‮‭13‬‬‎ ‮الحوار بين الائتمانية والأخلاق العالمية‬‎

‮مقاربة تحليلية مقارنة‬‎

In: Islamic Ethics and the Trusteeship Paradigm: Taha Abderrahmane’s Philosophy in Comparative Perspectives
Author:
‮آسيا‬‎ ‮شكيرب‬‎
Search for other papers by ‮آسيا‬‎ ‮شكيرب‬‎ in
Current site
Google Scholar
PubMed
Close
Open Access

Abstract

‮شهد القرن العشرون محاولات دائبة لتفعيل آلية الحوار لإيجاد صيغ جامعة تقلص الهوّة بين الديانات والإيديولوجيات المختلفة، وتضع أرضية مشتركة لقيم أخلاقية إنسانية جامعة تسهم في نبذ العنف وإرساء التعايش السلمي بين الأديان. وقد ظهرت بوادر التفكير في ”أخلاق عالمية“ جامعة في المؤتمر الثاني لـ”برلمان أديان العالم“ الذي أصدر ”إعلان من أجل أخلاق عالمية،“ وصاغ مسودته العالم اللاهوتي هانس كينغ، الذي أكد من خلاله ضرورة الحوار لترسيخ العيش المشترك والسلام بين الأديان. في المقابل نقد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن أطروحة ”الأخلاق العالمية“ والخلفية الفلسفية التي تأسس عليها الحوار الديني وقدّم مشروعًا فلسفيًّا سماه ”الائتمانية“ وضع من خلاله البديل الأخلاقي الإسلامي للحوار الذي بامكانه قيادة وتوجيه الإنسانية حلل فيه أسباب العنف واقترح حلولاً. فما تفاصيل هذين المشروعين؟ وكيف يؤسسان للحوار سبيلاً للتعايش ونبذ العنف؟ يحاول هذا الفصل الإجابة على هذين السؤالين، من خلال شرح أطروحة كل من كينغ وطه، وإعادة بناء أفكارهما بما يخدم اهتمام هذا الفصل، وقد اعتمدت على مصادر الكاتبين مباشرة بشكل رئيس، ولاسيما مع ندرة الدراسات النقدية التي تتناول المشروعين بعيدًا عن الاحتفاء والتمجيد.‬‎

Abstract

This chapter deals with the fields of religious dialogue, pluralism, and global ethics. It brings Hans Küng (b. 1928) and Taha Abderrahmane to the same table for discussion. After presenting their similar major views on dialogue and shared humanity among religious, philosophical and moral worldviews, and their critique of the limitations of modern human reason and the Enlightenment project, she goes on to trace out the differences between the two philosophers. She spends some time recalling the internationally acclaimed work of Küng on “global ethics” thesis and manifesto, and the major ideas he defends in so doing, i.e. the defence of possible shared ethics, based on the “golden rule” found in world religions, for the formation of world peace, solidarity, tolerance and social justice. Küng does not see that religion or religions alone, let alone one religion, can solve major human problems. On the other hand, in introducing the trusteeship paradigm of Abderrahmane, she introduces critique of Küng’s thesis. Abderrahmane is critical of Küng’s thesis of “global ethics” for one major reason: the latter divests these ethics of their religious origins, and, subsequently, from their rootedness in practice. Global ethics remain abstract unless tested in practice, and they cannot be tested in practice since they require genuine ethos that is truly practiced, hence the need for religion, especially divinely-revealed religion for genuine global ethics, according to Abderrahmane. Put differently, the trusteeship paradigm proposes practical spiritual concepts for ethical renewal, or else the global ethics thesis remains a rhetoric, a discourse void of substance, like abstract ethics and abstract reason. Could the trusteeship concepts be effective in such a challenging, globalized and gradually secularized world?

‮مقدمة‬‎

‮شهد القرن العشرون محاولات دائبة لتفعيل منهج الحوار لإيجاد صيغ جامعة تقلص الهوّة بين الديانات والإيديولوجيات المختلفة، وتضع أرضية مشتركة لقيم أخلاقية إنسانية جامعة تسهم في نبذ العنف وإرساء التعايش السلمي بين الأديان. وقد ظهرت بوادر التفكير في ”أخلاق عالمية“ جامعة في المؤتمر الثاني لـ”برلمان أديان العالم“ الذي أصدر ”إعلان من أجل أخلاق عالمية“ وصاغ مسودته العالم اللاهوتي هانس كينغ الذي أكد من خلاله على ضرورة الحوار لترسيخ العيش المشترك والسلام بين الأديان. في المقابل نقد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن أطروحة ”الأخلاق العالمية“ والخلفية الفلسفية التي تأسس عليها الحوار الديني وقدم مشروعه الفلسفي الذي سماه ”الائتمانية“ الذي وضع من خلاله البديل الأخلاقي الإسلامي الذي بإمكانه قيادة وتوجيه الإنسانية وحلل فيه أسباب العنف واقترح الحلول اللازمة.‬‎

‮يحاول هذا الفصل شرح رؤية كل من كينغ وطه لمسألة الحوار الديني، وكيف يؤسسان للحوار سبيلاً للتعايش ونبذ العنف؟ وقد سلكت الباحثة منهجًا تحليليًّا في تركيب أفكار كلّ من الرجلين، وإعادة بنائها بما يخدم اهتمام هذا الفصل.‬‎

‮سبق أن أُخضعت النظرية الأخلاقية عند طه للدرس (العايب ‭2017‬)؛ كما سبقت دراسة أطروحة كينغ حول الأخلاق العالمية (شكيرب ‭2013‬) ولكن المقارنة بين مشروعي الرجلين فيما يخص الحوار والحوار الديني تحديدًا لم يُدرس؛ رغم أهمية أطروحتي الائتمانية والأخلاق العالمية؛ لأن كلاً منهما مهجوس بسؤال العالمية وانتشال العالم من المشكلات الناتجة عن العنف وإحلال قيم السلم والتسامح. فهذا الفصل محاولة لتقديم رؤية تحليلية مقارنة بين مشروعين أحدهما إسلامي والثاني غربي مسيحي. وقد تم الاعتماد على الكتابات المباشرة للرجلين بالدرجة الأولى.‬‎

‮1‬‎ ‮الحوار: المفهوم والأبعاد‬‎

‮في الحقل التداولي الغربي، الحوار (‭le dialogue‬) لفظ مشتق من اليونانية (‭dialogos‬)، وتعني المحادثة، وهذه المحادثة قد تكون بين شخصين أو بين مجموعتين، وربما تكون مجرد كلمات يتم تبادلها بين ممثلين في فيلم أو مسرحية أو قصة (‭Robert 2008, 64‬)، ولكن الأمر فيما يخص حوار الأديان يتجاوز هذا المفهوم الأولي والعام ليشمل كل لقاء يُترجم إلى كلام حول القضايا الوجودية، ويسوده الاحترام والانصات المتبادل ‭(Coumeau 2008, 10)‬، أي أن حوار الأديان هو محادثةٌ بين مؤمنين مختلفي الديانة، وقد يعبر عن هذا الحوار الديني بأنه ”الإيمان الحي“ ((‭living faith‬) ‭Wandusim 2015, 166‬). فالحوار بين الأديان منهجٌ للتواصل يعتبر الصراع بين الأديان مشكلة، ومن ثم فهو يقترح لها حلولاً تتمثل في تعلُّم الناس الحديث بعضهم إلى بعضٍ بطريقةٍ مثمرة ‭(Togarasei 2015, 153)‬، وقد صاغ ”المعهد الأوروبي للبحوث الثقافيَّة المقارَنة“ تعريفًا عمليًّا للحوار بين الثقافات على أنَّه عمليَّة تبادل وتفاعل بين أفراد، وجماعات ومنظَّماتٍ من خلفيَّاتٍ ثقافيَّةٍ مختلفة بهدف فهم أعمق لمختلف وجهات النظر والممارسات، وتعزيز المشاركة وقابليَّة اتِّخاذ الخيارات والحرِّيَّة فيه، وتعزيز المساواة، ودعم العمليَّات الإبداعيَّة ‭(Ganesh and Holmes 2011, 81)‬.‬‎

‮وفيما يخص الحوار في الحقل التداولي الإسلامي، فإن الحوار في اللغة العربية هو المجاوبة ومراجعة الكلام، ويقال: تحاوروا بمعنى تراجعوا الكلام بينهم (الفيروز أبادي ‭1998‬، ‭380‬–‭381‬)، والحوار هو الحديث الذي يجري بين شخصين أو أكثر في العمل القصصي، أو بين ممثلين أو أكثر على المسرح ونحوه (إبراهيم مصطفى وآخرون ‭1960‬، ‭93‬–‭94‬). أما حوار الأديان، فهو من الناحية النظرية حوار بين المنتسبين لأديان مختلفة كالإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها من الأديان، وهو من الناحية الواقعية مصطلح يقصد به الحوار بين المسيحية والإسلام (آيت أمجوص ‭2012‬، ‭11‬–‭12‬)، ويتطلب الحوار في النصوص الإسلامية وجود تباينات واختلافات فكرية واجتهادية، وهو انعكاس طبيعي للتنوع الإنساني الذي يعتبر في حد ذاته مظهرًا من مظاهر عظمة الخالق (السمّاك ‭1978‬، ‭78‬–‭79‬)، وعلى هذا يُقصد بالحوار بين الأديان—حسب المفهوم الإسلامي—تلك اللقاءات الحوارية التي تتم على مستوى الأفراد والجماعات—حكومات كانت أم مؤسسات أو جمعيات—وتكون بين طرفين يدين أحدهما بالإسلام وثانيهما بالمسيحية (عجك ‭1998‬، ‭29‬).‬‎

‮ويمكن القول: إن الحوار في الدلالة اللغوية العربية يتخذ معنى المراجعة الذي يعني ترك مساحة للعودة عن الكلام المبثوث، وبهذا يكون للحوار ثماره وفائدته؛ فهو يحرّك في الإنسان الخواص الاستدلالية التي تعيد له القدرة على التفكير في كلامه، بينما هو في الدلالة الغربية محادثة بين طرفين أو أكثر، ويشترط فيه وجود تباينات واختلافات في الحقلين، وغايته بين الأديان تقليص هوّة الشقاق والخلاف، بينما هو في التعاريف الإسلامية المتداولة يأخذ بعدًا تعريفيًّا أو تبشيريًّا بالدين.‬‎

‮2‬‎ ‮مشروع الأخلاق العالمية‬‎

‮قدّم اللاهوتي السويسري هانس كينج1 مشروعه: ”الأخلاق العالمية“ كأحد المشاريع المعدّة من أجل مستقبل أفضل للإنسانية، فركّز على الاستثمار في الأخلاق باعتبارها مشروعا متكاملا، قادرا على تجاوز الكثير من الأزمات المعاصرة؛ وهذا من خلال صياغة شرائع أخلاقية لعصر ما بعد الحداثة، يتوفر فيها الحد الأدنى من القوانين السلوكية التي يمكن أن تتقبلها جميع الأديان. نحاول في هذا القسم أن نتناول ماهية الأخلاق العالمية من خلال تحليل السياقين المفهومي والتاريخي؛ كما سنعرج على المسوغات الواقعية والفكرية للدعوة إلى الأخلاق العالمية؛ والمقاييس أو الحد الأدنى من المعايير الأساسية للأخلاق العالمية. وسنتناول أطروحة هانس كينج بمنهج تحليلي نعيد فيه ترتيب أفكاره في وحدة موضوعية متجانسة، يتخللها النقد والتقييم.‬‎

‮‮2.1‬‎‬‎ ‮الأخلاق العالمية: المفهوم والسياق كينغ‬‎

‮من المفارقة أن كينغ لم يعرف ”الأخلاق العالمية،“ ولكن طه الذي قدّم تحليلاً للأطروحة صاغ لها تعريفًا قسمه إلى مستويين: مفهومي وتاريخي. فعلى المستوى الأول وهو المفهوم، يفرّق طه بين ”الأخلاق العالمية“ (‭éthique mondiale, global ethics‬) و”الأخلاق الكلية“ (‭éthique universelle, universal ethics‬)، فالأخلاق الكلية يقصد بها الأخلاق التي تولّى المفكرون والفلاسفة وضع أصولها وترتيب قواعدها على أساس أنها أخلاق عقلية وموضوعية؛ بحيث يتعين على كل فرد إنساني الأخذ بها متى أراد الاستقامة في سلوكه أو طلب السعادة في حياته، كأخلاق الواجب التي أنشأها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (‭Immanuel Kant‬)، وأخلاق المنفعة التي وضع أركانها الفيلسوف والقانوني الانجليزي جيريمي بنتهام (‭Jeremy Bentham‬) ووسعها خلفه الفيلسوف الإنجليزي جون استوارت مل (‭John Stuart Mill‬) (عبد الرحمن ‭2008‬، ‭9‬؛ عبد الرحمن ‭2012‬، ‭11‬–‭12‬)، وتتصف الأخلاق الكلية بصفات ثلاث أساسية وهي أنها أخلاق نظرية في طبيعتها، وأحادية في مصدرها، وعَلمانية في توجُّهها (عبد الرحمن ‭2008‬، ‭9‬). ويرى هانس كينغ أن مدلول (‭Weltethik‬، الأخلاق الكلية) هو ”نظام أخلاقي مثل النظام الأخلاقي لأرسطو أو لتوماس الأكويني أو إيمانويل كانط، وليس من الضروري الاتفاق على نظام أخلاقي معين لتحقيق التعايش بين الناس“ (كينغ ‭2015‬، ‭34‬).‬‎

‮أما الأخلاق العالمية فهي—كما يوضح طه—تتصف بأضداد الأخلاق الكلية؛ فهي أخلاق ذات طبيعة عملية تستقرأ من التجربة الأخلاقية الحية للإنسان، وهي أخلاق ذات مصادر متعددة تشترك أطراف عديدة في تحديد قواعدها وأحكامها، ومن أهم صفاتها كونها ذات توجه ديني، فهي تستقي قيمتها ومبادئها من الأديان المختلفة (عبد الرحمن ‭2008‬، ‭9‬)؛ ويطلق كينغ مصطلح (‭Weltethos‬، الأخلاق العالمية) على معنى ”الموقف الأساسي الشخصي (الداخلي) الأخلاقي والأدبي للإنسان الذي يسير وفقًا لمعايير ومقاييس معينة، كبوصلة الضمير، بمعنى موقف أساسي يُحدد في الواقع سلوكه برمته“ (كينغ ‭2015‬، ‭34‬).‬‎

‮وعلى المستوى الثاني وهو السياق التاريخي المتعلق بالظروف التي تبلور فيها مفهوم ”الأخلاق العالمية؛“ فقد ظهر المصطلح سنة ‭1990‬ حيث ”ظهرت بوادر التفكير في أخلاق تجمع أمم العالم في إطار النشاط الحواري الذي مارسته مختلف التيارات الدينية منذ قرن ونيّف، منذ أن تم عقد المؤتمر العالمي الأول للأديان في شيكاغو سنة ‭1893‬م، والذي عرف فيما بعد ببرلمان أديان العالم، وذلك من أجل الاحتفال بالتقدم العلمي والتكنولوجي الذي حققته الحداثة والتي اعتبرت الأخوة الدينية أهم ثمرة من ثماره“ (عبد الرحمن ‭2008‬، ‭10‬). وقد تفرّد المؤتمر الثاني الذي انعقد سنة ‭1993‬ بإصدار بيان متميز تحت اسم ”إعلان من أجل أخلاق عالمية،“ وقد وضع كينغ مسودته، وكان قد نشر قبل انعقاد المؤتمر بسنتين كتابًا بعنوان: ”مشروع الأخلاق العالمية.“ وقد ضاعف كينغ جهوده بعد أن تبنى المؤتمر مشروعه، فتوالت محاضراته ومقالاته وكتبه موضحة معالم المشروع وأهدافه وآفاقه، وقد كان للإعلان الذي تولى كينغ تحريره أثره البالغ في تشجيع التوجه إلى تأسيس أخلاقيات عالمية بحيث توالى صدور تقريرات ونداءات تتصل بهذا التوجه (عبد الرحمن ‭2008‬، ‭10‬–‭11‬).‬‎

‮وضع كينغ مشروعه بعد عدة جدالات جرت في ديسمبر ‭1979‬ بينه وبين مجمع عقائد الإيمان في روما (‭la congrégation pour la doctrine de la foi‬) وقد نشب بينه وبين الفاتيكان خلافٌ بعد نشره كتابًا بعنوان: ”معصومًا من الخطأ“ (‭Küng 1971‬) رفض فيه مذهب العصمة البابوية باعتبارها وظيفة بشرية وليست لاهوتية، ومن ثم يمكن إلغاؤه ‭(Naud 2002, 142)‬؛ مما أدى إلى سحب الكنيسة الكاثوليكية الاعتراف الرسمي (‭missio canonica‬) بأهلية كينغ لتدريس اللاهوت الكاثوليكي (‭Castel 2010, 34‬). وقد كان لمشروع كينغ الأثر الفاعل في تحريك الدوائر الغربية نحو قبول الحوار مع الآخر وعقد عدة لقاءات بهذا الخصوص، وتغيير المواقف الكلاسيكية الكاثوليكية من بعض القضايا اللاهوتية كمسألة الخلاص.‬‎

‮‮2.2‬‎‬‎ ‮مسوغات الدعوة لأخلاق عالمية‬‎

‮حاول كينغ من خلال مشروعه صياغة الحد الأدنى من القوانين السلوكية التي يمكن أن تتقبلها جميع الأديان. يستهل كينغ مشروعه بنوعين من التساؤلات: تساؤلات واقعية وأخرى فلسفية. وهي تساؤلات اعتبرها أساسية لتسويغ مشروعه، فعلى المستوى الفلسفي، فإن التفاعل بين الحضارات والأديان أفرز الكثير من القضايا الراهنة، فالعولمة أسهمت في ظهور النرجسية والشوفينية الحضارية بالقدر نفسه الذي أسهمت فيه في تقارب المكان والأفكار، الأمر الذي أدى إلى تزايد ظاهرة التعصب الديني، كما أن عصر ما بعد الحداثة يبدومتاهة للأخلاق والقيم في ظل التطور الهائل، وخاصة مع ظهور أطروحات فلسفية عديدة تنظر للواقع المعاصر وفق منطق ”ما وراء الميتافيزيقا.“‬‎

‮أما النوع الثاني من التساؤلات، فهو يتصل بتساؤلات تتصل بأزمات عالمنا المعاصر. يقر كينغ بأن الغرب يعاني من فراغ في المعنى والقيم والقواعد الأخلاقية، وأن المشكلة تتعدى الأفراد إلى كونها مشكلة سياسية على أعلى مستوى، ثم يتساءل عما إذا كان الغرب قادرًا على احتواء المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية والأخلاقية الكبرى التي أوجدها.‬‎

‮ينتقد كينغ مكتسبات الحداثة الغربية ويرى أن الغرب قدم العِلم وأهمل الحكمة التي تمنع تجاوزات البحث العلمي، وقدم التكنولوجيا وأهمل الطاقة الروحية التي تسمح بمراقبة الأخطار الناجمة عن التكنولوجيا المتطورة، وقدم الصناعة وأهمل علم البيئة الذي يتصدى للتوسع الاقتصادي على حساب البيئة، وقدّم الديموقراطية وأهمل الأخلاق التي تتصدى لمصالح القوى الكثيفة للأفراد والفئات الحاكمة (كينغ ‭1998‬، ‭37‬). ثم يطرح السؤال الآتي: ”هل يكون المجتمع العالمي الآتي مجتمعًا مبنيًّا على المصالح والسوق الضخمة فحسب؟ ألا يستدعي السوق الحر حقوقًا وأخلاقًا لمراقبته وتصحيحه؟“ (كينغ ‭1998‬، ‭36‬)، يذكر كينغ أن الإيديولوجيات الحديثة الكبرى التي سادت في القرنين الماضيين بوصفها تفاسير علمية شاملة وشبه ديانات جذابة فشلت، ويرى أن أزمة الفكر المتطور هي—في الجوهر—أزمة المفهوم الحديث للعقل، ”إلا أن هذا النقد انتهى أخيرًا إلى نقد العقل نفسه (انتقادات كانط)، فالعقل الذي نصب نفسه على مستوى المطلق الذي يردّ كل شيء إلى شرعيته (بارتباط مع الحرية الذاتية)، لا يندمج في أي كون حيث لا شيء مقدس، وسوف يتفكك، وقد أُرغم اليوم من خلال رؤية شاملة على تسويغ نفسه، فقاضي الأمس الأعلى صار اليوم في قفص الاتهام“ (كينغ ‭1998‬، ‭39‬).‬‎

‮يتفق أبرز علماء الأخلاق اليوم على ضرورة وجود شرائع أخلاقية لا تنحصر في الإنتاج الصناعي فحسب، بل أيضًا في الاختبار والتفكير العلمي اللذين يحددان الأولويات والأفضليات، وتفترض هذه التحولات توازنًا بين النزعات العقلية والانفعالية والجمالية الكامنة في الإنسان، كما تفترض رؤية كلية (‭holistlisch‬) للعالم والإنسان في كل أبعادهما؛ فعصر ما بعد الحداثة يطمح إلى فضاء عالمي إيجابي جديد وإلى توافق أساسي بين القناعات الإنسانية لا يحتكر خلاص الإنسان وسعادته. إن كينغ ليس ضد الحداثة؛ فهو يرى أنه ينبغي تجنب الأحكام التقليدية التي تنحاز إلى كل قديم، ويرفض كل شكل من أشكال هيمنة الكنيسة، فلا مستقبل لديانة انكفائية أو قمعية، سواء كانت مسيحية أم إسلامية أو يهودية (كينغ ‭1998‬، ‭53‬–‭55‬).‬‎

‮ينبغي لنموذج العصر الحديث أن يندمج في نموذج عصر ما بعد الحداثة (‭aufheben‬)، بحسب المعاني الثلاثة التي يعطيها هيغل لهذه اللفظة، وهي: المحافظة على عصر الحداثة طالما يحمل قيّمًا إنسانية، ورفض عصر الحداثة في كل حدوده اللاإنسانية، وتجاوز عصر الحداثة ضمن حصيلة جديدة مغايرة ومتعددة وشاملة (كينغ ‭1998‬، ‭56‬).‬‎

‮يرى كينغ أن المشاريع المعدّة من أجل مستقبل أفضل للإنسانية يجب أن تخضع لمبدأ أخلاقي أساسي وهو أنه ينبغي أن لا يتحول الإنسان أبدًا إلى وسيلة، وهو المبدأ الذي عبّر عنه كانط في صيغة الأمر المطلق (‭Imperativ Kategorischer‬)، أي: يجب أن يكون الإنسان الهدف النهائي، فهو الغاية والمقياس، ولهذا ينبغي للأخلاق التي كانت تعتبر في عصر الحداثة شأنًا خاصًّا أن تضحي في عصر ما بعد الحداثة مطلبًا مشتركًا ورئيسيًّا من أجل سعادة البشر واستمرار البشرية، فالأخلاق نفسها تحتاج إلى هيكلية؛ لهذا بات من الضروري أن توضع مشاريع أخلاق عالمية (كينغ ‭1998‬، ‭69‬–‭72‬)، تركز على مسلمات لا تكتفي بالحرية فحسب، بل تضم إليها العدالة في آن واحد، ولا تكتفي بالمساواة فحسب بل تضم إليها التعددية أيضًا؛ ولا تكتفي بالأخوة فحسب بل تضم إليها الأخوة بين الإخوة والأخوات أيضًا؛ ولا تكتفي بالتعايش فحسب بل تضم إليه السلام أيضًا؛ ولا تكتفي بالتسامح فقط بل تضم إليه العمل المسكوني الجامع لكل الكنائس أيضًا (كينغ ‭1998‬، ‭122‬–‭126‬).‬‎

‮يبدو أن كينغ رغم انفتاحه على الفلسفات المختلفة وتأثره الواضح بالفلسفة الكانطية، يرى أن الفلسفات فشلت في احتواء المشكلات الناجمة عن مكتسبات العولمة، ولهذا يرى ضرورة صياغة مشاريع أخلاقية عالمية ترتكز على قيم العدالة والمساواة والتعددية، والتعايش والسلام والتسامح، لتكون الحصن الذي يوفر الانتقال الآمن إلى عصر ما بعد الحداثة.‬‎

‮يقر كينغ بإمكانية وجود أخلاق بلا دين، فمن خلال رؤية أنثروبولوجية، هناك عدد كبير من غير المؤمنين قد طوروا مقاييس لما هو صحيح وما هو سيء؛ فعلى الصعيد الفلسفي يعد الإنسان كائنًا عاقلاً ينعم باستقلالية حقيقية تخوله أن يثق بالواقع ولو من دون إيمان بالله، وأن يعي مسؤوليته في العالم، أي مسؤوليّته تجاه ذاته وتجاه العالم (كينغ ‭1998‬، ‭77‬). ويتساءل كينغ: من أين تستمد الأخلاق الصفة الإلزامية؟ ثم يناقش مدى قابلية الفلسفات المعاصرة المختلفة التي تعطي للعقل الصفة التشريعية للأخلاق، ويستبعد إمكانية تحقق ذلك، خاصة إذا وضعت على محك اختبار الحياة العملية؛ ويؤكد على عدم قدرة العالم المعاصر على مواجهة الغربة الروحية واللامبالاة الأخلاقية، وأن المنحى الفلسفي الذي يصر على وجود عصر ما بعد الميتافيزيقا لا يمكنه أن يصمد، فعند كينغ ”كل تحليل يتجنب البعد الديني في هذا العصر يبقى ناقصًا“ (كينغ ‭1998‬، ‭89‬). يقول: ”بعد ثناء نيتشه على أخلاق ما وراء الخير والشر، لا يمكن أن نؤسس إطلاقية الأخلاق وإطلاقية الواجب على الإنسان فحسب […] بل لا بد من مطلق قادر على أن يُسبغ معنى يشمل الحياة الفردية والطبيعة الإنسانية […]، فلا يمكن أن يكون المطلق إلا تلك الحقيقة الأسمى التي يمكننا أن نبرهن على وجودها بواسطة العقل“ (كينغ ‭1998‬، ‭102–101‬).‬‎

‮ويؤكد كينغ على أن تاريخ الأديان برهن على السلطة المطلقة للدين، فهو يضمن القيم العليا والقواعد الأخلاقية المطلقة والمثل العليا، ويخلق ملجأ للثقة والإيمان. والديانة الحقيقية التي تستند إلى الكلي الأوحد (الله) تمتاز امتيازًا جوهريًّا عن كل شبه ديانة، ولا ينبغي في هذا الوضع العالمي الجديد أن نبدلها بصنم جديد (كينغ ‭1998‬، ‭103‬–‭104‬). ”بوسع الديانات … أن تعمل بفاعلية في العالم من أجل السلام والعدالة الاجتماعية واللاعنف ومحبة القريب، وبوسع هذه الديانات أن تنشر وتحيي مواقف أساسية كإرادة السلام والعدول عن العنف“ (كينغ ‭1998‬، ‭165‬). أعاد كينغ إذن الاعتبار للدين بالرغم من إقراره بإمكانية وجود أخلاق بلا دين، وركز على الصفة الإلزامية للأخلاق وهي صفة ذات أصل ديني، كما رأى أن الدين هو البديل الأمثل لحل مشكلاتنا المعاصرة، وبهذا يكون كينغقد قدم—من وجهة نظره على الأقل—المبررات العلمية والواقعية التي تجعل من مشروعه البديل الأنسب للفلسفات والأطروحات المختلفة.‬‎

‮‮2.3‬‎‬‎ ‮مقاييس أساسية لأخلاق عالمية‬‎

‮إن الحد الأدنى المطلوب من الأخلاق الجامعة يساعد على إيجاد معايير للحياة، وهذا الحد الأدنى موجود في التقاليد الإنسانية على اختلافها، فلسنا بحاجة لإعادة اختراعها أو إيجادها، لكن يمكن الكشف عنه من خلال قراءة عميقة لتقاليدنا الإنسانية القديمة ‭(Müller 2012, 72)‬. فليس الحل ”في خلق ديانة موحدة أو عالمية كما سعى إلى ذلك الفيلسوف الأمريكي ويليم إهوكينغ قبلَ توينبي، وكما سعى إلى ذلك عبثًا في الهند سوامي فيفايكانندا في برلمان الديانات في شيكاغو عام ‭1893‬م، وبعده سرفيبالي رادها كريشنان، بل علينا أن نسهم في إحلال السلام بين الديانات، وخصوصًا بين الديانات النبوية المتخاصمة منذ زمن طويل، أي اليهودية والمسيحية والإسلام“ (كينغ ‭1998‬، ‭254‬).‬‎

‮يرى كينغ أن الاختلافات الجوهرية بين الأديان هي في الحقيقة تشير إلى معايير أخلاقية واحدة، فرغم الإختلافات إلا أنه هناك معايير أخلاقية واحدة بشكل أساسي فما نجده في الكتاب المقدس اليهودي ”الوصايا العشر“، هو نفسه ما نجده في القرآن، وما نجده من وصايا مماثلة في التراثين: الهندي والصيني. فالأخلاق العولمية هي عولمية تاريخا—أيضا—، مما يعني أننا لسنا في حاجة لأن نعيد اختراع تلك الأخلاق.‬‎

‮ويؤكد كينغ أن هناك أربع توجيهات موجودة في التقاليد المختلفة: الأول: التوجيه القديم بعدم القتل: لا للقتل العمدي، لا تعذب، لا تُصب أحدًا بجروح، والثاني: لا تسرق أو تستغل أو ترتشِ، أو تفسد، والثالث:—وهو أمر يُهم السياسيين بشكل خاص—لا نكذب، لا نخدع، لا تزيف، لا تتلاعب، وأخيرًا: لا تستغل جنسيًا، لا تغش، لا تُذل، لا تُهن. ويجمع هذه المبادئ والتوجيهات الأخلاقية عبارة: ”أن يحترم ويحب كل منا الآخر“ (كينغ ‭1998‬، ‭108‬).‬‎

‮إن الأخلاق الموجودة في مصادر الأديان، وإن كانت في ظاهرها توهم التطابق، لكن تختلف تفسيراتها، فهي مرتبطة بنسق متكامل من القيم وبمنظومة قيمية خاصة نابعة من الرؤية الوجودية لكل ديانة، فحينما نقرأ في النص التوراتي وصايا مثل: لا تقتل، لا تسرق، وغيرها من الوصايا (سفر الخروج ‭20‬: ‭1‬–‭7‬؛ سفر التثنية ‭5‬: ‭6‬–‭21‬)، نجد أن تفسيراتها تؤول في التراث التلمودي، ويصبح النهي عن القتل خاصًّا بالقريب فقط وهو اليهودي، ومن هنا نرى أن هذه المقاييس متطابقة في الظاهر، ولكنها تختلف بحسب التأويلات المختلفة. ولكن الأديان يمكن لها أن ”تبرهن—بسلطة تفوق أية سلطة فلسفية—على أنّ استخدام قواعدها الأخلاقية لا يذوب في كل حالة على حدة، بل يحمل قيمة مطلقة، وبوسع الديانات أيضًا أن تقدّم للبشر قاعدة أخلاقية سامية للضمير“ (كينغ ‭1998‬، ‭110‬) تشكل مبدأ أساسيًّا، فالديانات كلّها تعرض مبدأ يسمى القاعدة الذهبية (‭Golden Regel‬) وهي قاعدة مطلقة وقابلة للتطبيق في الحالات المعقدة جدًّا، وعلى الأفراد والجماعات أن يتعاطوها. يؤكد كونفوشيوس هذه القاعدة بقوله: ”ما لا ترغبه لنفسك لا تفعله للآخرين،“ وفي اليهودية يقول الرابي هليل: ”لا تفعل للآخرين ما لا تريد أن يفعله الآخرون لك“ (كينغ ‭1998‬، ‭111‬)، وفي المسيحية: ”كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، فافعلوه أيضًا“ (متى ‭12‬: ‭7‬؛ لوقا ‭6‬: ‭31‬) وفي الإسلام: ”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه“ (البخاري ‭2002‬، ‭13‬–‭14‬؛ مسلم ‭2005‬، ‭81‬) وقد حاول كانط عقلنة هذه القاعدة الذهبية وعلمنتها من خلال القول: ”تصرف وكأن شعار مسلكك سيتحول بإرادتك في كل زمن إلى قانون عام،“ (كينغ ‭1998‬، ‭111‬) فيمكن لهذه القاعدة أن تكون معيارًا أساسيًّا في التعامل مع الآخر.‬‎

‮يقول كينغ: ”أفليس من الممكن—إذا انطلقنا جميعًا من الإنسانية المشتركة بين كل البشر—أن نصوغ مقياسًا أخلاقيًّا عالميًّا أساسيًّا، مقياسًا مسكونيًّا يرتكز على الإنسان، الإنسان الحقيقي، أي على كرامة الإنسان والقيم الأساسية الناتجة عنها؟ فالسؤال الجوهري في بحثنا عن المقاييس الأخلاقية يصاغ على النحو الآتي: ما الأمر الجيد للإنسان؟ على هذا السؤال نُجيب: كلّ ما يساعده على أن يكون حقًّا إنسانًا“ (كينغ ‭1998‬، ‭190‬) فالمقياس الأخلاقي الأساسي هو: ينبغي للإنسان ألا يحيا بطريقة غير إنسانية.‬‎

‮من خلال هذا العرض لمشروع كينغ الذي يقوم على التوجهات الأربعة والقاعدة الذهبية والبعد الإنساني، نرى أن الإشكالية الأساسية في مقاييسه تكمن في صعوبة تنزيلها على الواقع، فما زلنا في زمن تسوده النظرة الشوفينية للآخر؛ فكلامنا عن إنسانية الإنسان كمقياس أساسي في زمن يموت فيه الإنسان جوعًا وقهرًا وقتلاً، يحيلنا السؤال عن آليات تطبيق هذه المبادئ وضمانات تنفيذها‭.‬ فكيف يمكن أن نعيد للإنسان إنسانيته؟ وكيف نجعل إنسانية الإنسان معيارًا أساسيًّا لأخلاق عالمية؟ وما الوسائل اللازمة لذلك؟‬‎

‮ينتقد طه عبد الرحمن ادعاء الأخلاق العالمية تحقيق الأنسنة؛ إذ يرى أنها غيبت عنصري الإيمان والعمل الديني، مما جعلها تحمل قيم العلمانية نفسها التي يحملها الانتشار التسليعي، فالقاعدة الذهبية التي تقضي بأن يعامِل الإنسان غيره وفق ما يحب أن يعامَل به، أقرت بوجود القاعدة المنصوص عليها في كل الأديان الكبرى، ولكنها أصرت على فصلها عن أصلها الديني وإيرادها بصيغة علمانية (عبد الرحمن ‭2012‬ب، ‭219‬). وتتساءل سيسيلا بوك (‭Sissela Bok‬) عن إمكانية صمود القيم الأخلاقية إذا اقتلعناها من جذورها الثقافية أو الدينية، كما أن الأخلاق العالمية قدمت—في رأيها—جمعًا سطحيًّا للأخلاق ذات المصدر الديني مهملةً التفسيرات المختلفة لها ‭(Causse et Müller 2009, 60)‬. يمكن القول: إن هذه التساؤلات لديها مبرراتها ولكن رغم هذه الانتقادات نرى أن مشروع كينغ لا يقدّم نفسه بديلاً عن الأديان، وإنما يأخذ الصبغة الدينية فيحافظ على خصوصية الأديان، ويسعى من خلال هذه الخصوصية أن يُشيد صرحًا لأخلاق ضابطة لقيم العولمة، وجامعة للأديان من حيث المعنى، خاصة في مبناها الداخلي.‬‎

‮3‬‎ ‮النظرية الائتمانية‬‎

‮قدّم الفيلسوف طه عبد الرحمن مشروعا أخلاقيا عالميا، يمثل الشق العملي من فلسفته الائتمانية، أعاد من خلاله الاعتبار لسؤال الأخلاق، في ظل غياب المساعي الفلسفية المعاصرة لتجديد النظر الأخلاقي الإسلامي؛ وقد حاول تقديم نظرية تعاقدية تختلف جوهريا عن نظريات العقد الاجتماعي، وتضاهي الفلسفات الغربية الحديثة، لمواجهة التحدي الأخلاقي الذي يشهده عالمنا المعاصر. نتناول في هذا القسم مفهوم الفلسفة الائتمانية، وأسس النقد الائتماني؛ كما نركز على الشق العملي من الفلسفة الائتمانية بعرض فلسفته في الانتقال من اللوغس إلى الإيتوس، ثم نتناول خصائص الأخلاق التي أنتجها الميثاق الأول وطابعها الكوني.‬‎

‮‮3.1‬‎‬‎ ‮الائتمانية: المفهوم والأسس‬‎

‮تستمد الفلسفة الائتمانية اسمها انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً﴾ (سورة الأحزاب، ‭72‬) ، فهي فلسفة إسلامية ترتكز على الحدث الغيبي المحفوظ في الفطرة، ولذلك عوّل طه على ذاكرة الإنسان الأصلية فقال: ”لا يزال الفاعل الديني يتزكى حتى يزول عن روحه غشاء النفس مستعيدًا ذاكرته الأصلية؛ فكما أن هذه الذاكرة الغيبية حفظت الشهود الأول والشهادة الأولى، فكذلك حفظت ذكرى حدث فاصل في قدر الإنسان … وما هذا الحدث الفاصل إلا العرض العظيم الذي ابتلى به الحق سبحانه وتعالى مخلوقاته كلها؛ إذ عرض عليها حمل الأمانة فأبت هذه الكائنات—حيّها وجامدها—حملها؛ إشفاقًا منها، في حين اختار الإنسان حملها غير مقدر لثقلها ولا متصور لتبعاتها“ (عبد الرحمن ‭2012‬ب، ‭448‬–‭449‬).‬‎

‮يؤسس طه فلسفته على أسس نقدية متينة وشاملة لفلسفة الحداثة، فيرى أن أبرز الآليات التي توسلت بها الحداثة في إقامة مشروعها الدنيوي ”آلية تفريغ المجموع“ أو بعبارة أخرى ”آلية فصل المتصل“، وقد انبرت الحداثة لتعطيل قانون الدين في مختلف المجالات الحيوية لتستقل بنفسها تدبيرًا وتقديرًا. ويسمي طه عمل الحداثة في انتزاع قطاعات الحياة من الدين باسم ”الدُّنيانية،“ وهو مصطلح قد يكون قريبًا في مدلوله من المصطلح الإنجليزي (‭secularisation‬) بمعنى صرف الدين عن تنظيم مجالات الحياة، وأشد فصول الدنيانية خطرًا وأبلغها أثرًا: فصل الأخلاق عن الدين؛ فهو ينعكس بشدة على صلة الأخلاق بالإيمان فضلاً عن صلة الدين بالإيمان، ويقترح طه مصطلح ”الدهرانية“ لوصف هذه الصورة من ”الدنيانية“ (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭11‬–‭12‬)، وقد أطلق على المنهج الذي انتقاه في مقاربته النقدية للحداثة اسم ”النقد الائتماني.“‬‎

‮يغلب تقديم الفلسفة على أنها ”معرفة عقلية مجردة“، ولكن طه يرى أن العقلانية المجردة مرتبة دنيا من مراتب العقلانية؛ ويقسم العقلانية في المقابل إلى درجات هي: ”العقلانية المسددة“ التي تنزل مرتبة أعلى، ثم يأتي فوقها ”العقلانية المؤيّدة،“ وتندرج العقلانيتان تحت ”العقلانية العملية،“ فالعقل الأعلى يستوعب كل الإمكانيات العقلية للعقل الأدنى استشكالاً واستدلالاً-، والعقل المسدد يحتوي العقل المجرّد صارفًا مفاسده، والعقل المؤيد يحتوي العقل المسدّد مجتنبًا عوائقه. من هذا المنطلق يرى طه أن الفلسفة الدهرانية تتوسل بالعقل المجرّد وحده، بينما تبنىي الفلسفة الائتمانية على العقل المؤيّد متقية مفاسد العقل المجرد وعوائق العقل المسدّد (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭13‬–‭14‬)، وتتحدد المبادئ الأولى للعقل في الفلسفة اليونانية بثلاثة مبادئ هي: مبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ الثالث المرفوع، أما مبادئ الفلسفة الائتمانية فتتحدد بمبدأ الشهادة ومبدأ الأمانة ومبدأ التزكية. فمبدأ الشهادة يقوم على تقرير أن الشهادة بمختلف معانيها؛ كشهادة الإنسان في العالمين الغيبي والمرئي التي يقر فيها بوحدانية الله، إضافة إلى شهادة الخالق على هذه الشهادة، وصولا إلى الشهادة على الذات والشهادة على الآخرين، إضافة إلى الشهادة بمعنى المعاينة والاستشهاد، تجعل الإنسان يستعيد فطرته، متحصلاً حقيقة وجوده؛ فكل الموجودات في العالم الائتماني تتمتع بحق الشهادة؛ فهي تفضُل الهوية المجردة في كونها تزدوج بالغيرية، بل إنها تنبني على الغيرية (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭14‬–‭15‬)، ومبدأ الأمانة يقوم على تقرير ”أن الأمانة بمختلف وجوهها تجعل الإنسان يتجرّد من روح التملك، متحملاً كافة مسؤولياته التي يوجبها كمال عقله؛“ فكل الموجودات في العالم الائتماني عبارة عن أمانات لدى الإنسان، فمبدأ الأمانة يقضي بأن الشيء ونقيضه لا يجتمعان متى كان العقل مسؤولاً (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭15‬–‭16‬)، ومبدأ التزكية يقوم على جعل الإنسان يجاهد نفسه للتحقق بالقيم الأخلاقية والمعاني الروحية المنزّلة لإرضاء الله عزّ وجلّ، فالتزكية تتولى ”تفجير الممكنات الأخلاقية والمكنونات الروحية لدى الأفراد والجماعات، سعيًا إلى الرقي بإنسانيتهم التي بها يتميزون عن غيرهم من الكائنات،“ فهي قادرة على التصدي للآفات الاجتماعية، والآفات العالمية الخلقية والروحية (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭16‬–‭18‬). فالفلسفة الائتمانية ”تستمد عقلانية التأييد من النصوص المؤسسة للتراث الإسلامي، متضمنة لفلسفات ثلاث هي: فلسفة الشهادة وفلسفة الأمانة وفلسفة التزكية؛ لذلك كانت جديرة بأن توصف بأنها فلسفة إسلامية حقيقية أو حتى فلسفة إسلامية خالصة“ (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭19‬). وإذا كانت الفلسفة الائتمانية تستمد أسسها ومبادئها من رحم النصوص الإسلامية، فهل تقدم نفسها على أنها فلسفة كونية أيضًا، أم أنها مجرد رؤية إسلامية محضة؟ سنحاول الإجابة على هذا السؤال في ما يأتي.‬‎

‮‮3.2‬‎‬‎ ‮من اللوغوس إلى الإيتوس‬‎

‮تمثل الأخلاق الشق العملي من الفلسفة الائتمانية، فقد أعاد طه الاعتبار لسؤال الأخلاق باعتباره الروح التي يجب أن تُبث في جسد الإنسان المعاصر. فالنظر الائتماني يتعلق بالإنسان المعاصر بوصفه المثال الخلقي الذهني الذي يهيمن على القلوب ويستبد بعقول أصحابها، غربيين كانوا أم مسلمين (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭15‬)، و”من هنا وجب وضع نظرية تعاقدية تقلب رأسًا على عقب النهجَ الذي اتبعته نظريات العقد الاجتماعي أو قل: النظريات العقدية، نظرية نسميها بالنظرية الميثاقية، وتقضي هذه النظرية بنقل الإنسان المعاصر من حالة الممات إلى حالة الحياة عن طريق المواثقة“ (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭15‬–‭16‬)، وانطلاقًا من نقده للرؤى المختلفة التي تؤطر علاقة الدين بالأخلاق أكد طه على غياب أي مسعى لتجديد النظر الأخلاقي الإسلامي بما يجعله يضاهي الفلسفات الأخلاقية الغربية الحديثة ويواجه التحدي الأخلاقي المقبل، يقول: ”وهذا الغياب المؤسف لن يزيد المسلمين إلا تضعضعًا في مركزهم، ولاسيما أنهم لا يملكون—على ما يبدو في الأفق القريب—إلا ما انطوى عليه الإسلام من القيم الأخلاقية والمعاني الروحية لتثبيت وجودهم وقول كلمتهم في الحضارة العالمية المنتظرة“ (عبد الرحمن ‭2000‬، ‭146‬)، لهذا يرى أنه لا بد من طلب أخلاق العمق التي تدعونا إلى الشروع في بناء حضارة جديدة لا يكون السلطان فيها لـ”اللوغوس“ (أي العقل)، وإنما يكون فيها لـ”الإيتوس“ (أي الخلق)؛ بحيث تتحدد فيها حقيقة الإنسان لا بعقله أو قوله، بل بخُلقه أو فعله، فلا بد أن نهيئ الإنسان لحضارة الإيتوس (عبد الرحمن ‭2000‬، ‭146‬). حاول طه رسم جملة من المعالم الأساسية لنظرية أخلاقية إسلامية تسهم في الاستعداد للتحول العالمي المنتظر من خلال الانطلاق من مسلمتين أساسيتين: مسلمة الصفة الأخلاقية للإنسان فلا إنسان بغير أخلاق، ومسلمة الصفة الدينية للأخلاق فلا أخلاق بغير دين (عبد الرحمن ‭2000‬، ‭147‬–‭148‬)، مؤكدًا على أن جدل ثنائية الأخلاق والدين ظل حاضرًا في الوعي الإنساني وفق فرضيات ثلاث هي: تبعية الأخلاق للدين وتبعية الدين للأخلاق واستقلال الأخلاق عن الدين (عبد الرحمن ‭2000‬، ‭33‬–‭34‬)، ومن المسلمتين السابقتين يصل إلى أنه لا إنسان بلا دين. يعيد طه بناء مفهوم الأخلاق كخطوة أولى في مشروعه، فيعترض على المفهوم المتداول للأخلاق قائلاً: ”لقد غلب على الظنون، منذ زمن بعيد، أن الأخلاق هي مجرد أفعال محدودة من أفعال الإنسان، وأنها لا تدخل في تحديد ماهيته … بقدر ما تدخل في تحديد جانب من سلوكه“ (عبد الرحمن ‭2015‬، ‭72‬)، ويؤكد بطلان هذا المفهوم كليًّا؛ إذ ويجعل من الأخلاق المعيار الأساسي لإنسانية الإنسان، فالحد الفاصل بين الإنسان والبهيمية، ليس قوة العقل كما رسخ في الأذهان، بل قوة الخلق؛ فالصفة الجوهرية اللصيقة بالإنسان ليست العقلانية كما هو متوهم، بل صفة ”الأخلاقية“، فهي تقترن بالإنسان كلّه، بكل جنباته وملكاته، بجوانبه البرانية والجوانية، النظرية والعملية (العايب ‭2017‬، ‭191‬)؛ فالعقل الآلي هو ”عقل مجرد،“ أما المشبع بالقيم الأخلاقية فهو ”عقل مسدد،“ فلا شيء ينزل مرتبة الحاكمية بالنسبة للعقل إلا القيم الأخلاقية، فهي التي تحسّن إجراءاته وعملياته أو تقبحها، وإلا اعتبرت حركات آلية صماء بكماء؛ إذ لا إنسان إلا مع وجود هذه القيم (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭111‬).‬‎

‮ويمكن القول: إن طه أعاد الاعتبار لسؤال الأخلاق، وقدّم مشروعًا أخلاقيًّا يراه عالميًّا، وهو الشق العملي من فلسفته، وأكّد على أن النظر الائتماني يتعلق بالإنسان المعاصر، وليس خاصًّا بالمسلمين فقط، لكن من الصعب افتراض أن المسلمات الإيمانية التي انطلق منها يُسلّم بها الجميع؛ على الرغم من أن عددًا من الفلسفات الوضعية انطلقت أيضًا من مسلمات شبه إيمانية (ميتافيزيقية) كالعقد الاجتماعي، والحق الطبيعي، والعقل الكلي …‬‎

‮‮3.3‬‎‬‎ ‮الميثاق الأول والأخلاق الكونية‬‎

‮تنبثق الائتمانية من علاقة الميثاق الأول بالأخلاق الكونية، فلا إمكانية للوصل بين العقل والشرع إلا إذا جرى ما يشبه الاتفاق بينهما على أن ما يدركه الأول هو نفسه ما يقره الثاني، وبالعكس، غير أن الشارع يستحيل في حقه أن ينقض الاتفاق لأنه إله، في حين يجوز أن ينقضه الإنسان؛ لذلك يكون الاتفاق من جانب الإنسان العاقل عبارة عن تعهد بأن يكون عقله موافقًا للشرع ومخالفًا للهوى، وقد حدث هذا التعهد في يوم لم نعد نذكره بأنفسنا ولكن تُذكرنا به الرسالات، تحدد فيه الميثاق الذي أخذه الشارع الأسمى من العقلاء وعقولهم (عبد الرحمن ‭2000‬، ‭157‬–‭158‬). ينطلق من هذه المسلمة الغيبية إلى السؤال عن طبيعة الأخلاق التي يجوز أن يُزوِّد بها هذا الميثاق الأول الإنسانَ لمواجهة ما ينتظره من تزلزل في هويته، ويحدد خصائص الأخلاق التي أنتجها الميثاق الأول بأنها أخلاق مؤسَّسة أولاً؛ فلما كان العقل هو الذي يطلب هذه الأخلاق، استحال أن يكون هو نفسه مؤسِّسا لها، وبأنها متعدية إلى العالم كله (عالمية) ثانيًا، فهي لا تخص صلاح الفرد الواحد ولا صلاح الأمة الواحدة بل صلاح البشرية جمعاء، وبأنها أخلاق شاملة لكل الأفعال الإنسانية ثالثًا، فلما كانت كل أفعال الإنسان تصدر عن عقله الذي أعطى الميثاق، لزم بموجب صدورها عن هذا العقل أن تشملها جميعًا بلا استثناء. مجمل القول في الميثاق الأول: أنه يورث الإنسان أخلاقًا مؤسسة ومتعدية وشاملة؛ مما يجعلها أنسب أخلاق للعالم المنتظر، تجلب الثقة فيه، وتسوي—بفضل تعديها إلى العالم كله وشمولها لجميع الأفعال—بين حقوق البشر وواجباتهم، ”وبهذا تكون أخلاق الميثاق هي الأخلاق الكونية بحق وليس سواها“ (عبد الرحمن ‭2000‬، ‭156‬). من خلال هذه المقاربة المفهومية والفكرية لمشروع الأخلاق العالمية والنظرية الائتمانية، نلحظ العودة القوية لسؤال الأخلاق في عالم تسوده القيم النفعية التي أعطت للعقل سلطان التشريع اللامحدود بلا ضوابط تحفظ للإنسان إنسانيته، ويبدو ثمة اتفاق في الدوافع والمباحث بين الأطروحتين؛ فقد انتقدت كل منهما الهزة القيمية التي أحدثتها العولمة، وتحديدًا علاقة الأخلاق بالدين، لكنهما اختلفتا من حيث المنهج. فمشروع الأخلاق العالمية انطلق من محاولة صيغة أخلاق عالمية مشتركة ذات أصل ديني تكون قانونا يُسترشد به، وقد حظي مشروعه بدعم من الأوساط الكنسية، ووجد سبيله للتفعيل عبر قنوات عديدة، في حين أن الائتمانية انطلقت من مشروع فلسفي خاص مبني على مسلمات هي من صميم الحقل التداولي الإسلامي، يراها صاحبها صالحة لتقود العالم للخروج من أزماته المختلفة، وما زال هذا المشروع محل نقاش وجدل، ولعله بحاجة إلى مؤسسات علمية تتدارسه وتقوّمه بغرض الإفادة من إمكاناته.‬‎

‮ويختلف مشروع كينغ عن مشروع طه في الأسس المكونةلمشروع كل منهما رغم اتفاقهما في الهدف الذي هو نبذ العنف وإشاعة السلام؛ فمشروع كينغ يسعى لبناء الحد الأدنى من القواعد السلوكية انطلاقًا من جميع الأديان، وبانفتاح تام على الفلسفات والأطروحات المعاصرة، بينما ينطلق طه من الديانة الإسلامية التي يراها الديانة الخاتمة المكتملة، ويؤكد على ضرورة أن تكون الأخلاق العالمية الإسلامية النموذج الأمثل في وقتنا المعاصر انطلاقًا من النظر الائتماني.‬‎

‮4‬‎ ‮الحوار بين كينغ وطه‬‎

‮يعتبر الحوار عند كل من كينغ وطه آلية أساسية لتفكيك مسببات العنف في عالمنا المعاصر، وينطلق الحوار عندهما من الأرضية الفلسفية، والخلفية الدينية لكل منهما، كما يرتبط عضويا بالمشروع الأخلاقي باعتباره روح الحوار ومادته الأساسية، والأرضية الجامعة لكل الأديان. وقد انطلق كل منهما من مسلمات فكرية. وباستخدام المنهج التحليلي المقارن، سنعرج في هذا القسم على موقع الحوار في مشروع كينغ من خلال التركز على مسألة الحقيقة الدينية وتسالم الأديان التي نناقشها من خلال ثنائية النقد الذاتي والاستقرار العقدي. كما سنتناول الحوار في مشروع طه من خلال عرض سبل تذليل العنف عن طريق الفلسفة الحوارية الائتمانية.‬‎

‮‮4.1‬‎‬‎ ‮موقع الحوار في مشروع كينغ‬‎

‮ترتكز أطروحة كينغ على ثلاث مسلمات هي: لا سلام بين الأمم من دون سلام بين الديانات، ولا سلام بين الديانات من دون حوار بين الديانات، ولا حوار بين الديانات من دون بحث لاهوتي أساسي (كينغ ‭1998‬، ‭213‬). ومن الواضح مكانة الحوار في المشروع الذي يعتبر الطريق المؤدي للسلام، ولهذا أُدمج كينغ مشروعه في الحوار بين الحضارات التابع للأمم المتحدة، وعرضه من خلال مناقشة ونقد مسألة احتكار الحقيقة باعتبارها الحاجز الأساسي للحوار الذي يقود إلى السلم.‬‎

‮إن القدرة على الحوار هي فضيلة الاستعداد للسلام؛ ففي كل مرّة يتوقف الحوار تستعر الحرب، فالحوار يقصي البندقية، وكل من يبحث في الحوار عليه أن يتحلى بالقوة والشجاعة الداخليتين كي يحترم وجهة نظر الآخر (كينغ ‭1998‬، ‭213‬)؛ فلا سلم عالميًّا من دون سلام ديني، فالحوار البناء الذي يُشاد بين الديانات من أجل السلام العالمي مهم جدًّا للاستمرارية، فكوكبنا بحاجة ماسة إلى الإله الخالق، وهذه النظرة ترغمنا على تحمّل مسؤولياتنا، وأن نلغي تعنتنا كي يلتقي بعضنا بعضًا، وكل هذا يتعلق بالمسألة الدينية الأكثر جدلاً وهي مسألة الحقيقة (كينغ ‭1998‬، ‭167‬–‭168‬). فما من مسألة أُريقت في سبيلها الدماء مثل مسألة الحقيقة، فالتعصب الأعمى للحقيقة قد جرح وقتل دون رادع في كل الأوقات، سواء أكان في الكنيسة أم في الديانات الأخرى، وكل إهمال للحقيقة ينجم عنه بالمقابل غياب التوجّه وغياب القواعد الأخلاقية، ومن هذا المنطلق يتساءل كينغ: هل من الممكن على الصعيد الديني أن نلتزم طريقًا يساعد المسيحيين أو أتباع الديانات الأخرى على الحوار وعلى أن يقبلوا حقيقة الآخر من دون التضحية بحقيقتهم هم، ومن ثم بهويتهم (كينغ ‭1998‬، ‭169‬)؟‬‎

‮يرى كينغ أن ثمة ثلاثة عوائق تحول دون تحقيق السلام بين الأديان وتتصل بمسألة الحقيقة، وهي: خطة التحصن، وخطة التخفيف من المفارقة، وخطة الاستيعاب. ففي خطة التحصن يتم الاعتقاد بأن ديانتنا هي—وحدها—الصائبة، بينما كل الديانات الأخرى على ضلال، وأنه لا ضمانة للسلام الديني إلا من خلال الديانة الواحدة الصائبة. وهذا ما تعتقده الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وتتخذ له شعار ”لا خلاص خارج الكنيسة“ (كينغ ‭1998‬، ‭171‬). يقول كينغ: ”في المسيحية: مشكلتنا اليوم مع العنف أقلُّ منها مع ادعاء الانفراد بالعقيدة الصحيحة، وهو موقف مبني على فقرات معينة“ (كينغ ‭2015‬، ‭103‬)، مثل: ”أنا هو الطريق والحق والحياة“ (إنجيل يوحنا ‭14‬: ‭6‬)، وهذا التشبث اللامحدود أو النظرة الفوقية التي يرافقها الخوف من الاحتكاك بالآخر ظهرا أيضًا في كنائس مسيحية أخرى وفي الديانات الأخرى كالإسلام مثلاً. ويرى كينغ أن هذه النزعة الانحصارية يرافقها موقف لاهوتي دفاعي يعتبر نفسه دومًا على حق، وهذا يخلق مشاكل أكثر مما يقدم حلولاً. ورغم أن المجمع الفاتيكاني الثاني سجّل منعطفًا شجاعًا حين دعا إلى المسامحة والتقدير والإقرار بإمكان وجود خلاص خارج الكنيسة، فإن مجلس الكنائس العالمي (البروتستانت) رغم موافقته على الحوار والتشاور بين الديانات لم يحوّل العمل المسكوني إلى عمل جدّي (كينغ ‭1998‬، ‭171‬–‭172‬). أما خطة التخفيف من المفارقة فقد انتشرت بين صفوف المثقفين الغربيين تحت شعار أن مشكلة الحقيقة الجوهرية لا وجود لها فعليًّا؛ لأن كل ديانة هي—في جوهرها—صحيحة، ولكن على طريقتها الخاصة. فلكي نصل إلى السلام الديني لا بد من تجاهل الاختلافات والتناقضات. ينتقد كينغ خطة التخفيف من المفارقة التي تلغي وجود حقيقة جوهرية، من خلال تجاوز الاختلافات بتشبيهه هذا الحل بوضع الديانات كلها في طبق واحد؛ ورأى أن هذا الحل يفضي إلى رفع التمايز الموجود واقعًا حتى داخل الديانة الواحدة، فاللامبالاة اللاهوتية التي تتساوى فيها كل المواقف الدينية لتجنب التمييز الروحي ليست حلاًّ صحيحًا. أما خطة الاستيعاب فتتمثل في أن هناك ديانة واحدة صحيحة، بيد أن كل الديانات التي تطورت عبر التاريخ تشترك جزئيًّا في حقيقة هذه الديانة الوحيدة، ولا بلوغ إلى السلام الديني إلا من خلال دمج الآخرين. فكل ديانة تنحصر في مستوى أدنى أو جزئي، وهي تمهيد أو حقيقة جزئية (كينغ ‭1998‬، ‭174‬). يرفض كينغ خطة الاستيعاب هذه، ويرى أنها ليست حلاًّ لمسألة الحقيقة؛ لأنها لا تسهم في إرساء أسس الحوار والسلام بين الديانات.‬‎

‮يقدم كينغ استراتيجية بديلة تقوم على النقد الذاتي والاستقرار العقدي. ففيما يخص النقد الذاتي، يقترح كينغ انتهاج نظرة نقدية لتاريخ نقائص الديانات وأخطائها، فالحدود بين الحقيقة والضلال تتوقف على الحدود القائمة بين الديانة الخاصة والديانات الأخرى المعنية. فمن يَصبُ إلى توخي الموضوعية يقر بأن الحدود بين الحقيقة والضلال تكمن أيضًا في كل ديانة خاصة؛ فغالبًا ما نكون على حق أو على خطأ في آن واحد، فالمسيحية مثلاً على الرغم من أخلاقها المبنية على المحبة والسلام، برهنت عن شيء من التعصب والعدوانية في غياب الحب والسلام، كما قدّمت صورة خاطئة من خلال الكريستولوجيا، أي صورة خاطئة عن المسيح الذي تكنّ له الديانات الأخرى احترامًا بالغًا، مشددة على وجهه الإلهي بطريقة قاطعة (كينغ ‭1998‬، ‭175‬–‭179‬). والحوار لا يعني أبدًا التخلي عن القناعات الذاتية، والنقد الناتج عن الآخرين يبقى دومًا ضروريًّا، فإذا اكتفت كل ديانة في الحوار بالتشديد على مقاييس حقيقتها الخاصة يضحي التقابس الحقيقي منذ البداية مستحيلاً (كينغ ‭1998‬، ‭182‬). ”علينا إذن قراءة كلّ من التاريخ اليهودي والمسيحي بأسلوب نقدي، كما يجوز لنا أيضا أن ننتظر من المسلمين أن يقرِؤوا تاريخهم قراءة نقدية، وهو ما يحاوله اليوم أيضًا مسلمون منفتحون يفسرون الجهاد على أنه جهد معنويّ في المقام الأول في سبيل الخلاص، ويحاولون حل مشاكل العنف في الإسلام“ (كينغ ‭2015‬، ‭102‬).‬‎

‮يرى كينغ أن النقد الذاتي هو السبيل الأمثل لحوار يكرّس السلم بين الأديان؛ فجليد العداء الشديد الذي يسود المجتمع الدولي يجب إذابته ببناء جسور المحبة ونبذ الكراهية والانتقام عن طريق ترسيخ الحوار، ورغم الاختلافات الموجودة بين الأديان الثلاثة الكبرى فإن هناك ثوابت أخلاقية تسهل منهج الحوار ‭(Müller 2012, 72)‬، كما يرى أن الثقة هي أهم شيء في الحوار المسكوني (‭Ökumenisch‬). فأهم ما يجب أن يتوفر في الحوار هو الثقة في وجود محاور صادق لا يخدع وهو يمارس النقد الذاتي. يجب أن تتوفر الثقة بأننا نحاور شخصًا يحاول أن يفهمنا ولا يضللنا، ”أو يخرج علينا مباشرة بكتالوج الأكليشيهات السّلبية“ (كينغ ‭2015‬، ‭89‬)، فهذه الشروط مهمة لحوار ناجح، فالاستلطاف والجانب العاطفي لهما دور مهم في عملية حوار الأديان، إضافة إلى العلم بدين الآخر. ويرى كينغ أنه ينبغي تدريس الأديان ومناقشتها في أبكر وقت ممكن في المدارس للإلمام بعقيدة الآخر على الأقل في معالمها الرئيسية (كينغ ‭2015‬، ‭89‬–‭90‬). كما أن الثوابث الأخلاقية تسهل عملية الحوار إضافة إلى النقد الذاتي، فالغرض من الحوار هو مراجعة القناعات وإعادة هيكلة المفاهيم وفق المعطيات الناتجة عن العمل الحواري، وما يركز عليه كينغ هو النقد المتعلق بتاريخ الأديان، وهذا لا شك أمر قابل للنقاش والمراجعة، لكن الإشكالية الحقيقية إنما تتعلق بالحوار في المسائل العقدية التي هي محور الادعاء بامتلاك الحقيقة، وهو ما يغض الطرف عنه إلا في كلامه عن الكريستولوجيا المسيحية.‬‎

‮أما فيما يخص الاستقرار العقدي والاتجاه نحو الحوار، فينطلق كينغ من مسلمة أن ”القدرة على الحوار والاستقرار في العقيدة لا يتعارضان،“ ويبين أن الاستقرار لا يعني ”الإصرار“ على واقع يبقى كما هو، ويشير إلى أن من الفضائل الحديثة الأكثر قربًا من الاستقرار ”المثابرة“ (‭constantia‬)، وجاء هذا اللفظ مرة واحدة في ترجمة العهد الجديد إلى اللاتينية في سفر أعمال الرسل (‭4‬/‭13‬)، وفيه إشارة إلى جرأة بطرس ويوحنا وكلمة (‭con-stare‬) تعني التصميم على التمسك بموقف ثابت والأمانة له، وتعني كلمة (‭con-stantia‬) التمسك الثابت بالموقف والتوجه الثابت، والمثابرة والعيش في منطق مع الذات، والتشبث والجرأة، والسيطرة على الذات، ومن هذا المنطلق يحدد كينغ معنى الاستقرار بالقول: ”تحمل كلمة (استقرار) معنى الصمود في وجه القوى وأرباب القوى الخارجية. فهي تساعد على تأكيد الذات وعدم الاستسلام والثبات، وتحمل معنى الشجاعة وقوة القرار وقوة التصميم في العمل، ويتم ذلك كله في سبيل حرّية الفرد ومسؤوليته“ (كينغ ‭1998‬، ‭199‬).‬‎

‮يتساءل كينغ: هل يعني الاستقرار في الإيمان تجميد الحوار الجدي بين الديانات؟ فيؤكد أنه لا يطمح إلى موقف عدم التمييز بحيث تغدو كل المواقف متساوية، ولا إلى النسبية التي لا تؤمن بالمطلق. يقول: ”بيد أننا نسعى إلى إيجاد معنى أكثر وضوحًا إزاء كل المطلقات الإنسانية التي تمنع التعايش المثمر بين الديانات … نحن لا نطمع إلى التوفيقية التي تمزج وتخلط الكل وضدّه؛ بيد أننا نسعى إلى إرادة أكبر حصيلة (‭synthese‬) وإلى نمو مشترك إزاء كل الاختلافات والمنافسات الطائفية والدينية التي ما برحت تسفك الدماء …“ (كينغ ‭1998‬، ‭201‬)، فإزاء التعصب الذي تغذيه الحوافز الدينية، لا بد من التسامح والحرية الدينية، فلا خيانة للحرية على حساب الحقيقة، ولا خيانة للحقيقة على حساب الحرية، فلا يجب أن نجعل من الحقيقة أمرًا مبتذلاً، فلا نضحي بها كأنها مثال لوحدة العالم أو لديانة موحدة للعالم، ولذلك يرى كينغ—وفق نظرة نقدية ذاتية—أن المسيحي لا يجب أن يحتكر الحقيقة إلا أنه لا يحق له أن يتخلى عن الإقرار بالحقيقة الذي يفترض أن نمتلك الشجاعة على الإقرار بالضلال ومناقشته أيضًا (كينغ ‭1998‬، ‭201‬–‭202‬). يخلص كينغ إلى أن ”فضيلة الاستعداد للحوار تستدعي فضيلة الاستقرار وفق مفهوم ديناميكي وليس جامدًا؛ إذ لا انفصال بين هذين الفضيلتين“ (كينغ ‭1998‬، ‭209‬)، فالمحاور الجيد يوفق بين النقد الذاتي للإيمان والاستعداد للحوار، وبين الأمانة الدينية والصرامة الفكرية، بين التعددية داخل الهوية بين الانفتاح على الحوار والاستقرار، فيبقى مرتبطًا ارتباطًا نقديًّا متبصرًا بجماعته، ساعيًا إلى تغيير بعض المواقف وفق تفسيرات جديدة (كينغ ‭1998‬، ‭210‬)، ويؤكد على أن ”القدرة على الحوار هي في آخر الأمر فضيلة الاستعداد للسلام … هي فضيلة إنسانية في العمق؛ لأنها تعي تاريخ فشلها، ففي كل مرّة يتوقف الحوار تستعر الحرب“ (كينغ ‭1998‬، ‭213‬).‬‎

‮يتضح من منحى كينغ في معالجة موضوع الحوار ضرورة النقد الذاتي مع الحفاظ على الهوية الدينية، فهذا التوازن من شأنه أن يسهم في تكريس السلم، ولكننا نتساءل عن جدوى الحوار إذا كان كل محاور يجب عليه ألا يتخلى عن الإقرار بالحقيقة التي انطلق منها، فكان على كينغ توضيح الحدود الفاصلة بين المفهوم الجامد والمفهوم الديناميكي في ثنائية الحوار والاستقرار، وهو ما يطرح السؤال عن جدوى الحوار إن كان كل طرف سيبقى واقفًا عند حدود ما يحدد به هويته الدينية.‬‎

‮‮4.2‬‎‬‎ ‮موقع الحوار في مشروع طه‬‎

‮استند الحوار الائتماني على تحليل مسببات العنف، وأن الحوار هو الحل لمشكلة العنف، ”فليس عجبًا أن يهتم الفلاسفة بالعنف اهتمامهم بالعقل،“ ”ولمّا كان الحوار عبارة عن جملة من الأدلة، كان العنف ضدًّا له، وهو كذلك؛ فحيثما وُجد العنف فلا حوار، وحيثما وجد الحوار فلا عنف، والدليل هو خاصية العقل، فلا عقل إلا حيث يوجد الدليل؛ فيلزم أن العنف والعقل ضدان لا يجتمعان“ (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭9‬). ويربط طه بين ثلاثية: الحوار والعنف والأخلاق، قائلاً: ”عندما يُفقد الحوار وتُفقد الأخلاق في ذات الوقت، فلا مفر من مواجهة أبشع صور العنف“ (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭10‬).‬‎

‮وتبحث الائتمانية في إمكانية زوال أو نقصان التسلط من النفوس كي يتوقف مسلسل مآسي العنف التي تتوالى على الإنسانية، فقد أصبح المسلمون وقودها المسعِّر (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭11‬–‭12‬)؛ فهي تقوم على تصور عالم مثالي لا عنف فيه يمكن الاسترشاد بقيمه ومعانيه في تلطيف الواقع من خلال التوسل بمفاهيم ومعان ضاربة جذورها في روح الثقافة الإسلامية والتجربة الإنسانية، وقد أطلق عليها اسم ”العالم القابيلي“ نسبة إلى قابيل. أما العالم المثالي الخالي من العنف فقد أسماه ”العالم الهابيلي“ نسبة إلى هابيل (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭12‬).‬‎

‮يؤكد طه صلة المضمون الائتماني بالفكر المعاصر من خلال عدة مظاهر، أولها أن الفكر الائتماني فكر أخلاقي، ومفهوم ”الأخلاق“ فيه أوسع منه في الفلسفة الغربية المعاصرة التي تنظر إلى الأخلاق على أنها تتعلق بجزء من أفعال الإنسان، بينما هي في الفكر الائتماني شاملة لجميع الأفعال الإنسانية دون استثناء، فالائتمانية ترتقي بها إلى رتبة العنصر المحدد للماهية الإنسانية (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭33‬). وثانيها أن الفكر الائتماني يسلم بعالمية الإسلام، فقد تقرر فيه أن الأصل في الحقائق والقيم الإسلامية لا يتعلق بأمة بعينها؛ بقدر ما يتعلق بأمم الأرض كلها، ويجتهد الفكر الائتماني في إبراز الجوانب التي تشترك فيها البشرية جمعاء من الحقائق والقيم الإسلامية، ومن هنا يرد وجود العنف إلى الحدث الفاصل في تاريخ الإنسانية الذي أخبرت به الأديان السماوية، وهو ”قتل قابيل لأخيه هابيل؛“ فالعنف في النظر الائتماني هو من هذا القتل الأول، وبقدر التأمل في هذا القتل—واقعةً وكيفية وعاقبة—نقف على حقيقة العنف (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭34‬). وثالثها: أن الفكر الائتماني يسلم بخاتمية الإسلام، فكل الأديان تدعو لعقيدة واحدة هي ”إسلام الوجه لله،“ وباعتبار الإسلام الدين الخاتم، فما ”صح في اليهودية موجود في الإسلام بصورة أوضح؛ ومتى سلّمنا بأن خصوصية الإسلام هي خصوصية المثال الأعلى، لزم أن يكون إسلام الوجه لله متحققًا في الإسلام بأفضل مما هو متحقق في أي دين آخر أيضًا بحكم مثاليته“ (عبد الرحمن ‭2017‬ب، ‭77‬–‭79‬). يجتهد الفكر الائتماني في إبراز الجوانب الثابتة والراسخة التي تنطوي عليها الحقائق والقيم الإسلامية، وعلى هذا الأساس يكون التصدي للعنف باقيًا في الناس إلى نهاية الدهر؛ لأن الاجتماع الإنساني لا يستقيم إلا بدوام هذا التصدي (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭34‬–‭35‬).‬‎

‮نلحظ من المسلمات السابقة أن المشروع الأخلاقي الائتماني يقدّم نفسه كمشروع عالمي لا يصلح لحل مشكلات العنف في العالم الإسلامي فحسب، بل هو قادر على حل مشاكل العالم بحسب طبيعة دينه العالمية، لكن هل يعتقد الآخر المسيحي أو اليهودي أو حتى اللاديني أن الإسلام هو الديانة الخاتمة؟ كيف يمكن بناء الحوار الذي يشاركنا فيه طرف مغاير لذاتنا الإسلامية وفق مفاهيمنا وقناعاتنا الخاصة؟ لا يبدو أن طه مشغول بمدى تقبل الأديان الأخرى لخطابه بقدر ما هو مشغول بالتأسيس لخطاب فلسفي إسلامي تنافس الفلسفات الأخرى المطروحة في عقلانيتها وإثبات إمكان التأسيس فلسفيًّا لخطاب ديني عقلاني موازٍ.‬‎

‮يرى طه أن الأصل في الكلام الحوار، والأصل في الحوار الاختلاف (عبد الرحمن ‭2006‬، ‭27‬)، يقول: ”وإيماننا الراسخ بحق كل قوم في الاختلاف الفلسفي بدءًا منا نحن العرب الذين نعترف بهذا الحق لغيرنا، جعلنا نؤمن إيمانًا لا يقل رسوخًا بحاجة الأقوام جميعًا إلى دخولها في علاقات حوارية بعضها مع بعض؛ فالاختلاف يوجب الحوار، والحوار إنما هو تواصل السؤال“ (عبد الرحمن ‭2006‬، ‭22‬)، والحوار النقدي هو الحوار الاختلافي الذي يكون الغرض منه دفع الانتقادات التي يوردها أحد الجانبين المتحاورين على الرأي، أو قل: دعوى الآخر بأدلة معقولة ومقبولة عندهما معا (عبد الرحمن ‭2006‬، ‭33‬). ويقترح مصطلح العمل التعارفي في وصفه لعلاقة الأنا بالآخر، سواء داخل الأمة الواحدة أم بين الأمم المختلفة. يقول: ”ولما كان كتاب الأمة المسلمة يُطلق على العمل بقيم الخير اسم الإتيان بالمعروف […] جاز أن نسمي التعامل بين الأشخاص المختلفين وبين الأمم المختلفة على مقتضى قيم الخير باسم العمل التعارفي؛ إذ حقيقة التعارف هو أنه التعاون على المعروف وترك التعاون على المنكر“ (عبد الرحمن ‭2005‬، ‭21‬)، ويقسم الاختلاف إلى لين وصلب، ويثمن الاختلاف اللين ويعرفه بأنه يقع بين أمتين اختارتا في التعامل الفكري بينهما طريق التعارف، ولما كان التعارف تعاونًا على المعروف، والمعروف هنا أفكار تنفع الجانبين، ”وجب أن تبقى أسباب التواصل والتحاور بين الأمتين محفوظة؛ بحيث لا تدعي أية واحدة منهما أن مفاهيمها وأحكامها وقيمها تعلو على مفاهيم وأحكام وقيم الأمة الأخرى […] وهكذا ففي الاختلاف الفكري اللين، تلقي كل واحدة من الأمتين بفكرها إلى الأخرى بقدر ما تتلقى منها فكرها“ (عبد الرحمن ‭2005‬، ‭143‬–‭144‬)، أما الاختلاف الصلب فهو: ”الاختلاف الذي يقع بين أمتين اختارتا في التعامل الفكري بينهما طريق التعاون. ولما كان التعاون لا يمنع من إتيان المنكر، جاز أن تنتقل فيه الصلة الفكرية بين الأمتين المتعاونتين من رتبة التواصل الحقيقي—أي عمل فكري من جانبين—إلى رتبة التوصيل—أي عمل فكري من جانب واحد—؛ بحيث تلقي إحداهما بفكرها إلى الأخرى ولا تلتقي منها فكرها“ (عبد الرحمن ‭2005‬، ‭144‬).‬‎

‮ترتكز الرؤية الائتمانية على القيم الأخلاقية المشتركة كشرط لنجاح الحوار، فـ”لا يترجح ارتفاع العنف إلا إذا عمل كل واحد من المتحاورين على استخراج آرائه أو دعاويه من جملة الوقائع والقيم التي تُعد رصيدًا مشتركًا بينهما، ويكون التسليم بهذه الآراء على قدر قوة هذه الوقائع والقيم المشتركة“ (عبد الرحمن ‭2006‬، ‭39‬)، إضافة إلى تواصل الحوار بين الأطراف المختلفة فئات أو أفرادًا، والذي سيُفضي—مع مرور الزمن—إلى تقلص شقة الخلاف بينهم، كما أن الحوار يسهم في توسيع العقل وتعميق مداركه، فهو بمنزلة النظر من جانبين اثنين؛ مما يؤدي إلى توسيع مدارك العقل فتزداد سعة العقل وعمقه درجات كثيرة (عبد الرحمن ‭2011‬، ‭8‬)؛ فمتى دار الحوار على معرفة بقواعده وبصيرة بآدابه، أورث من اتساع الأفق وتقليب النظر ما لا يورثه حديث النفس (عبد الرحمن ‭2013‬، ‭11‬). ورغم أن طه يؤكد على أن الاختلاف اللين هو الذي يكون الحوار فيه بين أمتين بحيث تلقي كل أمة بفكرها للأخرى ولا تدعي أية أمة علو قيمها ومفاهيمها، إلا أننا نلاحظ أن الرؤية الحوارية الطهائية ستُبنى وفق النظرية الائتمانية، فهل سيكون للطرف الآخر مكان في المشروع الحواري لطه؟‬‎

‮يرى طه أن لأهمية الحوار اليوم جوانب عدة: آلية وداخلية وخارجية. فالأهمية الآلية تتجلى في كونه هبة إلهية للإنسان تمكنه من تطوير أساليب استدلالاته على الأشياء (عبد الرحمن ‭2013‬، ‭28‬–‭29‬)، والأهمية الداخلية تتجلى في أن الحوار الذي يدخله الإنسان مع الآخرين يزوده بفرص لتقوية الاستدلال وتنميته، فهو في جوهره ممارسة لمعرفة الذات نفسها، فحواري مع الآخرين هو حوار لمعرفة الذات. أما الأهمية الخارجية فتتجلى في أن محاورة أصحاب الأديان الأخرى بالقوة الاستدلالية الموجودة في النص الديني الإسلامي لا نجد نظيرها في النصوص الدينية (عبد الرحمن ‭2013‬، ‭20‬–‭35‬)؛ نظرًا لأهمية الحوار. ويقول: إنه من أوائل من نادى به في عصرنا هذا، فـ”لكل هذه الاعتبارات التي تجعل الحوار حياة العقل، كان اهتمامي به منذ أكثر من عقدين، وبادرت إلى تأليف كتاب في أصوله يوم أن كانت فئات المجتمع لا تتحاور ولو مع نفسها، فمضى كتابي كما لو لم يكن، وربما قد أتى الآن زمانه“ (عبد الرحمن ‭2011‬، ‭9‬)، ويعتقد النسق الائتماني أنه قادر على تقديم الحلول المختلفة للقضايا المعاصرة، وينطلق من إمكانية الاسهام في الحضارة الإنسانية الكونية من منطلق الأخلاق، ”وما دام الإسلام دينًا جاء للناس كافة، فإننا نستطيع أن نخدم ونُسهم في الحضارة الكونية من الزاوية الأخلاقية، فالقيم التي يحتضنها الإسلام قيم كونية يقبل بها البشر جميعًا؛ شريطة أن تُقدم وتُعرض على الآخرين بالطرق نفسها التي يعرضون بها هم قيمهم، وهي طرق استدلالية وحوارية، أي طرق تعتمد آليات الاستشكال الفلسفي والاستدلال المنطقي المعروف في مجال الفكر بصفة عامة“ (عبد الرحمن ‭2013‬، ‭63‬).‬‎

‮والممارسة الحوارية—عند طه—ليست مجرد صورة من صور الكلام، بل هي أصل في وجوده، فلولا حاجة الإنسان للحوار ما كان ثمة كلام؛ فلا حوار بغير اجتماع، ولا اجتماع بغير أخلاق، ولا أخلاق اجتماعية من دون الأخذ بمبدأ المسؤولية مما يستلزم كون الممارسة الحوارية كلامًا يجب تحمل مسؤوليته، وهذا ما يسميه ”حوار المواثَقَة“ (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭167‬). ويعرّف المساءلة بأنها الحوار الذي تتحدد فيه مسؤولية المحاور ودوره، سواء لبست لباس الجواب أو لباس الميثاق، ويفصل الموضوع من خلال الأصل الديني الذي تلقى فيه الإنسان سؤال الإله قبل أن يتلقى سؤال الإنسان، ويرجع إلى مصدرين أساسيين: المصدر التوراتي (سفر التكوين ‭4‬: ‭9‬–‭12‬)، والمصدر القرآني (سورة الأعراف، ‭172‬–‭173‬). وتتخذ المساءلة بناء على المصدر التوراتي صورة مخصوصة سماها ”المواجهة“ وهي عبارة عن مساءلة يُسأل فيها الإنسان عن أداء واجبه، وبناء على المصدر القرآني تتخذ المساءلة صورة أخرى يسميها فيلسوفنا ”المواثقة“ وتعني عاهد عهدًا في مخاطبة ما، وحدُّ المواثقة أنّها عبارة عن المساءلة التي يُسأل فيها الإنسان عن الميثاق الذي أُخذ منه، وقد اختصت مسؤولية المواثق باسم يُميزها عن مسؤولية المُواجه، وهو ”الأمانة“، فالأمانة عبارة عن المسؤولية التي تشغل ذمة المواثق (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭168‬–‭169‬)، وعلى الجملة، فإن المواجهة حوار يغيّب المسؤولية، بينما المواثقة حوار يُشهد المسؤولية أو قل: المواجهة مساءلة تغييبية، والتغييب هو إضافة الكمالات التي يختص بها الإله إلى الإنسان، وهو اسم مشتق من الغياب، بمعنى أن الإنسان يترفع إلى الألوهية في عالم الغيب (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭169‬–‭170‬)، والمواثقة مساءلة تشهيدية، والتشهيد هو ممارسة تذكّرية مضادة للتغييب، إذ تقوم بنقل ما بُث في فطرة الإنسان من المعاني الروحية إلى أعمال بارزة للعيان، باعتبار هذه المعاني منزلة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭173‬).‬‎

‮وانطلاقا من أديان الحوار (الحوار في النصوص الدينية) يصل إلى حوار الأديان، فقد بيّن كيف يتم تغييب المسؤولية في المواجهة وكيف يتم تشهيدها في المواثقة من خلال عرض نظرية في حوار المواجهة اشتهر بها الفيلسوف الفرنسي ذو الأصل اللتواني ”إيمانويل ليفيناس،“ ويمضي بناء على هذه إلى بيان أركان المواثقة التي هي أربعة: ركن الميثاق، وركن الأمانة، وركن الشهادة، وركن المخالقة.‬‎

‮فركن الميثاق يُحيل إلى الإشهاد الذي أخذه الله من البشر وهم في عالم الغيب، حيث كشف لهم فيه كيفية الإيمان به ممهدًا لهم أسباب العروج إليه، فالمُواثق وهو يحاور نظيره يهتدي بهذا الميثاق، ويستذكر كيف أن خالقه يواثقه على ما هداه إليه من الإيمان (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭195‬).‬‎

‮ويتمثل ركن الأمانة في أن العلاقة الحوارية بين المتواثقين هي علاقة اختيارية من الجانبين مهما اختلفت الرتبة، وعلاقة إيداعية غير امتلاكية فالمواثق مشغول بحفظ الأمانة الموكلة إليه، ولهذا كان الأصل في الأشياء الإيداع لا الامتلاك، وهي أيضًا علاقة روحية بقدر ما هي عقلية. أما ركن الشهادة فيتمثل في أن حوار المواثقة وإن كان في الظاهر مجالسة بين المواثق ونظيره، فإنه في الباطن مجالسة بينه وبين ربه، فالمواثق وهو يحاور نظيره يُقدّر أنه يواثق ربه بقدر ما يواثق نظيره، مزاوجًا بين الاسراء بعقله والعروج بروحه (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭201‬)، وتتخذ العلاقة الحوارية بين المتواثقين أربع خصائص: فهي علاقة بصرية بقدر ما هي علاقة قولية، وعلاقة بصيرة بقدر ما هي علاقة بَصر، وعلاقة شهادة بقدر ما هي علاقة مشاهدة، وعلاقة يدخل فيها نظر الشاهد الأعلى. أما ركن المخالقة فيتجلى في أن الحوار يتأسس على الأسماء الحسنى ومن ثم فهو يختص بأربع خصائص، فهو تعاون على التخلق، وعلى المسؤولية، وعلى التجميل، وعلى الرحمة (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭204‬–‭210‬).‬‎

‮والمواثقة التي تقوم على هذه الأركان الأربعة، تختص ببعدين متلازمين ومتداخلين هما: الامتداد والارتفاع. فالامتداد يتمثل في أن حوار المتواثقين يتعلق بشؤون هذا العالم المادية والمعنوية وكيفية تدبيرها بحيث نقول: إن الامتداد في هذا العالم هو مجال إسراء المتواثقين. أما الارتفاع فيتمثل في أن سير الحوار يتطلب التوجيه والتقويم تَطَلب الإسراء للهداية، فيكون بذلك عروج المتواثقين كي يتأتى لهما أن يُشرفا من عَل على مدارات حوارهما، فيسددانها وفق قيم ومعان تسمو عليها. فالمواثقة حوار امتداد وارتفاع، يزاوج بين النظر في الملكوت (أو النظر الملكوتي) وبين النظر في المُلك (أو النظر المُلكي). فيجب إذن أن يتأسس في كل ركن من أركان المواثقة بُعدان: امتدادي (أو مُلكي) وبعد ارتفاعي (أو ملكوتي)، فالأول يتحقق به إسراء المُواثق ويجب أن يتأسس على الثاني الذي به يتحقق عروجه (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭193‬–‭194‬).‬‎

‮وتتحدد العلاقة الحوارية بين المتواثقين بعدة خصائص ميثاقية، فهي أولاً تتسع لكل الرتب؛ إذ لا يُشترط أن يكون المتواثقان من رتبة واحدة، ولا أن يكونا من رتبتين مختلفتين غير متناظرتين حتى يتسنى للمواثق التنزل الذي هو النزول من الرتبة التي فيها إلى رتبة دونها؛ إكرامًا لمواثقه أو تقربًا منه وتخلّقًا من لدنه مع الاحتفاظ برتبته الأصلية، وهي ثانيًا تتسع لكل الكائنات، فلا يشترط أن يكون المتواثقان من جنس واحد كما لا يُشترط أن يكونا من الجنس البشري، ولا أن تكون العلاقة مباشرة، ومثال ذلك أن يواثق إحد الطرفين الآخر على حفظ الذرية أو حفظ البيئة أو حفظ الأرض أو حفظ المناخ أو حفظ الطبيعة؛ باعتباره ممثلاً للذرية أو المناخ أو البيئة التي هي المواثق الأصلي. وهي ثالثًا تشهد تبادل الثقة بين المتواثقين، فكل واحد من الطرفين يثق بكلام الآخر، وينقل الثقة إلى شخصه رادًّا إليها ثقته بكلامه، فلا ميثاق بغير ثقة، فعلاقة المُواثق بصاحبه تتعدّى نطاق التعامل بالعدل إلى نطاق التعامل بالإحسان (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭196‬–‭197‬).‬‎

‮يستند الحوار عند طه إذن على أخلاق الأمانة التي تجعل المحاور مسؤولاً عن كل حرف أو كلمة أو فعل يقوم به؛ فهو مسؤول عن تبليغ الآخر محتوى المواثقة؛ فمسؤولية المحاور تفرض عليه فضاء من القيم. ففضاء الحوار في الإسلام فضاء رحموتي قادر على تفكيك مسببات العنف والبحث عن المشتركات الحياتية والقيمية لحياة يسودها السلم والأمان.‬‎

‮أسس طه نظرية إسلامية فلسفية للحوار تبني على مسلمات إسلامية، لا تنشغل بالآخر غير المسلم ويبدو أن ثمة محاولة احتواء للآخر في الأنا؛ رغم أنه موجود ويعلن عن ذاته وتفوقه الحضاري، لهذا نرى أن النظر الائتماني بحاجة إلى إحضار الآخر في محاولته صياغة أطر حوارية فاعلة.‬‎

‮من خلال معالجة كل من كينغ وطه لموضوع الحوار، يبدو أن كليهما انطلق من خلفيته العقدية في بناء التصورات والأطر الضابطة للحوار، فكينغ في معالجته لإشكالية احتكار الحقيقة تكلم عن الاستقرار العقدي وعاد إلى المصادر الإنجيلية والتقليد الكنسي، ووضع تصوره لمفهوم الاستقرار مهملاً بذلك مفهوم المصطلح لدى الدوائر المشاركة في الحوار. وإذا كان تأثر كينغ بالمرجعية الدينية على مستوى البناء المفهومي فإن تأثر طه أعمق وأكثر شمولاً؛ فمشروعه قائم على مسلمات دينية وقرآنية، وأطّر الحوار بالرؤية الإسلامية الخالصة، ونرى أن النظرية الحوارية الائتمانية لا تصلح إلا في الدوائر الحوارية الإسلامية.‬‎

‮خاتمة‬‎

‮من خلال هذه المقاربة المفهومية والفكرية لمشروع الأخلاق العالمية والائتمانية، نلحظ العودة القوية لسؤال الأخلاق في عالم تسوده القيم النفعية التي أعطت للعقل سلطان التشريع اللامحدود بلا ضوابط تحفظ للإنسان إنسانيته، ويبدو أن ثمة اتفاقًا بين كينغ وطه في المنطلقات والدوافع لإقامة مشروعيهما الأخلاقيين؛ فقد انتقدا الهزة القيمية التي أحدثتها العولمة، وتحديدًا في علاقة الأخلاق بالدين، فتناول كل منهما موضوع العلمانية باعتبارها واقعًا يحاصر المنظومات القيمية المختلفة، وشدد كلاهما على خطورة القيم المادية النفعية السائدة، وأكدا على ضرورة الدين مصدرًا للقيم، واقترحا مشروعًا لإعادة الاعتبار لعلاقة الأخلاق بالدين. فكينغ يرى أنه بوسع الديانات أن تعمل في العالم بفاعلية من أجل السلام والعدالة الاجتماعية واللاعنف والمحبة، ويرى ضرورة وضع شرائع أخلاقية هادية تكون وقائية لا تنحصر في الإنتاج الصناعي فحسب، بل أيضًا في الاختبار والتفكير العلمي، ويرى طه أن العلمانية توسلت في إقامة مشروعها الدنيوي ”آلية تفريغ المجموع“ أو ”فصل المتصل،“ وعطلت بذلك قانون الدين في مختلف المجالات الحيوية، وسمى عمل الحداثة في انتزاع قطاعات الحياة من الدين باسم ”الدُّنيانية“ حيث فصلت الأخلاق عن الدين، لهذا وضع في مقاربته النقدية للحداثة ”النقد الائتماني؛“ فالدافع لإقامة مشروع أخلاقي عالمي لدى كل من كينغ وطه هو الموقف النقدي من قيم الحداثة.‬‎

‮ركز مشروع الأخلاق العالمية على الجوامع المشتركة بين جميع الأديان منطلقًا من الاعتراف بوجود وكينونة وخصوصية الأديان المختلفة، مفرقًا بين مصدر الديانة وتطورها التاريخي دون إلغاء ولا إقصاء لها، باعتبار أخلاقها جميعًا تصب في معين واحد. أما النسق الائتمانية فانطلق من عالمية وخاتمية الدين الإسلامي، واعتباره الصورة المثالية للكمال الأخلاقي، وعلى هذا الأساس يمكن تقديمه عن طريق الاقناع والحجة والاستدلال كبديل أخلاقي يمكنه أن يخرج العالم من أزماته المعاصرة. وتنطلق رؤية طه من الذات الإسلامية باعتبارها النموذج الأمثل، وهذا النموذج، وإن كان مقنعًا في الحقل التداولي الإسلامي، لا يمكن قبوله بسهولة لدى الآخر الذي ينظر—بدوره—لأناه بمثالية ونموذجية، فالآخر شئنا أم أبينا حاضر في التاريخ والواقع.‬‎

‮وإن كان مشروع الأخلاق العالمية قد وجد دعمًا كبيرًا من الدوائر الكنسية والعلمية المختلفة بغض النظر عن المواقف الفكرية منه، فإن مشروع الائتمانية لم يلق بعد الاهتمام المطلوب، وظل مشروعًا فرديًّا.‬‎

‮ركز مشروع الأخلاق العالمية على الجوانب العملية التي يمكن الانطلاق منها لنبذ العنف وإقامة الحوار، بينما اصطبغ مشروع الائتمانية بالبعد الروحي الوجداني، فقد أسس على لحظة غيبية ”الإشهاد،“ واكتسب طابع الكونية انطلاقًا من خاتمية الإسلام ”إسلام الوجه لله،“ مما يجعلنا نتساءل هل يمكن الرهان على الذاكرة الفطرية داخل كل إنسان لإقناعه بمشروع طه وعالميته؟‬‎

‮هناك الكثير من المشتركات بين المشروعين؛ فكلاهما يؤمن بأن الرؤى والنظريات الغربية التي أنتجها عصر الأنوار غير قادرة على حل مشاكل العالم المعاصر، وقد اشتركا في نقد الحداثة ومنتجها الفكري؛ فكلاهما انطلق من العنف بحثًا عن سبل تجعل الإنسانية تقف على أرض السلم المشتركة، وكلاهما يستولد المصطلحات من رحم حقله التداولي، وكلاهما يتمتع بجانب روحاني انعكس على مشروعه، ولكنه عند طه أوضح، والصناعة الاصطلاحية لديه أغزر.‬‎

‮الحوار عند كينغ ليس بحثاً عن الحقيقة، بل استقرار على الحقيقة؛ ومحاولة البحث عن المشتركات الأخلاقية التي تسهم في إذابة جليد العنف والحرب، لهذا ركّز على النقد الذاتي الذي هو انفتاح على الآخر واستقرار في الآن نفسه. أما عند طه فالحوار تحمل للمسؤولية بمقتضى الميثاق الذي عُقد بين الإنسان وربه، فالمحاور يؤمن بالبعد التعارفي الذي يجعله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فحواره لين مسؤول، فالمحاور لدى كل من كينغ وطه لا بد أن يكون نموذجًا خلقيًّا يصدّر الأخلاق مسهمًا في العيش السلمي بينه وبين الآخر.‬‎

1

‮ولد بـ ‭Luzern‬ في سويسرا عام ‭1928‬م، وتعلم في جامعات روما الكاثوليكية. درس علوم الفلسفة واللاهوت في جامعة الجريجوريانا التابعة للآباء اليسوعيون، كما درس في جامعة السوربون المعهد الكاثوليكي في باريس، حصل على دكتوراه في اللاهوت سنة ‭1957‬م وقد رسّم أستاذا لعلوم اللاهوت والعقيدة سنة ‭1960‬م في الجامعة الكاثوليكية ‭Karl Eberhard‬ في توبنجين ‭Tübingen‬، كما قام بإدارة معهد الأبحاث الدينية ودعي للتدريس بصفة أستاذ ضيف في عدة جامعات أميركية وسويسرية (‭Castel 2010, 34; Mandouze 2007, 281‬).‬‎

‮المصادر والمراجع‬‎

  • ‮أرحيلة، عباس أحمد. ‭2016‬. بين الائتمانية والدهرانية بين طه عبد الرحمن وعبد الله العروي. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع.‬‎

  • ‮آيت أمجوص، عبد الحليم. ‭2012‬. حوار الأديان نشأته وأصوله وتطوره. الرباط: دار الأمان.‬‎

  • ‮السمّاك، محمد. ‭1998‬. مقدمة إلى الحوار الإسلامي المسيحي. بيروت: دار النفائس.‬‎

  • ‮شكيرب، آسيا. ‭2013‬. ”التعددية الدينية والأخلاق العالمية قراءة في أطرحات اللاهوت المسيحي المعاصر جون هيك وهانس كينج نموذجا.“ مجلة المعيار ‭34‬: ‭265‬–‭287‬.‬‎

  • ‮العايب، حيدر. ‭2017‬. ”النظرية الأخلاقية عند طه عبد الرحمن.“ مجلة العلوم الاجتماعية.جامعة فرحات عباس سطيف.كلية الآداب والعلوم الاجتماعية ‭25‬: ‭185‬–‭198‬.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2000‬. سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2005‬. الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2006‬. الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2008‬. الأخلاق العالمية مداها وحدودها. أبو ظبي: مؤسسة طابا.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2011‬. حوارات من أجل المستقبل. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2012‬. سؤال العمل بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2012‬ب. روح الدين من ضيق العَلمانية إلى سَعَة الائتمانية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2013‬. الحوار أفقا للفكر. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2014‬. بؤس الدهرانية النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2015‬. سؤال المنهج في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2017‬. سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والابداع.‬‎

  • ‮عبد الرحمن، طه. ‭2017‬ب. دين الحياء من الفقه الائتماري إلى الفقه الائتماني—أصول النظر الائتماني. بيروت: المؤسسة العربية للفكر والابداع.‬‎

  • ‮عجك، بسام‭.‬ ‭1998‬. الحوار الإسلامي المسيحي. دمشق: دار قتيبة.‬‎

  • ‮الفيروز أبادي، مجد الدين محمد. ‭1998‬. القاموس المحيط. بيروت: مؤسسة الرسالة.‬‎

  • ‮كينغ، هانس. ‭2015‬. لماذا مقاييس عالمية للأخلاق؟ الدين والأخلاق في عصر العولمة. ترجمة ثابت عيد. القاهرة: المركز القومي للترجمة.‬‎

  • ‮كينغ، هانس. ‭1998‬. مشروع أخلاقي عالمي، دور الديانات في السلام العالمي. عربه عن الألمانية جوزيف معلوف. لبنان: المكتبة البولسية.‬‎

  • ‮مخشان، خالد. ‭2014‬. ”المبادئ الأولى للفلسفة الائتمانية عند طه عبد الرحمن.“ الحوار المتمدن، استرجع ‭04‬ نوفمبر ‭2018‬، الرابط: ‭www.m.ahewar.org/s.asp?aid=439399&r=0‬‬‎

  • ‮مصطفى، إبراهيم وحامد حسن الزيات وحامد عبد القادر ومحمد علي النجار. ‭1960‬. المعجم الوسيط‭.‬ القاهرة: مجمع اللغة العربية‭.‬‬‎

  • Castel, Jean-Pierre. 2010. Le déni de la violence monothéiste. Paris: Éditions L’ Harmattan.

  • Causse, Jean-Daniel et Denis Muller. 2009. Introduction à l’ éthique: penser, croire, agir. Genève: Labor et Fides.

  • Comeau, Geneviève. 2008. Le dialogue interreligieux. Namur: Fidélité.

  • Ganesh, Shiv and Prue Holmes. 2011. “Positioning Intercultural Dialogue: Theories, Pragmatics, and an Agenda.” Journal of International and Intercultural Communication 4 (2): 81–86.

  • Küng, Hans. 1971. Infillible? Une interpellation. Paris: Descellée de Brouwer.

  • Mandouze, André. 2007. Un chrétien dans son siècle. Paris: Karthala Editions.

  • Müller, Denis. 2012. La théologie et l’ éthique dans l’ espace public. Münster: LIT Verlag.

  • Naud, Andre. 2002. Les dogmes et le respect de l’ intelligence: plaidoyer inspiré par Simone Weil. Québec: Les Éditions Fides.

  • Robert, Jean-Pierre. 2008. Dictionnaire pratique de didactique du FLE. Paris: Éditions Ophrys.

  • Togarasei, Lovemore. 2015. “Paul and Interreligious Dialogue—Insights for mission in Africa.” Missioalia 43 (2): 153–165.

  • Wandusim, Michael Fuseini. 2015. “Interfaith Dialogue and Christian Witness—Exploring the Chalenges and Tensions Involved From a Ghanain Perspective.” Journal of Advocacy, Research and Education 3 (2): 166–172.

  • Collapse
  • Expand

Islamic Ethics and the Trusteeship Paradigm: Taha Abderrahmane’s Philosophy in Comparative Perspectives

الأخلاق الإسلامية ونسق الائتمانية: مقاربات في فلسفة طه عبد الرحمن

Series:  Studies in Islamic Ethics, Volume: 3

Metrics

All Time Past 365 days Past 30 Days
Abstract Views 0 0 0
Full Text Views 1718 249 22
PDF Views & Downloads 1328 166 11