59)، وكشف العلاقة الخفية بين العنف والشهوة الجنسية مقتبسا من رونيه جيرار (عبد الرحمن 2017، 2: 68–70).
وفي الكتاب نجد أيضا أن طه يواكب الخطاب المتخصص المعاصر في مجال نقد الإعلام والاتصال على مستويين: الأول: قدرته على التقاط العيوب الأخلاقية المتداولة بين المتخصصين وإعادة صياغتها بأسلوبه الخاص، والثاني: أنه ينتبه للخطاب النقدي المتخصص في الإعلام والاتصال، فيلتقط مفرداته، ويستلهم أمثلته وقضاياه. ففيما يخص المستوى الأول، لم يكتف طه فقط بابتكار تعبيرات خاصة مثل (التفرج والتكشف، والرواقيب، والسير التكشفي …) بل وضعها ضمن بنية فكرية منظمة ومتماسكة استطاع—من خلالها—أن يحصر الانتقادات الأخلاقية الموجهة إلى الإعلام والاتصال في ثلاث آفات كبرى هي: التفرج والتجسس والتكشف، وأن يجعل من باقي المزالق الأخلاقية صفات لهذه الآفات الثلاث وفق بنية منطقية تبدو مقنعة.
وفيما يخص المستوى الثاني، تعرض طه لأهم الأمثلة التي يتناولها المتخصصون في الإعلام مثل ”البانوبتيكون“2 وهو عادة ما يَرد في سياق الحديث عن المراقبة داخل المجتمع (عبد الرحمن 2017، 2: 1158–1159)، وميز بدقة بين أصناف المتجسسين والصحافيين (عبد الرحمن 2017، 2: 131).
استخرج طه أيضا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المؤطرة لآفة التجسس، مع الإلمام بالتراث الفقهي المتصل بهذا الموضوع، وحصر أهم القواعد الفقهية المتعلقة به في سبعة سماها ”مبادئ ضبط التجسس“ وهي: تعميم النهي عن التجسس، وحفظ الستر، والبراءة من الذنب/ وحسن الظن، والحاجة إلى التبين، والأخذ بالظاهر، واحترام الخصوصية، ودفع أذى المتجسس، والاستئذان (عبد الرحمن 2017، 2: 189–191).
بالمقارنة مع أعماله السابقة، يمتاز هذا الكتاب بالبعد عن التعقيد، وتتسم لغة الكتاب بالثراء؛ إذ تنهل من قاموس اصطلاحي ومفاهيمي ينتمي إلى تخصصات متنوعة تشمل الفلسفة وعلم النفس والفقه والإعلام، والتصوف الذي يضفي على المتن مسحة روحية جميلة من حين لآخر.
2.2 المنهج الائتماني
سيتم الحديث هنا عن ملامح المنهج الائتماني وصفات الفقيه الائتماني، وكيف يمكن له أن يُسهم في علاج الآفات الأخلاقية التي يواجهها الإعلام والاتصال.
تقوم الائتمانية على ”النظرية الميثاقية“ بدلاً من ”نظرية العَقد“ التي قامت عليها حياة الإنسان المعاصر (عبد الرحمن 2017، 1) و”الميثاقية“ تستند إلى المواثقة التي حصلت في حالة الوجود الأول للإنسان مع ربه في عالم الملكوت، فهي مواثقة روحية وتعاهد أخلاقي يضبط علاقات التعامل بين المؤمنين وخالقهم، وتجلت في ميثاقين: ”ميثاق الإشهاد“ الذي اعترف فيه الإنسان بربوبية خالقه حين تجلى له بأسمائه الحسنى؛ و”ميثاق الائتمان“ الذي حمل الإنسان بموجبه أمانة القيم التي تُجلب بهذه الأسماء.
وهذا يخالف نظريات العقد التي كانت فيها الحالة الأولى (حالة الطبيعة) حالة مُلكية لا روحية ملكوتية، كما أن التعاقد الميثاقي حصل بين الإنسان وربه؛ بخلاف التعاقد بين الإنسان والإنسان في النظرية العقْدية. وإذا كانت الحالة المدنية هي مأمول النظرية العقدية، فإن النظرية الميثاقية تدعو إلى الخروج من الحالة المدنية إلى الحالة الملكوتية؛ خصوصا أن الحالة المدنية هي ”حالة اختيانية“ لميثاق الإنسان الأول مع ربه. فالانتقال من ”حالة الاختيان“ إلى ”حالة الائتمان“ مشروط بهداية ”أهل العلم“ للناس؛ ”إذ يذكرونهم بسابق التزاماتهم الملكوتية، وبأن ما آلوا إليه من موت قلوبهم هو بسبب خيانتهم لهذه الالتزامات الروحية، ويدلونهم على السبيل الذي يوصلهم إلى تجديد مواثقتهم لربهم حتى تعود الحياة إلى قلوبهم“ (عبد الرحمن 2017، 1: 19). بناء على ما سبق، ينبغي التمييز بين نوعين من الفقه: ”الفقه الائتماري“ الذي يبرز فيه جانب ”التكليف“ ويتصل بظاهر الأحكام الشرعية، وموضوعه استنباط تلك الأحكام، و”الفقه الائتماني“ الذي يبرز فيه جانب ”الأمانة“ ويتصل بالقيم الأخلاقية الكامنة في تلك الأحكام الشرعية، وموضوعه استخراج تلك القيم الكامنة والتربية عليها، فهو أيضا فقه تربوي.
خصص طه الجزء الأول من ”دين الحياء“ لشرح الجانب النظري للائتمانية، وهي نظريةٌ تقوم على مفاهيم وأصول ونتائج: فالمفاهيم الائتمانية عديدة ولكن معظمها على شكل أزواج كالإدراك الـــمُلكي والإدراك الملكوتي، والائتمار والائتمان، والائتمان والاختيان، والآمرية والشاهدية. وتدور جملة الأصول الائتمانية على البعد الوجداني الباطني، فمن هذه الأصول: أن استخراج القيم الأخلاقية من الأحكام الشرعية يكون بطريق الاستدلال، بينما تؤخذ القيم الأخلاقية من الأسماء الحسنى بطريق الاستبصار، وهو إلى الشعور الوجداني أقرب (عبد الرحمن 2017، 1: 22)، وأن الائتمان عبارة عن رعاية القيم الأخلاقية المبثوثة في الأحكام الشرعية (عبد الرحمن 2017، 1: 22)، وأن مبدأ التزكية يصل عالم الملك بعالم الملكوت، وفي عالم الملكوت أُخذ ميثاقا الإشهاد والائتمان من الإنسان (عبد الرحمن 2017، 1: 275)، والأسماء الحسنى لا متناهية وهي مصدر القيم الأخلاقية (عبد الرحمن 2017، 1: 275)، ويتلازم الإسراء مع العروج؛ باعتبار أنه لا عروج بلا إسراء؛ لأن الإسراء هو العمل الذي يفضي إلى التخلق، والتخلق هو معراج الإنسان نحو الملكوت (عبد الرحمن 2017، 1: 276).
وبما أن الإنسان المعاصر قد خان الأمانة وتخلى عن الأخلاق، والحياء أس الأخلاق، فالإنسان المعاصر إنسان ميت؛ لافتقاده خلق الحياء. فليس للإنسان من اختيار سوى الخروج من حالة الاختيان إلى حالة الائتمان، والحياء هو المدخل إلى ذلك، والفقه الائتماني بما يمتلكه من طرق تربوية هو—وحده—الكفيل بعلاج أدواء الحياة المعاصرة وإعادتها إلى الحالة الائتمانية، فواجب الفقيه الائتماني ثلاثي: بيان القيم الأخلاقية المتضمّنة في الأحكام الشرعية، مع التخلق بها ليكون قدوة للآخرين، ثم مراقبته للآخرين في تخلقهم بتلك القيم. أي أن الفقيه الائتماني يختلف تماما عن الفقيه الائتماري. وفي هذا يقول طه: ”والآخرون قد يأخذون بظواهر الأحكام ورسوم الأعمال بأنفسهم، ولكن لا يستطيعون أن يأخذوا ببواطنها بأنفسهم، نظرا لأن القيم التي تنبني عليها هذه الأحكام والتي يُتوصل بها إلى التخلق، تتصف بصفتين أساسيتين لا يقدر على التعامل معهما إلا الخبير العارف بأسرار التخلق والمالك لأسبابه؛ إحداهما الخفاء؛ إذ إنها معانٍ دقيقة يتطلب إدراكها قوة استبصارية واستدلالية فائقة، والثانية: عدم الانضباط؛ فليست هناك معايير ظاهرة أو مادية يمكن أن يُتوسل بها في ضبط هذه المعاني الخفية. وعلى هذا، فإذا كان الفقيه الائتماري يعلم ظاهر الأحكام ويعمل بهذا الظاهر القانوني، ولا يستعمل الآخرين فيه، فإن الفقيه الائتماني يعلم بباطن الأحكام ويعمل بهذا الباطن الأخلاقي ويستعمل الآخرين فيه، ولما كان الفقيه الائتماني يستقل بوظيفة الاستعمال، فقد عرف باسم المربي“ (عبد الرحمن 2017، 1: 23).
ويمكن أن نُجمل صفات الفقيه الائتماني في أنه يملك مهارات معرفية وعرفانية وتربوية. فمن جهة المعرفة هو متمكن من مهارات الفقيه الائتماري التي تدور على استنباط الأحكام الشرعية الظاهرة، وعالم أيضا بأحكام الباطن وقادر على استخراج القيم الأخلاقية المتضمنة فيها. ومن جهة العرفان هو يمتلك قوة استبصارية وقوة استدلالية فائقة قادرة على استخراج المعاني الدقيقة الخفية من قيم التخلق الكامنة في الأحكام، رغم غياب أي معايير ظاهرة أو مادية يمكن أن يُتوسل بها في ضبط هذه المعاني الخفية. ومن جهة التربية، هو قدوة يعمل بهذا الباطن الأخلاقي وهو خبير عارف بأسرار التخلق ومالك لأسبابه وهو مربٍّ قادر على حمل الآخرين على العمل بتلك القيم الأخلاقية. ولكن كيف يمكن للائتمانية أن تساعد في علاج الآفات الأخلاقية في مجال الإعلام والاتصال؟
قبل إيضاح الجواب على هذا السؤال، عمل طه أولاً على تفكيك الآفات الأخلاقية وتحليلها بمنهج فكري فلسفي، ثم بين ثانيًا أحكام الفقيه الائتماري المتعلقة بكل آفة أو بصفاتها، وأوضح أوجه القصور فيها.فالائتمانية التي تعتبر أسماء الله الحسنى مصدر القيم الأخلاقية تَرد الآفات الأخلاقية وصفاتها الفرعية إلى مسألة مركزية هي منازعة الإله في أسمائه الحسنى وصفاته، فآفة التجسس مثلاً، يتفرع عنها خمس صفات هي: الغلو في المراقبة، والنفوذ إلى باطن الإنسان، والنفوذ إلى الحياة الخاصة، وطلب الإحاطة بكل شيء، والرغبة في التحكم بكل شيء. فهذه الآفة بصفاتها الخمس هي عبارة عن منازعة الحق سبحانه في خمسة من أسمائه الحسنى هي: الرقيب والخبير واللطيف والعليم والمهيمن. ومن ثم فإن العلاج الائتماني ينبني على هذا التشخيص المبني على استدلال منطقي وحِكمي.
وقد صاغ طه العلاج الائتماني بأسلوب سردي يوضح كيف يقوم الفقيه الائتماني بعلاج الآفات الأخلاقية عند المتفرج أو المتجسس أو المتكشف عبر إقامة علاقة وجدانية تقوم على النظر والمجالسة بين الفقيه الائتماني المربي والمتفرج مثلا، يَسِمها الحياء والمودة، ثم يبدأ المربي بإثارة انتباه المتفرج إلى مفارقات تفرجه ومغالطاته وفساد منطقه وغاياته، حتى إذا أيقن المربي أن الشك بدأ يخامر نفس المتفرج، وأن عقله النقدي بدأ يشتغل، وأيقن أن نفسه متهيئة للانتقال إلى مرحلة أخرى، ألقى الفقيه المربي إلى المتفرج بعمل أسمائي (تكليف عملي يقوم على القيم الأخلاقية المتضمنة في الأحكام الفقهية) يلائم استعداده وخصوصياته ليعمل به ويسلك من خلاله، ثم يراقب الفقيه الائتماني تخلق المتفرج به، ثم ينتقل المربي بالمتفرج إلى مرحلة أعلى من النقاش والتنبيه والتشكيك، فإذا لمس منه الاستعداد كلفه بعمل أسمائي أرقى. وهكذا يستمر العلاج حتى يخرج المربي بالفرد من حال الاختيان إلى حال الائتمان ويصير خلق الحياء متجذرا فيه.
3 الائتمانية في مجال الإعلام والاتصال: رؤية نقدية
بعد تقديم عرض مجمل للكتاب، سنحاول هنا تقديم رؤية نقدية للكتاب من خلال مستويين: المضمون والمنهج. فعلى مستوى المضمون، سنبحث في تأثير المراجع المعتمدة على تطبيقات الائتمانية، وهذه النقطة وإن كانت تتصل بالمستوى المنهجي إلا أننا سنركز فقط على تأثيراتها على المضمون. وعلى مستوى المنهج، سنناقش جانبين مركزيين هما: تحليل الآفات الأخلاقية، وعلاجها الائتماني.
3.1 المضمون الإعلامي: رؤية نقدية
استند الجزء المخصص للحديث عن لإعلام من الكتاب إلى سبعة وثمانين مرجعا، أربعة وعشرون منها باللغة العربية، وثلاثة وستون باللغة الأجنبية. ثلث المراجع العربية كتب فلسفية لطه نفسه، والبقية (16 كتابا) كتب دينية كلاسيكية بعضها صوفية. أما المراجع الأجنبية فثلاثة منها باللغة الإنجليزية، وواحد ألماني، وواحد لسيغموند فرويد مترجم إلى الفرنسية، والبقية (58 كتابا) باللغة الفرنسية.
فالمراجع الأجنبية هي لكتّاب ذوي تخصصات مختلفة يهتمون ويكتبون في مجال الإعلام والاتصال، أبرزهم مثلا جون كلود كوفمان (Jean-Claude Kaufmann) وهو عالم اجتماع فرنسي، وبول ماتياس (Paul Mathias) وهو متخصص في الفلسفة ويبحث في مجال الإنترنت، وجيل ليبوفتسكي (Gilles Lipovetsky) وهو أستاذ للفرنسية وللفلسفة. وحتى كبار الكتاب في مجال الإعلام والاتصال الذين اعتمد عليهم طه هم متخصصون في الفلسفة، مثل الفيلسوفين الفرنسيين جون بودريار (Jean Baudrillard) وَريجيس دوبري (Régis Debray) وعالم الاجتماع الفرنسي البلجيكي أرمان ماتلار (Armand Mattelart) الذي يُعتبر من المتخصصين البارزين؛ لغزارة كتاباته في مجال الإعلام والاتصال وخصوصا في تاريخ الاتصال والتأثيرات المعولمة لتكنولوجياته. تشير خارطة المراجع إلى ملحوظتين نقديتين: الأولى: غياب المراجع الأنجلوساكسونية وخاصة الأمريكية، والثانية: إغفال مراجع أكثر تخصصا من بعض المراجع المعتمدة. وهذا سيترك أثره على مضمون الكتاب فيما يخص الإعلام والاتصال، وهو ما سنوضحه فيما يأتي.
3.1.1 أثر غياب المراجع الأنجلوساكسونية
نستطيع أن نميز بين نموذجين اتصاليين في الغرب تبعا للكنيسة المسيحية المتبعة، فقد سيطرت التقاليد الدينية الكاثوليكية على المجتمع الأوروبي القديم، فكان النموذج الاتصالي الشعائري هو الأقرب إلى المجتمعات الأوروبية (فان لوون 2009: 26)، بينما هيمن النموذج البروتستانتي على المجتمع الأمريكي القديم (Parsons 1973)، وهو ما انعكس على سيادة النموذج الإرسالي من خلال التركيز على التبشير بالمسيحية بين سكان أمريكا الأصليين.
فرغم وجود أصول أوروبية ”شعائرية“ للاتصال الأمريكي، إلا أن النموذج الإرسالي هو المهيمن في الولايات المتحدة، ويحدد جيمس كاري (James W. Carey) سياقه الديني فيقول: ”كان ينظر إلى النقل والتنقل—وخاصة عندما جعلا الجماعة المسيحية في أوروبا على اتصال مع المجتمع الوثني للأمريكتين—بوصفهما شكلاً من أشكال الاتصال الذي له آثار دينية عميقة. وكانت هذه التحركات محاولة لإقامة مملكة الله وتوسيعها، لتهيئة الظروف التي يمكن أن يتحقق فيها التسامح الديني، وإيجاد الفردوس على الأرض. المعنى الأخلاقي للنقل، إذن، كان إنشاء وتوسيع مملكة الله على الأرض، وهو نفسه المعنى الأخلاقي للاتصال“ (Carey 2008: 13).
يبدو المعنى الإرسالي أكثر وضوحا في قوله: ”دخلت هذه التكنولوجيا الجديدة إلى المناقشات الأمريكية ليس باعتبارها أمرا دنيويا، بل باعتبارها إلهاما إلهيا لأغراض نشر الرسالة المسيحية لمدى أبعد وأسرع، ولتخطي الزمن وتجاوز المكان وتخليص الوثنيين والتعجيل بيوم الخلاص وجعله وشيكا“ (Carey 2008: 14).
لا يتعلق الأمر هنا بجذور دينية وجهت نشأة الاتصال ثم انزوت، بل إن بحوث الاتصال الجماهيري المعاصر وما تهتم به من قضايا التأثير وغيرها، لم تخرج قط عن الرؤيتين الدينيتين الإرسالية والشعائرية، وهما الرؤيتان المسؤولتان عن ترتيب مجالات بحوث الاتصال الجماهيري وتحديد أنواعها:3 ففيما يخص الرؤية الشعائرية للاتصال، يصف (James Carey) امتداداتها الإعلامية قائلا: ”إن رؤية شعائرية للاتصال تركز على مجموعة مختلفة من المشاكل في دراسة الصحف، مثل اعتبار قراءة صحيفة كإرسال أو اكتساب معلومة على الأقل، وربما تبلغ درجة حضور قداس، وهي وضعية لا جديد فيها يتم تعلمه، ولكنها ترسم رؤية خاصة للعالم وتصادق عليها. كما أن قراءة الأخبار وكتابتها هو عمل طقسي بل يبلغ أن يكون عملا دراميا. فما يحتشد أمام القارئ ليس معلومات خالصة، وإنما صورة عن القوى المتنافسة في العالم“ (Carey 2008: 16).
تتقاطع هذه الرؤية—إلى حد ما—مع بحوث وظائف الاتصال، وإن كانت تحيل بشكل رئيس إلى مجال واسع من الدراسات الإعلامية يشمل: علم اجتماع الاتصال، و”اجتماعيات التقنية والوساطة“ مثل أعمال إفريت روجرز (Everett Rogers) (; Rogers 1963مييج 2011، 56–61) أو الدراسات الظاهراتية للاتصال المستندة فلسفيا إلى ”هوسرل“ مثل مفهوم الانحياز عند هارولد إينيس (Harold Innis) (Iniss 1982).
وفيما يخص الرؤية الإرسالية للاتصال، فقد أفضت إلى ابتكار مجال واسع من البحث في تأثيرات الإعلام والاتصال وصياغة نظريات تخصه، ودراسات وظائف الاتصال التي أنتجت العديد من النظريات الإعلامية المفسرة مثل نظرية الاستخدامات والإشباعات، ونظرية القيمة المتوقعة. ويوضح النص الآتي ما سبق: ”إذا تفحص أحدهم صحيفة وفق الرؤية الإرسالية للاتصال، فإنه سيرى الوسيط مجرد أداة لنشر الأخبار والمعرفة بل والترفيه أحيانا، مع وجود أعداد هائلة من الجرائد تغطي مساحات أكبر. هنا تنشأ تساؤلات حول آثار هذه الأداة على الجماهير: الأخبار بوصفها إنارة للواقع أو تعتيما عليه، تغييرا للمواقف أو تعزيزا لها، تكثيفا للمصداقية أو للشك. تثار تساؤلات أيضا بشأن وظائف الأخبار والصحف: هل تدعم اندماج المجتمع أم تحدّ من تكيفه؟ هل تعزز استقرار الشخصيات أو عدم استقرارها؟ مثل هذا التحليل الميكانيكي يصاحب عادة الحجة الإرسالية“ (Carey 2008, 16).
وبالرغم من عدم تخصص طه في مجال الإعلام، فإن التصور الشعائري هو المهيمن في كتابه. فلو تأملنا الاقتباس السابق عن جيمس كاري الذي تحدث فيه عن الوجه المعاصر للرؤية الشعائرية، نجد أن ما يميزها ليس نقل ”المضمون“ الإعلامي بل توحيد طقوس وعادات الاستهلاك الإعلامي والاتصالي، وإذا تأملنا حديث طه عن التفرج والتجسس والتكشف سنجده موجها برؤية أوروبية شعائرية، ولذلك توقف عند الآفات الأخلاقية المرتبطة بعادات استخدام تكنولوجيا الإعلام والاتصال فقط، من دون الانتباه إلى ما عداها من إشكالات ترتبط بأخلاقيات النقل والإرسال. ولا شك أنه لو استند إلى مراجع أمريكية كان سيكون أكثر ثراءً وانفتاحا على إشكالات أخلاقية تتصل بالنموذج الإرسالي أيضا.
3.1.2 أثر غياب بعض المراجع المتخصصة
تخلو مراجع الكتاب من أي مرجع عربي يتناول قضايا الإعلام والاتصال، كما أن المراجع الأجنبية وإن كانت تتضمن أعمالا مهمة في هذا المجال مثل كتابات ريجيس دوبري أو جان بودريار، إلا أنها تخلو من أعمال المتخصصين؛ فالمراجع ذائعة الصيت بين المهتمين تعود إلى علماء اجتماع ومتخصصين في الفلسفة. ومن المعلوم أن المدرستين الأمريكية والكندية رائدتان في مجال الإعلام والاتصال؛ بل إن الإعلام الحديث والمعاصر أمريكي النشأة منذ بدايات القرن الماضي، فالرواد المؤسسون للمجال أمثال إيليهو كاتز (Elihu Katz) وبول لازارسفيلد (Paul Lazarsfeld) وكارل هوفلاند (Carl Hovland) وهارولد لاسويل (Harold Lasswell) هم أمريكيون أو مهاجرون أصبحوا مواطنين أمريكيين.
إن افتقاد لغة التخصص ومنطقه سيجعل طه أشبه برسام يقدم ملاحظاته الجمالية على عدة مبانٍ؛ فملحوظاته قد تكون صحيحة من الناحية الجمالية، لكنها لن تستحضر القواعد الهندسية الرياضية، بل إن بعضها قد يكون غير صالح للتطبيق. ولبيان ذلك سأستعرض أبرز المقاربات الأخلاقية لقضايا الإعلام والاتصال التي غابت عن النظرية الائتمانية؛ إذ لا تخلو الكتابات العربية من أعمال مهمة تناولت الإشكالات الأخلاقية لتكنولوجيا الإعلام والاتصال، ويمكن أن نميز فيها بين خمس مقاربات4 غابت جميعها عن كتاب ”التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال“. ويمكن إجمال هذه المقاربات كالآتي:
-
خطاب الإعلام الإسلامي
تهتم هذه المقاربة بتخليق الإعلام عموما أو أسلمته ضمن ما يسمى بالإعلام الإسلامي، وتشترك أعمال تأصيلية عدة رغم الفروق فيما بينها في اقتراح رؤية إسلامية بالاستناد إلى مرجعية قرآنية لصياغة تصور اتصالي يعلي من شأن القيم. تعتبر هذه المقاربة أن ”الإعلام الإسلامي“ يعمل على نشر وتعزيز القيم الأخلاقية والإسلامية، في مواجهة الإعلام الغربي الذي يكرس قيما سلبية بالمنظور الإسلامي.
ويمكن تصنيف المحاولات التأصيلية للإعلام والاتصال الجماهيري في ثلاثة محاور كبرى هي: الأول: الدراسة النظرية التي تنهج منهجا وصفيا تاريخيا واجتماعيا، وتحلل النصوص القرآنية المتصلة بالموضوع، في محاولة لاستنباط مبادئ توجيهية، والثاني: الدراسة المعيارية وتحليل مؤسسات الاتصال الإسلامية ومدى وفائها بالمعايير الأخلاقية، والثالث: الاتجاه نحو بناء نظريات ونماذج اتصالية إسلامية (قلندر وعوض 2009، 29–58).
تهتم هذه المقاربة بالقيم والأخلاقيات التي تحكم المضمون الإعلامي السائد للوقوف على ما هو قائم بالفعل (الأمير 2013)، أو تسعى إلى إنجاز دراسات ميدانية لتعرف تأثير محتوى إعلامي معين في توجيه سلوك الجمهور (الحلاحله 2012)، أو تحاول الجمع بين الطريقتين معا (المكي وآخرون 2013).
تندرج نظرية الحتمية القيمية في الإعلام للباحث الجزائري عبد الرحمن عزي في إطار بناء نظرية قيمية في الإعلام والاتصال، وهي محاولة رائدة في العالم الإسلامي، ولها صدى طيب عند بعض الغربيين من كبار المتخصصين أو المهتمين بأخلاقيات الإعلام مثل الأمريكي كليفورد كريستنز (Clifford G. Christians). وتتجلى أهمية نظرية عبد الرحمن عزي في كونها جمعت بين التأسيس النظري والامتداد التطبيقي أولاً، وبين الانطلاق من التراث الفكري الإسلامي والتمكن من المفاهيم الاتصالية والأدوات البحثية الغربية ثانيًا، لتصبح في الأخير نظرية معيارية نحكم بها على المحتويات الإعلامية والاتصالية من منظور قيمي. وتستند هذه النظرية إلى أربع مكونات رئيسة هي: ”1- التراث العربي والإسلامي، 2- إبستيمولوجيا الاتصال والإعلام، 3- الفكر الفلسفي والاجتماعي الغربي المعاصر في القرن العشرين متمثلا بالمدارس الاجتماعية الآتية: المدرسة البنيوية، والمدرسة الظاهراتية، ومدرسة التفاعلات الرمزية، والمدرسة التأويلية النقدية، 4- الفكر الإعلامي القيمي من خلال بعض الحفريات في الفكر الحضاري لمالك بن نبي، والتواصل القيمي في مذكرات الشيخ سيدي الحسين الورتلاني والأخلاقيات الإعلامية في الرؤية النورانية النورسية“ (بوعلي 2014، 87).
تقوم نظرية الحتمية القيمية في الإعلام على وجود تأثير متبادل بين الثقافة في بعديها المعنوي والواقعي المعيش من جهة، وبين وسائل الاتصال كعالم رمزي من جهة أخرى (عزي 2009، 102)؛ فهناك علاقة وثيقة بين الإعلام—بوسائله المختلفة—والثقافة، حيث تؤثر وسائل الإعلام والاتصال بشكل حتمي على ثقافة المجتمع، وهو التأثير الذي يتراوح بين الإيجاب والسلب: ”إن التأثير يكون إيجابيا إذا كانت محتويات وسائل الإعلام وثيقة الصلة بالقيمة، وكلما كانت الوثائق أشدّ كان التأثير إيجابياً. وبالمقابل، يكون التأثير سلبياً إذا كانت محتويات وسائل الإعلام لا تتقيد بأية قيمة أو تتناقض مع القيمة، وكلما كان الابتعاد عن القيمة أكبر كان التأثير السلبي أكبر“ (عزي 2009، 112).
يربط عزي أيضا بين كل من الثقافة والقيم والدين، فيعرف القيم انطلاقا من الدين، ثم ينطلق منها لدراسة العلاقة بين الثقافة التي تحيل إلى العالم المعيش، ووسائل الاتصال التي تمثل العالم الرمزي، مركزا على أولوية الثقافة على وسائل الاتصال؛ إذ يتولد عن انتقال الثقافة إلى وسائل الاتصال تأثيرات إيجابية على المجتمع إذا كانت المحتويات الإعلامية وثيقة الصلة بالقيم، بينما تتولد عنه تأثيرات سلبية إذا كانت تلك المحتويات متناقضة مع القيم أو متحللة منها.
وقد قام عزي بتأسيس الخلفية الفكرية لنظريته (عزي 2012، وعزي 2013) من خلال إعادة تعريف بعض المفاهيم المتداولة بشكل ينسجم مع المرجعية الفكرية التي حددها لنظريته، مثل تعريفه لمفهوم القيمة من خلال ربطها بالدين، أو مفهوم الثقافة باعتبارها المعايشة الرمزية للواقع انطلاقا من القيم (عزي 2009، 101–122)، أو مفهوم الرأي العام بالاستناد إلى مفهوم العصبية عند ابن خلدون ومفهوم الشورى، كما قام أيضا بابتكار عدته المفاهيمية الخاصة مثل ما اقترحه من مفاهيم المخيال الإعلامي، والزمن الإعلامي، والمكان الإعلامي. وكان يمكن لنسق الائتمانية أن يستفيد من معطيات هذه النظرية في المجال الإعلامي خصوصا وأن نظريتي: الائتمانية والحتمية الأخلاقية تتوافقان في جملة أمور من أبرزها محورية القيم الأخلاقية، وكونها تستمد من أسماء الله الحسنى.
تندرج ضمن هذه المقاربة محاولتي الكشف عن الخلفية الإبستيمولوجية للنظريات الإعلامية؛ إذ أنطلق من نقد التصور الخاطئ الذي يعتبر الإعلام وعاءً محايدا لنقل المضامين (التي قد تكون أخلاقية أو لا تكون)، لأبرز أن البنية الإبستيمولوجية للإعلام تفرز قطعا محتويات منافية للقيم، فعوض الانشغال بتحليل القيم والأخلاق الواردة في المضامين الإعلامية ونقدها، ينبغي إعادة النظر في الأسس الإبستيمولوجية التي تقوم عليها النظريات الإعلامية الكبرى، والتي ستعمل دوما بشكل مناقض للقيم الأخلاقية (المكي 2016).
بالرغم من تعدد نظريات الاتصال إلا أنها تظهر في ثلاثة أشكال:
الأول: الاتصال التمثيلي: ويشمل النظريات التي تعلي من شأن المرسل وتفترض التأثير الحتمي والمباشر للاتصال، ويقوم هذا الاتصال على استعارة الآلة، حيث تنفصل عناصر الاتصال بعضها عن بعض، ويهيمن المرسل على الاتصال. وتتأسس هذه النظريات على التمثل الديكارتي الذي يميز بين الفكر والمادة، ويعلي من شأن العقل بل يعطيه الأسبقية على الواقع الفعلي.
الثاني: الاتصال التعبيري، ويشمل نظريات الاتصال التي تصنف ضمن مرحلتي التأثيرات المحدودة والمعتدلة، فيتساوى المرسل والمستقبل في الأهمية، ويتناوبان على وظيفتي الإرسال والاستقبال، ويساهمان معا في إنجاح الاتصال إلى جانب عناصر أخرى مثل السياق والخبرة المشتركة وغيرها من الشروط. هذا الاتصال يتبنى استعارة الجسد العضوي، حيث إن عناصره تتمايز وظيفيا، غير أن اشتغالها الكلي مشروط باشتغال كل جزء على حدة بشكل جيد، وهذا ما يبرر استناد الاتصال التعبيري إلى فلسفة سبينوزا وتصوره للطبيعة تحديدا.
الثالث: الاتصال المعاصر، وهو اتصال مربك يختلط فيه التمثيل بالتعبير، كما تختلط فيه الاستعارات وتتشابك، غير أنه يتأطر فلسفيا بمقولات ما بعد الحداثة، وليس بالجمع بين فلسفتي ديكارت وسبينوزا.
تعكس أنواع الاتصال الثلاثة: الخطي التمثيلي، والتفاعلي التعبيري، والتبادلي المربك منظومة قيم إعلامية واحدة تتشكل من ست قيم موجهة هي: التنافسية وصيغتها القصوى الصراع، والاستغلال وصيغتها القصوى المادية، والصيرورة وصيغتها القصوى النسبية المطلقة. وما يضفي السلبية على القيم الست الموجهة هو قيمة موجهة سابعة أعتبرها أصل الداء ومنشأه هي قيمة الجحود، أي نقيض التوحيد؛ بكل ما قد تتخذه من مظاهر تتراوح بين الحلول المسيحي، ونفي الإله التوراتي (المكي 2016).
هذه المقاربة هي الأقل بروزا كتوجه مستقل، وتندرج ضمن التربية الإعلامية التي تعرف بأنها: ”القدرة على أن نفسر—بوعي كامل وانتباه—المعاني والتأثيرات الإيجابية والسلبية لرسائل وسائل الإعلام التي تواجهنا“ (Gamble and Gamble 2002, 569)؛ حيث تركز التربية الإعلامية على مهارات التعرض النقدي الواعي لمضامين وسائل الإعلام من خلال امتلاك مهارات الفهم والتحليل النقدي، والتذوق الجمالي والفني للرسائل الإعلامية، وهي موجهة للصغار والكبار أيضا، ويمكن أن ندرج ضمنها ”التربية الإعلامية الأخلاقية.“
3.1.3 أثر غياب التخصص على تحليل الآفات الأخلاقية
تبرز مسألة عدم التخصص عند طه بشكلين متناقضين؛ فهي نقطة قوة ونقطة ضعف في آن واحد! فهي نقطة قوة من جهتين: الأولى: ما يمتلكه من قدرات بحثية كبيرة جعلت خطابه يضاهي خطاب المتخصصين ولاسيما وهو يستثمر آليات التحليل النفسي ليحلل الدوافع النفسية الكامنة في آفات التفرج، والتجسس، والتكشف، أو وهو يميز بين أنواع الصحافيين ويحدد أسماءهم التقنية، أو وهو يلتقط ببراعة أهم الإشكالات الأخلاقية للإعلام والاتصال المتداولة بين المتخصصين. الثانية: تحرر تفكيره من صرامة منطق التخصص الذي يوجه آليات الفكر ويحكم موضوعاته، فكلما كان الفكر منفتحا على تخصصات مختلفة جاء الإنتاج العلمي أكثر تميزا وإبداعا وعمقا.
وهي نقطة ضعف من جهتين أيضًا: الأولى: تفويته لعدد كبير من الكتابات والقضايا والمعالجات السابقة في مجال أخلاق الإعلام والاتصال كما سبق توضيحه، والثانية: افتقاده منطق التخصص في فهم الآفات الأخلاقية وتفسيرها، وهو ما سأضرب عليه مثالا واحدا يخص آفة التفرج. فطه يعتبر أن الصفات التي أدت إلى موت المتفرج هي: التوسط بالصور، والرغبة في تملك المصورات، وتأذي القدرات، والإغراق في التوهم، والوقوع في التلصص، والتشبع بالعنف؛ إذ يظهر ”توسط الصور“ من خلال ثلاثة مستويات: أن الصور هي واسطة المتفرج إلى الصور، وإلى المدركات الأخرى، وإلى الآخرين. ونظرا لعلاقة البصر باللمس، فإن المتفرج ينزع نحو تملك المصورات رغم أن كثرة التفرج لها أضرار نفسية وعقلية وجسدية على المتفرج. كما أن التعامل الإعلامي الحالي مع الصور نقلها من وضع المحاكاة إلى وضع ”إبدال الوهم بالحقيقة،“ وهو الوضع الذي يأخذ ثلاثة مستويات أيضًا: أولها: تقديم الصورة المبثوثة على الخبر؛ لأن الانفصال الإعلامي للصورة عن الخبر جعل المتفرج يهمل الخبر ويركز على الصورة، وثانيها: نقل أوصاف الشيء المصور إلى الصورة المبثوثة؛ إذ أصبحت الصورة مقصودة لذاتها بعد أن انتزعت من الشيء المصوَّر خصائصه، وثالثها: ”تقديم الصورة المبثوثة على الشيء المصور“ على أساس أن للصورة من الواقعية والفاعلية ما يكشف حقيقة المصور بما لا يتوصل إليه من دونها، فتم إسقاط منطق التعامل مع الصور على التعامل مع المصورات (عبد الرحمن 2017، 2: 23–71).
لكن بالتعمق في صفات التفرج التي أبدع طه في التقاطها وتحليلها، وباستثمار الزاد المتخصص في المجال، نقول: إن كل صفات التفرج التي جمعها ترتد إبستيمولوجيا إلى مسألة واحدة هي طبيعة علاقة الإعلام بالواقع؛ حيث إن المؤسسة الإعلامية تتولى—بوسائطها وصورها—نقل ”صورة الواقع“ إلى المتفرج، لذا فإن مهمتها هي الوساطة بين الفرد والواقع، وتأخذ تلك الوساطة ثلاث صيغ مختلفة يحضر الواقع في كل صيغة منها بشكل مختلف؛ فقد يكون الواقع موضوعيا وموجودا خارج الذات، وقد يكون غير موضوعي بأن يكون جزءا من الذات وهي جزء منه، وقد لا يوجد واقع أصلا بل مجرد نسخ زائفة عنه (المكي 2016، 252). فكل الصفات التي تندرج—عند طه—تحت آفة التفرج هي تعبير عن أسبقية المرسل في عملية الاتصال حيث تتولى المؤسسة الإعلامية الوساطة بين الواقع الموضوعي والفرد، وتنقل إليه صورة الواقع، فالمؤسسة الإعلامية وسيط بين العالم الموضوعي والعالم الممثل إعلاميا.
وينبغي أن نفهم وساطة الإعلام بمعنى أن ثمة عالما موضوعيا يوجد في الواقع، وهناك مستقبِل لا يعلم شيئا عن هذا العالم، فتتدخل المؤسسة الإعلامية (المرسل) كوسيط بين العالم الموضوعي وإدراك المستقبِل لهذا العالم؛ بحيث لا يبدو الشيء موجودا من طرف المستقبل إلا إذا أخبره الإعلام بذلك. وهكذا تكون المؤسسة الإعلامية هي المسيطرة، سواء على العالم الموضوعي أم على المستقبِل؛ إذ تختار من مفردات الواقع ما ترغب هي في إبرازه، وتقدمه إلى المستقبل الذي يعتقد أنه بصدد تكوين معرفة عن العالم الحقيقي كما يوجد فعلا في الخارج. وهذا هو المعنى نفسه الذي عبر عنه طه وهو يتحدث عن التلصص باعتباره إحدى صفات التفرج قائلا: ”فما زكاه النظر احتمل الوجود واستحق الاعتبار، وما لم يزكه احتمل العدم“ (عبد الرحمن 2017، 2: 50).
ولا يتعلق الأمر هنا بفكرة حديثة، بل هي قناعة تكونت عند الباحثين منذ البدايات الأولى للإعلام الحديث، وهذا ما عبر عنه الأمريكي (Walter Lippmann) منذ عام 1922، حينما أوضح أن وسائل الإعلام هي التي تُكوِّن عند جمهورها صورا زائفة عن العالم الموضوعي، وهي في العادة صور ذهنية جزئية ومختزلة؛ لأن العالم الحقيقي أكثر تعقيدا وتركيبا من أن يدركه الناس بشكل كامل ودقيق ومباشر (Lippmann 1922). فالاستنتاجات التي بناها طه على مسألة طغيان النظر أو الصور، تقبل إعادة الصياغة وفق مقولة ”أسبقية الإعلام على الواقع“؛ فكل أشكال وساطة الصور الإعلامية تصبح مفهومة حينما ندرك أسبقية الصورة الإعلامية على الواقع من جهة أن الإعلام هو الذي يركب لنا فهمنا للواقع، وهو ما اقترب طه من إدراكه حينما تحدث عن إبدال الوهم بالحقيقة (عبد الرحمن 2017، 2: 41–48). فلو كان مدخل التحليل هو أسبقية الصورة الإعلامية (أي الوسيط الإعلامي) على الواقع الموضوعي، سننتبه إلى مسألة أساسية لفهم مكانة الصورة في العقل الغربي بشكل أكثر واقعية، وهي العلاقة الوثيقة بين نظرية التمثل الديكارتي والاتصال الخطي الذي يهيمن فيه المرسل (سفيز 2011). يتعلق الأمر هنا بأهمية الوسيط؛ فكل النماذج الخطية للاتصال والنظريات المرتبطة بها، تعطي الأولوية للمرسل في صنع المعنى ونقله إلى المتلقي السلبي، هذا المتلقي لا يدرك العالم (أو جزءا منه) إلا من خلال جهد الاتصال الذي يقوم به المرسل. وفي المقابل، فإن العالم الموضوعي لا يوجد حسب الفيلسوف الفرنسي (Descartes) إلا كامتداد لأفكارنا الصادقة، تلك الأفكار التي تستند إلى برهان عقلي، خصوصا حينما يعتبر أن الله هو الذي يضمن للإنسان هذا الأمر، هنا تبرز مركزية العقل أو الذات المفكرة؛ إذ لا يوجد العالم إلا من خلال تعقله، ويكتسب العقل سلطات واسعة؛ إذ إن أفكاره الواضحة والحقيقية هي التي تمتد في العالم الموضوعي الواقعي. هنا تبدو وساطة العقل والتفكر في التمثل الديكارتي واسعة الصلاحيات أيضا (مثل وساطة الصورة الإعلامية)، لدرجة أن (Descartes) يعتبر أن وجود الأشياء في الذهن كتصورات فكرية منطقية، هو الذي يوجدها في العالم الموضوعي في أسبقية واضحة للفكر على الطبيعة (ديكارت 1988).
تسعفنا الأصول الديكارتية للاتصال الخطي في استنتاجات مهمة على مستوى القيم الأخلاقية للإعلام والاتصال لا مجال لاستعراضها الآن (المكي 2016، 253)، ولكن أردت الإشارة فقط إلى نموذج واحد عن الإمكانات المهدورة نتيجة عدم الانفتاح على الأعمال المتخصصة ضمن المراجع التي استند إليها طه.5
3.2 المنهج الائتماني: رؤية نقدية
سنحاول هنا أن نتأمل الجانبين المركزيين في كتاب طه وهما: تحليل الآفات الأخلاقية، وعلاجها الائتماني.
3.2.1 منهج تحليل الآفات الأخلاقية
يوضح طه في مواضع عدة أنه يتوسل في عرضه للتحديات الأخلاقية للإعلام والاتصال بالمقاربة الفلسفية، وهو ما أشار إليه أيضا في خاتمة كتابه (عبد الرحمن 2017، 2: 371)، ولكن هل يكفي النظر الفلسفي وحده للكشف عن التحديات الأخلاقية للإعلام والاتصال؟ وهل يكفي المنطق وحده لفهمها وتحليلها؟ من خلال تحليله لآفات التفرج والتجسس والتكشف تبدو الإجابة سلبية، حيث نلمس في مواضع كثيرة ما يشبه إسقاط التحليل المنطقي على الواقع الإعلامي، وكأن طه يستند إلى أسبقية الفكر على الواقع، وإن كان قد أبدع في نقد ذلك في أعمال سابقة، نعم يمكن للتحليل المنطقي أن يكون موفقا إذا ما سلك منهجا ملائما لموضوعه وبناء على معطيات كافية، ولكن في ظل غياب الأعمال المتخصصة، ستصبح أداة التحليل المنطقية جافة وقاصرة وهو ما سنوضحه في الآتي:
يرى طه أن نظر المتفرج الغربي قد توسط ثقافة الصور بخلفيتها الدينية والتاريخية (عبد الرحمن 2017، 2: 25–26) ”فأضحت المسموعات والملموسات والمذوقات، هي كذلك متأثرة بالصور التماثلية والأيقونة كما لو أن الناظر إلى الصور يستحضر، في ذات الوقت الأناشيد والبخور والخمور التي تلازم المعابد والهياكل التي نحتت أو نقشت أو علقت فيها هذه الصور،“ ولكن من الصعب تعميم التجربة الدينية، كما لا نستطيع تخيل أنماط واقعية لانتقال الحمولة الإيقونية والدينية إلى جميع أفراد المجتمع الغربي المعاصر، وتُعتبر كتابات ريجيس دوبري مرجعا مهما في هذا الصدد. إن الأمر يتعلق في الواقع بتركيبية الإدراك، حيث ندرك العالم بتوسط تجربتنا وثقافتنا الاجتماعية، وما الصور إلا جزء فقط من الأجزاء التي تركب جهازنا الإدراكي (البعزاتي 1999).
إن الأدلة التي يقدمها طه على الوساطة الكلية حين يتحدث عما يفعله المتفرج بالصور (عبد الرحمن 2017، 2: 25–26)، وعلى الوساطة الندية (عبد الرحمن 2017، 2: 29–30) وغيرها مبنية على فرضية أن المتفرج ذات فاعلة وأن الصورة موضوع مفعول به، والحقيقة عكس ذلك تماما؛ فالمؤسسة الإعلامية هي الذات الفاعلة، بينما الفرد (المتفرج أو المتجسس أو المتكشف) هو الموضوع المفعول به؛ إذ تعمل المؤسسات الإعلامية على تشكيل وعي الفرد ولا وعيه بحيث يصبح مستعدا لاستهلاك المواد الإعلانية والشراء بعدها، وأكتفي في هذا الصدد بعرض مقتطفات من حوار أجري مع ”باتريك لولاي“ (Patrick Le Lay) حينما كان رئيسا للقناة الفرنسية (TF1) يقول فيه: ”هناك طرق عديدة للحديث عن التلفزيون، ولكن من منظور تجاري، دعونا نواجه الأمر على حقيقته. إن مهمة (TF1) الأساسية هي مساعدة كوكا كولا مثلا على بيع منتجاتها. وليحظى إعلان تجاري بالانتباه، ينبغي أن يكون دماغ المشاهد متاحا، وقد تم تصميم برامجنا لجعله متاحا، من خلال تسليته وإرخائه؛ بغرض تحضيره بين رسالتين (إعلانيتين). ما نبيعه لكوكا كولا هو وقت الدماغ البشري المتاح. ليس هناك ما هو أكثر صعوبة من الحصول على هذه الإتاحة. وهنا يكمن التغيير الدائم. ينبغي البحث دائما عن برامج ناجحة، واتباع الموضة، والركوب على الأمواج في سياق تتسارع فيه المعلومات، وتتضاعف وتُتَجاوز باستمرار …“ (Les associés d’ EIM, et Seillière 2004, 140).
تفصح هذه الاقتباسات عن سلطة المؤسسات الإعلامية ومهمتها الفعلية، فما المؤسسة الإعلامية إلا مقاولة تجارية مقنعة، تبيع للشركات أدمغة جمهورها. فالمشاهد قد يعتقد أنه يشاهد مسلسله المفضل الذي تقطعه من حين إلى آخر فقرات إعلانية، ولكن الواقع أن القنوات التلفزيونية تبث في الأساس فقرات إعلانية وتختار من البرامج ما يهيئ المشاهد للانتباه إليها، ويجعله يستهلك المزيد من الصور.
إن حديث طه عن تأليه الصور قد يكون مبالغا فيه؛ بالرغم من أن استهلاك الصورة يشبه أحيانا التجربة الدينية، ولكن أفضل وصف لها هو عبارة ”مافيزولي“: ”إيمان بلا عقيدة“ في قوله: ”إن الوظيفة الأساسية التي يمكن أن نمنحها في أيامنا هذه للصورة، هي تلك التي تقود إلى المقدس. فمن المدهش فعلا أن يوجد خارج كل العقائد ومن دون تنظيمات إيمان من غير عقيدة، أو بالأحرى سلسلة من حالات الإيمان بلا عقيدة، تعبر بشكل أمثل عن فتنة العالم الذي يدهش بأشكال مختلفة كل الملاحظين“ (مافيزولي 2005، 149).
فالصور لا تشتغل مع المنطق، بل مع العاطفة في مستوى اللاوعي، وتعمل على تحفيز الانفعالات العاطفية لتشكيل أذواق وقيم انفعالية راسخة. ولعل عبارة ”إيمان بلا عقيدة“ تعد الأمثل لوصف حالة التأثر الشديد عند مشاهدي برامج المنافسات الغنائية وبعض البرامج المشابهة؛ إذ تلفت الانتباه حالة الانفعال إلى درجة البكاء والصدمة حين يقصى النجم المفضل من المنافسة. هي حالات من التفاعل النفسي العميق والمخلص الذي لا نجده إلا في الممارسات الدينية (المكي 2010، 126).
كما أن الأدلة التي يسوقها طه في معرض تملك الصور وخصوصا في فقرة صلة اللمس بالتملك (عبد الرحمن 2017، 2: 35–37) غير دقيقة، فهي تتعامل مع الصور الإعلامية وكأنها صور منفصلة تعرض المصورات مجتزأة منفصلة فيكون نظر الإنسان لها داعيا إلى التملك، في حين تقدَّم الصور الإعلامية في سياق ”قصة“ و”نموذج،“ الغاية منهما تعديل قيم الفرد وخلق حالة من التعلق العاطفي بالنموذج الإعلامي تقود إلى حب تقليده وتقمص شخصيته أو نمط حياته في الواقع المعيش. فالمتفرج لا يطمح إلى امتلاك الصور، بل يسعى إلى إعادة إنتاج النموذج القدوة في حياته الشخصية؛ فنقبل مثلا على تناول الطعام في مطاعم ”ماكدونالدز“ لا لأننا نشعر بالجوع، ولا لأن الطعام متميز عندهم، ولكن لنستمتع بعيش ثقافة الـ”ماكدونالدز“؛ بالاستناد إلى خزان هائل من الصور الإعلامية يتضمن أرشيف كل مشاهد الأبطال والحسناوات في الدراما الأمريكية وهم يتناولون وجبة ”الهمبورغر“ الشهيرة، حيث إن تناول الطعام هناك، دليل على أنك تعيش حياة عصرية وعلى أنك إنسان متحضر؛ فباب المطعم هو في الواقع بوابة لعيش حالة ثقافية، وهذا مثال فقط من نماذج عديدة تزخر بها حياتنا اليومية.
في معرض حديثه عن الوساطة الكلية للصور، يتحدث طه عبد الرحمن عن كون الصور هي الواسطة نحو الإدراكات الحسية الأخرى ”كأن تكون الصورة هي الواسطة إلى الصوت، بحيث يكون الصوت مدركا بحسب الصورة“ (عبد الرحمن 2017، 2: 26)، وفي واقع الأمر من الصعب التسليم بمثل هذا، والبناء عليه في الاستدلال، إذ للصور الإعلامية خصائص تقنية معقدة يجدر بالمهتم الاطلاع عليها، وهي تتنوع بتنوع الصور: ففي البرامج الوثائقية مثلا يكون التعليق الصوتي شارحا أحيانا للصورة، وفي الغالب هو شبه مستقل يضيف إليها معطيات جديدة، فتكون الهيمنة للصوت في بناء المعنى أحيانا، ويستقل أحدهما عن الآخر أحيانا أخرى. أما في الصورة السينمائية، فيتوسل المخرجون بتقنيات عديدة لعلاج قصور الصورة في تبليغ المعنى فيلجؤون إلى الموسيقى التصويرية مثلاً؛ فالصورة قد تكون بسيطة محايدة ولكن الموسيقى التصويرية وحدها تجعلك تحس بترقب خطر أو مفاجأة سعيدة، كما أن للإضاءة دورا أساسيا أيضا، فمن بدهيات مبادئ الإضاءة أن تسليط ضوء قريب أسفل وجه المتحدث يكسبه حمرة شيطانية (استعارة غربية: أسفل = شر) توحي للمتفرج بأنه شخص شرير، بينما تسليط الإضاءة من الأعلى على وجه المتحدث (استعارة غربية: أعلى= خير) يكسبه نورا ملائكيا يوحي للمتفرج بأنه شخص طيب.
من جهة أخرى، تشعر في أحيان كثيرة أن الدمج بين المنطق الجدلي والتحليل النفسي يثمران قدرا كبيرا من المغالاة، فالمطلع على الاستدلالات التي يقيمها طه ليؤكد اتصاف ”عين المتفرج بالبطش“ (عبد الرحمن 2017، 2: 65–70) يحس وكأننا نسقط الاستدلالات على الأفراد تعسفا، فالبناء كله منطقي نظري ولو كان يتوسل أحيانا بتحليلات نفسية تبقى هي أيضا نظرية؛ إذ يغيب أي دليل واقعي على تلك الاستدلالات التي ربما تفترض أن الإنسان شبيه بالآلة ويعمل وفق نظام منطقي لا يخرج عنه. يستدل طه—مثلا—رونيه جيرار الذي يوضح علاقة الجنس بالعنف منطلقا من اتفاق الحضارات وجميع الأديان حول ”نجاسة دم الحيض“ ليثبت أن دم الحيض إذا كان نجسا فلعلاقته بالجنس، وأن الجنس إذا كان نجسا فلعلاقته بالعنف. وهذا في نظري إسقاط مبالغ فيه، فما القول في حضارات لم تقدر الجنس فقط بل عبدت أعضاء تناسلية لارتباطها في نظرهم بالخصب والخير؟ وهي عبادة ممتدة تاريخيا وجغرافيا، وشملت الحضارات البوذية والإغريقية والفرعونية والإفريقية وغيرها. ألا يمكن أن يكون دم الحيض نجسا لطبيعته الكيميائية، وتحديدا لكونه أقرب إلى فضلات بيولوجية ناتجة—كما هو معروف—عن تحلل أنسجة الرحم؛ لذا فإن رائحته قد تكون كريهة!
إننا نلمس في كثير من الأحيان سطوة التحليل المنطقي بشكل يوحي بأن ذلك التحليل يهيمن على الواقع ويُــبَـنـيِنُه بدل أن يكون مجرد وسيلة إلى فهمه؛ وإلا ما سر اتخاذ الحجج المنطقية عند طه بنية ثنائية في أغلب الأحيان؟
3.2.2 العلاج الائتماني: الواقعية وإمكانات التطبيق
تعكس المنهجية الائتمانية في علاج آفات الإعلام والاتصال اهتمام طه بالتربية الأخلاقية، ولكن رغم أن العلاج الائتماني يفترض أن الفرد ذات فاعلة وأن الصور الإعلامية خاضعة لفعله، ويهمل خضوع الفرد للتوجيه والحصار الإعلامي الذي يحيط بالأفراد، فإنه يركز في المقابل على شخص الفقيه الائتماني الذي يسميه أيضا المربي؛ إذ ينطلق المربي من إقامة علاقة وجدانية مع الفرد طالب العلاج، وقد يتورط الشخص في العلاج مصادفة، كما هو الحال مع المتجسس الذي حضر مجلس المربي بنية التجسس عليه فانجذب إلى حديثه وأصبح مقبلاً على مجالسته! تقوم هذه العلاقة الوجدانية على النظر المباشر والمجالسة الفعلية، وهي علاقة راقية يَسِمها الحياء والمودة، فيجلس الفرد إلى المربي ويسمع منه، والمربي فقيه لطيف الإشارة يستخدم لطف الحديث ويتجنب اللوم والتقريع، وينتقد بصيغة العتاب الموجه للعموم ويتجنب اللوم المباشر، ثم يبدأ المربي بإثارة انتباه الفرد إلى مفارقات منهجه وفساد منطقه وغاياته، حتى إذا أيقن المربي أن الشك بدأ يخامر نفس الفرد، وأن عقله النقدي بدأ يشتغل، وأيقن أن نفسه متهيئة للانتقال إلى مرحلة أخرى، ألقى المربي إلى الفرد بعمل أسمائي يستلهم القيم الأخلاقية المتضمنة في الأحكام الفقهية، وتابعه بالرعاية والمراقبة، حتى إذا نفذ العمل كما ينبغي، انتقل به المربي إلى مرحلة أعلى من النقاش والتنبيه والتشكيك، فإذا لمس منه الاستعداد، كلفه بعمل أسمائي أرقى … وهكذا يستمر العلاج حتى يخرج المربي بالفرد من حال الاختيان إلى حال الائتمان ويصير خلق الحياء متجذرا فيه.
من البَيِّـــن أن نجاح العلاج الائتماني كله رهين بالفقيه المربي، وهو فقيه ائتماني واسع القدرات؛ فهو متمكن من أدوات الفقه الائتماري وضابط لأحكامه، ومتمكن من الفقه الائتماني الذي يتطلب مهارات عليا تسمح باستنباط القيم الأخلاقية الكامنة في الأحكام الفقهية، وفوق كل تلك المهارات العلمية هو متمكن أيضا من أسرار التأثير النفسي والتوجيه التربوي حتى إنه يجذب أي حاضر في مجلسه ويؤثر عليه، ويستطيع اختيار العمل الأسمائي المناسب لوضع كل شخص ولقدراته، وهو وحده يعرف طبيعة هذا ”العمل الأسمائي“ الذي لم يقدم طه أي نموذج عنه، ويستطيع أيضا التأثير في الأفراد بكلامه ونظراته و”حضوره.“ وقد وصف طه الفقيه المربي أكثر من مرة، ونسب إليه هذه المهارات جميعها، وحسبنا قوله متحدثا عن صعوبة علاج المتجسس: ”ولا يمكن أن يزوده بأسباب هذه التجربة الروحية إلا الفقيه الائتماني؛ إذ يقفه على العلل النفسية التي دخلت على باطنه، ويدله على الوسائل العملية التي تدرؤها عنه“ (عبد الرحمن 2017، 2: 222).
فالعلاج كله يُبنى على الفقيه الائتماني، وهو وحده شرط نجاح العلاج، ومع فرض صحة ذلك كله، دعنا نسائل واقعية العلاج الائتماني: من هو الفقيه الائتماني؟ أهو موجود حقا في المجتمع أم ينبغي فتح مسالك جامعية جديدة لتكوين الفقهاء الائتمانيين وفق المهارات المطلوبة؟ وكم فقيها ائتمانيا نحتاج لأفراد المجتمع؟ ومن يضمن للأفراد أن الشخص المقصود هو فقيه ائتماني ”حقيقي“ ومتمكن وليس متطفلا على العلاج الائتماني؟ وما حال الأفراد الذين لم يسمعوا بالفقيه الائتماني ولم يعرفوا بوجوده؟ ما السبيل إلى علاجهم؟ وكيف نضمن التزام الأفراد بالعلاج ونحن نراهن فقط على ”كاريزمية“ شخصية الفقيه؟ وأين سيتم هذا العلاج؟ هل له مقر خاص نأتي إليه طمعا في مجالسة الفقيه المربي؟ أم نفتح المساجد بعد الصلوات الخمس؟ ألن ترغب الدولة في تقنين مثل هذا العلاج إذا لاحظت انتشاره فتبادر إلى تنظيمه في قنوات رسمية؟ وبالإضافة إلى كل ما سبق، لِم نكتفي بعلاج النتائج وننأى عن علاج الأسباب باقتراح سبل تخليق الإعلام نفسه؟ يبدو لي—وقد أكون مخطئا—أن العلاج الائتماني قد بُني كله على تجربة شخصية لطه نكتشف بعض أسرارها في الجزء الثالث من ثلاثية دين الحياء (روح الحجاب) الذي أنهاه المؤلف بخاتمة عنوانها: ”من شعب الحياء الإقرار لذوي الفضل بأفضالهم“، يحكي فيها بعض تفاصيل علاقته بالشيخ حمزة بن العباس القادري6 الذي كان—رحمه الله—شيخ طريقة صوفية، ويعترف طه بأفضال الشيخ عليه؛ إذ أعانه في ”اجتهاده في معرفة ربه“ وفي ”مجاهدته لنفسه“ وفي ”جهاده في تصحيح عمله“ فيقول: ”إن صلتي بأستاذي الكبير والمربي القدير سيدي حمزة بن العباس القادري لا تقارن بغيرها؛ فالتقائي به ليس كالالتقاءات، إذ كان القصد منه هو أن أعرف ربي؛ فله الفضل علي في اجتهادي في معرفة ربي. وأيضًا اصطحابي له ليس كالاصطحابات؛ إذ كان الهدف منه هو أن تتزكى نفسي، فله الفضل علي في مجاهدتي لنفسي. وكذلك اقتدائي به ليس كالاقتداءات؛ إذ كان الغرض منه هو أن أصحح عملي، فله الفضل علي في جهادي في تصحيح عملي، فمتى صححت عملي، تزكت نفسي، ومتى تزكت نفسي عرفت ربي فأثمرت، بفضل الله، هذه الصلة التربوية ذات الوجوه الثلاثة: تصحيح العمل وتزكية النفس ومعرفة الله، تحولاً جذريا في مشاعري ومداركي حتى أنكرت نفسي؛ إذ تجددت علاقتي بربي، وعلاقتي بنفسي، وعلاقتي بالآخر، وعلاقتي بالعالم، وكم كان هذا التجدد بالغ الأثر في إرضائي وإسعادي! وما قصدي هاهنا إلا أن أشكر لهذه القدوة العظيمة جليل أفضالها علي، متحدثا عن آثار بعض هذه الأفضال التي غيرت مجرى حياتي!“ (عبد الرحمن 2017، 3: 157).
ويكفي أن نقرأ هذا الجزء من الشهادة ليظهر بشكل واضح أثر تجربته الشخصية في ما كتبه حول العلاج الائتماني، ولعله لم ينتبه إلى أن نجاح تجربته لا يرتبط فقط بتميز المربي، بل أيضا هو نتيجة لتميز ”المتعلم أو المريد“، فليس كل شخص سيتلقى لطائف الإشارات بنفس الفطنة التي تلقاها بها طه وليست كل نفس حساسة راقية مثل نفسه. وإذا كنا نحترم موقفه ونشهد له بتفرد تجربته الروحية، فإن هذا لا يلغي كل تلك الأسئلة السابقة عن إمكانات التطبيق الواقعي لمنهجه الائتماني في العلاج.
مع ملاحظة أخرى قد تبدو ثانوية، وهي أن تشخيص الآفات الأخلاقية موجه في الغالب إلى الإنسان الغربي المعاصر باستحضاره لخصائص علاقة الفكر الغربي بالصور الإعلامية، غير أن العلاج بنوعيه الائتماري والائتماني هو موجه أساسا للفرد المسلم!
خاتمة
رغم هذه الرؤية النقدية التي قدمتها، أعتبر النظرية الائتمانية في مجال الإعلام والاتصال من أهم الأعمال المهتمة بأخلاقيات الإعلام والاتصال، وإذا كنا نعذر طه في عدم استزادته من المراجع المتخصصة في الموضوع، فحسبه ما أبدعه في التقاط أهم التحديات الأخلاقية وما انفتح عليه من مراجع في تخصصات مختلفة قلما يستطيع باحث واحد فهمها واستيعابها وتوظيفها بشكل جيد. كما أن المنهج الائتماني ينتصر للأخلاق والقيم، سواء على مستوى المعيش الاجتماعي أم على مستوى المعرفة العلمية. غير أن هذه المحاولة تبقى غير متخصصة، واقتصرت في رصدها على الإشكالات الأخلاقية المرتبطة بطقوس التلقي أو التفرج كما يسميها طه، وقد بينت أسباب ذلك، وأهملَت في المقابل الإشكالات الأخلاقية التي ترتبط بأسس الصناعة الإعلامية نفسها، وكأن المشاهد يتحمل وحده كل الوزر. وأفترض أن الموجه الكامن للتطبيق الإعلامي لنسق الائتمانية عند طه هو تجربته الصوفية الشخصية التي ربما ألقت بظلالها على نظريته، سواء من حيث التركيز على دور الفرد الواحد ومسؤوليته الأخلاقية أم على مركزية الشيخ المربي في العلاج الائتماني.
لذا أعتبر أن التطوير الحقيقي للنسق الائتماني لن يتحقق إلا من الباحثين المتخصصين في أخلاقيات الإعلام والاتصال، من خلال عدة أمور: أولها: تطعيم تحليلاتهم المتخصصة برؤية فكرية عميقة، فيشاركون في تعميق تحليل التحديات الأخلاقية وفهمها بالاستفادة من تميز المنهج الائتماني في رصد الإشكالات الأخلاقية وتحليلها. ثانيها: التفكير في طرائق التنزيل العملي للمنهج الائتماني في المستويات المتعددة للنظر الأخلاقي في الإعلام والاتصال، مع الاشتغال أكثر في مجال اقتراح طرق عملية وواقعية لتطوير العلاج الائتماني. ثالثها: البناء على ما تقدم لطرح ملامح نظرية ائتمانية واقعية ومتكاملة في الإعلام والاتصال.
وهو العمل الشرعي في أبعاده الخُلُقية الذي يستلهم القيم الأخلاقية الكامنة في الأحكام الفقهية، ويقابله العمل ”الأشيائي“ وهو العمل الشرعي وفق ظاهر الشرع وحده ولا اعتبار فيه للباطن.
هو سجن صممه الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام (1748–1832) في عام 1785. وهو على شكل بناية أسطوانية من طوابق تحتوي مجموعة غرف للسجناء، في كل واحدة نافذة خارجية لدخول نور الشمس وأخرى داخلية تطل على الفناء الداخلي الذي يضم برجا متعدد النوافذ يسمح للحارس بمراقبة جميع الغرف، دون أن يعلم قاطن الغرفة هل ينظر إليه الحارس في تلك اللحظة أم لا. وهو المثال الذي يستخدمه المفكرون المعاصرون للحديث عن المراقبة الجماعية داخل المجتمعات المعاصرة.
لمزيد من التفصيل، انظر: المكي 2016.
سادسها المستوى الديونطولوجي الذي تجنبنا الإشارة إليه؛ لارتباطه بالجوانب المهنية والقانونية، وإن كان أيضا مجالا للبحث العلمي.
يمكن أيضا مناقشة آفة التجسس عند طه عبد الرحمن وعلاقتها بمفاهيم نهاية الخصوصية والمجتمعات الشفافة، بالإضافة إلى جزئيات أخرى تصب في نفس الموضوع مثل استثمار مفهوم الاصطناع عند جان بودريار الذي يفسر علاقة الإعلام بالواقع.
الشيخ حمزة بن العباس القادري (1922–2017) كان شيخ الطريقة القادرية البودشيشية، إحدى الطرق الصوفية الشهيرة بالمغرب.
المصادر والمراجع
الأمير، وعد ابراهيم خليل. 2013. دور التلفزيون في قيم الاسرة. عمان: دار غيداء للنشر.
البعزاتي، بناصر. 1999. الاستدلال والبناء: بحث في خصائص العقلية العلمية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، والرباط: دار الأمان.
بوعلي، نصير. 2014. ”مفاهيم نظرية الحتمية القيمية في الإعلام عند عبد الرحمن عزّي: مقاربة نقدية“، المستقبل العربي، 422: 87–101.
الحلاحله، علي عبد المعطي محمود. 2012. القيم الاجتماعية في البرامج الحوارية في التلفزيون الأردني من وجهة نظر طلبة الجامعات الأردنية. رسالة ماجستير، كلية الإعلام، جامعة الشرق الأوسط، الأردن.
درويش، عبد الرحيم. 2012. مقدمة إلى علم الاتصال. القاهرة: عالم الكتب.
ديكارت، رونيه. 1988. تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى. ترجمة: كمال الحاج. بيروت/ باريس: منشورات عويدات.
سفيز، لوسيان. 2011. التواصل عبر وسائل الإعلام والإعلان. ترجمة وتقديم: مرح علي إبراهيم. بيروت: دار البحار للطباعة والنشر.
عبد الرحمن، طه. 2017. دين الحياء:من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني، 1-أصول النظر الائتماني. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع.
عبد الرحمن، طه.2017. دين الحياء:من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني، 2-التحديات الأخلاقية لثورة الإعلام والاتصال. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع.
عبد الرحمن، طه. 2017. دين الحياء:من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني، 3-روح الحجاب. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع.
عزي، عبد الرحمن. 2012. نظرية الحتمية القيمية في الإعلام. تونس: الدار المتوسطية للنشر.
عزي، عبد الرحمن. 2013. منهجية الحتمية القيمية في الإعلام ومقياس(ع.س.ن)للإعلام والقيم. تونس: الدار المتوسطية للنشر.
عزي، عبد الرحمن.2009. دراسات في نظرية الاتصال، نحو فكر إعلامي متميز. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
فان لوون، جوست. تكنولوجيا الإعلام:رؤى نقدية. 2009. ترجمة شويكار زكي، مصر: مجموعة النيل العربية.
قلندر، محمود محمد ومحمد بابكر عوض. 2009. اتجاهات البحث في علم الاتصال:نظرة تأصيلية. دمشق: دار الفكر.
مافيزولي، ميشيل. 2005. تأمل العالم:الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية. ترجمة: فريد الزاهي. الرباط: منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي.
المكي، هشام. 2010. ”بين الصورة واللغة: هل أصبحت الحياة طقسا ثابتا للمحاكاة؟“. إسلامية المعرفة، 59: 119–140.
المكي، هشام. 2016. الاتصال الجماهيري وسؤال القيم:دراسة في النظريات المؤسسة. بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات.
المكي، هشام ومصطفى المريط وحسن بوحبة ومحمد الهشمي. 2013. صورة التضامن الاجتماعي في الإعلام الوطني:دراسة تحليلية وميدانية. وجدة: مركز الدراسات والبحوث الاجتماعية والميدانية.
مييج، بيرنار. 2011. الفكر الاتصالي:من التأسيس إلى منعطف الألفية الثالثة. ترجمة: أحمد القصوار. المغرب: دار توبقال للنشر.
Carey, James. 2008. Communication as Culture: Essays on Media and Society. London: Routledge.
Gamble, Teri Kwal and Michael Gamble. 2002. Communication Work. New York: Mc Graw-Hill Companies.
Iniss, Harold. 1982. The Bias of Communication. Toronto: University of Toronto Press.
Les associés d’ EIM, et Ernest-Antoine Seillière. 2004. Les dirigeants face au changement: baromètre 2004. Paris: Les Editions du Huitième Jour.
Lippmann, Walter. 1922. Public Opinion. New York: Harcourt, Brace.
Parsons, Talcott. 1973.The Evolution of Societies. Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice Hall.
Rogers, Everett. 1963. Diffusion of innovations. New York: Free Press.