1 تمهيد
لقد كان الألم ولا يزال توأم الإنسان وقرينه؛ فإنّ الإنسان يُولَد في العناء ويعيش في العناء وسيموت في العناء. ولذلك فقد شغلت فكرة الألم والمعاناة أذهان البشر دائمًا. ورغم أنّ الألم هو ظاهرة عامّة تشمل جميع أفراد النوع الإنساني إلا أنّه قد يكون أحيانًا أكثر قوةً وتأثيرًا في بعضهم، وبالتالي تحتاج مواجهته إلى تفكير وتركيز أكثر. وخير نموذج لهذه الفئة من الناس هم المرضى المشرفون على الموت أو الذين يعانون من مرض عضال لا يرجى تماثلهم للشفاء منه؛ حيث إنّهم لا يكابدون أصعب الآلام الجسدية فقط، بل يعيشون أيضًا في أغلب الأحوال حالة من الخوف تجاه معنى الحياة أو مصيرهم في المستقبل، وهي بدورها تزيد من معاناتهم وتُضاعف آلامهم في نهاية الحياة. بالإضافة إلى ذلك، قد تساور المريض شكوك بشأن معتقداته الدينية، ويتساءل عما إذا كان الله محقًّا وعادلًا وحكيمًا في إنزال البلاء عليه؟! الأمر الذي قد يؤدّي إلى سلب إيمانه أو إضعافه قُبيل وفاته. لذا ومن منطلق المسؤولية الإنسانية والإسلامية يقع على عاتقنا مساعدة هؤلاء لكي يواجهوا الحياة بقلوب مؤمنة ووجوه باسمة.
ولا شك أنّ الدين الإسلامي الحنيف يزخر بكثير من المعاني العميقة والصافية عن فلسفة الألم والعناء وما يعتري الإنسان من المحن والابتلاءات، كما أنّه يطفح بالمفاهيم الأخلاقية عن كيفية العلاقة بين الإنسان وربّه من الصبر والشكر والرضى والتسليم وما إلى ذلك، وهذا من شأنه أن يمكّن الإنسان من مواجهة المحن ويساعده في إضفاء المعنى على حياته والمحافظة على استقراره والتغلب على تقلباته النفسية والروحية، ويمهّد الأرضية اللازمة للوصول إلى تأصيل إسلامي للرعاية الروحية في رعاية نهاية الحياة، بل وفي الرعاية التلطيفية بشكل عامّ أيضًا. ولكن استنباط هذه المعاني لا يتسنّى إلا بإعمال الاجتهاد والنظر، وهذا ما قام به فعلًا علماء الإسلام من الفقهاء والمحدّثين والفلاسفة والعرفاء والمتكلمين، فنهلوا من معين الإسلام واغترفوا منه علومًا فياضة متنوعة، إلا أنّه لا غرو إذا ما ادعينا بأنّه ليس شيء من هذه الجهود يُطَمئن القلب، ويُريح النفس، ويشرح الصدر، ويُقنع العقل، مثلما يفعل الأدب الصوفي حيث يلتقي هناك الفقه والحديث والفلسفة والعرفان والكلام، فيمتزج بالفنّ والأدب، ويكتسي صورة عذبة بديعة تؤثّر في الإنسان تأثيرًا بالغًا، وتمنحه القابلية للتحرّر من الجمود وامتلاك القدرة على الانطلاق نحو اللانهاية.
إنّ الفكرة المركزية لهذا البحث هي أنّ الأدب الصوفي يحظى بقوّة أكثر مقارنةً بغيره من المناهج الفلسفية والكلامية والنفسية في تكييف الإنسان مع حالات الألم والمعاناة. ودليلنا على ذلك هو أنّ الألم، بمثابة موقف حدّي (boundary situation) للإنسان، يشاركه في أعمق مراتب وجوده ويتحوّل إلى قضية وجودية بالنسبة إليه. وعندئذٍ فلم يَعُد الألم وما يُفرزه من الأسئلة والحالات نابعًا عن عقلية المريض، بل الصواب أنّه نتيجة طبيعية للواقع العاطفي الذي يعيشه. وهنا يظهر الدور البارز للأدب في معالجة القضية حيث يمكن له من خلال ما يقدّمه من صور الخيال والإبداع الأدبي أن يؤثّر في مشاعر المريض، ويعدّل الصورة المركوزة في ذهنه عن الكون، ويساعده في السيطرة على سلوكه.
ومن الواضح أنّ تناول الأدب الصوفي على شموله ورحابته هو أمر لا يسعه هذا البحث. وبناءً عليه، فقد قرّرنا أن نقتصر في دراستنا على شخصية جلال الدين الرومي (ت. 672/1273)، مسلّطين الضوء على بعض آرائه عن الألم وفلسفته، ونقف على شطر من عطاءاته الفكرية والروحية التي يمكن أن نستفيد منها في واقعنا المعاش. ولقد انطلقنا في هذا الاختيار من مبرّرات عدّة؛ الأول هو أنّ الرومي يعتبر من الشخصيات القليلة عبر التاريخ التي تمكنت من اجتياز حاجز اللغة والثقافة والدين، ليذيع صيته في جميع أرجاء العالم. وهذا يدلّ على أنّ كلماته تنطبق بنفس القدر على عالمنا اليوم مثلما كانت في القرن السابع الهجري. والثاني أنّ جلال الدين الرومي يتميّز عن غيره من الأدباء الصوفيين ببراعته المنقطعة النظير في صبّ بنات أفكاره ومواجده في القوالب الأدبية. وذلك قد جعل منه شخصية فريدة فذة في الأدب الصوفي. والثالث أنّ مشكلة الألم والمعاناة كانت لأسباب تاريخية – وفي رأسها اجتياح المغول للبلاد الإسلامية وما خلّف من القتل والدمار والخراب – محطّ نظر عامّة الناس في عصر جلال الدين، وقد عكس الرومي ذلك في مؤلفاته أيضًا، ودرسه بعناية فائقة، وقدّم لنا منظورًا فريدًا عن الكون يمكننا أن نستلهم منه معاني الحياة. والأخير أنّ منهج الرومي في التعاطي مع قضايا الإنسان يكون قائمًا على استخدام الأمثال والتشبيهات والقصص والحكايات، وبذلك يعرض أعمق المفاهيم العرفانية في أبسط الأشكال الأدبية، فتكون قابلةً للفهم لدى الناس عامةً.
2 لمحة عن الأدب الصوفي
الأدب الصوفي هو أدب المتصوّفة الذين كتبوه ودوّنوه وخلّدوه في آثارهم، شعرًا ونثرًا، حكمةً، ونصيحةً، وموعظةً، ومثلًا، وعبرةً. وقد تناول الصوفيون في أدبهم الكثير من دقائق الحكمة والتجربة والفكر والمعاني والأخيلة وأعمق مشاعر الإنسان، وحفل أدبهم بروائع المناجاة والحبّ الإلهي (خفاجي د.ت.، 66). يُقصد بالتصوف في الاصطلاح تلك التجربة الروحانية الوجدانية التي يعيشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهية والذات الربانية من أجل اللقاء بها وصالًا وعشقًا. ويمكن تعريفه كذلك بأنه تحلية وتخلية وتجلٍّ؛ كما يمكن القول أيضًا بأن التصوف هو محبة الله والفناء فيه والاتحاد به كشفًا وتجليًا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانية والتمتع بالحضرة القدسية (أمين 2013، 173).
ولقد شهد الأدب الصوفي في الجغرافيا الإسلامية مراحل مختلفة اتسمت في بعضها بالازدهار، وفي الأخرى بالتوقف والتراجع، وأحيانًا بالجمود والانحطاط. وقد يصعب رسم معالم عصور واضحة للأدب الصوفي، إلا أنّ المعروف هو أنّ الأدب الصوفي القديم مرّ بثلاث مراحل، أولاها من فجر الإسلام إلى أواسط القرن الثاني الهجري، وكل ما بين أيدينا منها هو طائفة كبيرة من الحكم والمواعظ الدينية والأخلاق تحثّ على كثير من الفضائل، وتدعو إلى التسليم بأحكام الله ومقاديره، وإلى الزهد والتقشّف وكثرة العبادة والورع، والثانية تمتدّ إلى أواخر القرن الرابع، وتتّسم بظهور آثار التلاقح بين الجنس العربي والأجناس الأخرى واتساع أفق التفكير اللاهوتي، والأخيرة تستمرّ إلى أواسط القرن الثامن الهجري، وهي العصر الذهبي في الأدب الصوفي (أمين 2013، 769). وأما بعد ذلك فيمكن القول بأنّ الأدب الصوفي بدأ مرحلة الفتور والتدهور.
إنّ الموضوعات التي طرقها الأدب الصوفي غنيّة ومتنوّعة مثل التجربة الصوفية نفسها، فالصوفي بين صحو وسكر، ومدّ وجزر، وطيّ ونشر، ونشوة وهجر، والأدب الصوفي هو الترجمان المعبّر عن مواجد الصوفيين في أحوالهم التي تعتريهم ويتقلّبون فيها نتيجةً للمجاهدات التي يزاولونها، والتي من شأنها أن ترقّق مشاعرهم نحوها، وترهف أحاسيسهم (محمد د.ت.، 57). وأمّا بالنسبة إلى الأغراض التي يحملها الأدب الصوفي فيمكن اختزالها في ثلاثة محاور رئيسة وهي:
1. الدعوة إلى الزهد والتقشف والتعبير عن التبرّم من الحياة الدنيا.
2. تحديد معالم الطريق إلى الله وما يتقلب فيه الصوفي من مقاماتٍ وأحوالٍ.
3. بيان الرؤية الصوفية بما فيها الحب الإلهي والسُكر الصوفي والمعرفة والفناء والشهود وما إلى ذلك (العوادي د.ت.،157–222).
وإذا كان للأدب العربي دور ريادي في نشأة الأدب الصوفي وازدهاره بفضل أدبائه المبدعين مثل ابن الفارض (ت. 632/1235) والجنيد (ت. 297/910) ورابعة العدوية (ت. 184 أو 185/801) وذي النون المصري (ت. 245/859) وعبد القادر الجيلاني (ت. 544/1166) وغيرهم، إلا أنّه فيما بعد أبدى الأدب الفارسي اهتمامًا كبيرًا بفكر الصوفية وتجاربهم، وظهر عباقرة الشعر الفارسي نظير الحكيم السنائي (ت. 545/1150) وفريد الدين العطار (ت. 618/1221) وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي (ت. 792/1390) وعبد الرحمن الجامي (ت. 898/1492) ومحمود الشبستري (ت. 720/1339) وغيرهم. وفي هذا السياق يقول عبد الوهاب عزام: “فبلغوا في هذه السبيل غايةً لم يدركها شعراء أمة أخرى، فأخرجوا المعاني الظاهرة والخفية والدقيقة في صور شتّى معجبة مطربة وقد فُتح عليهم في هذا فتحًا عظيمًا، فكان شعرهم فيضًا تضيق به الأبيات والقوافي حتى ليمسك القارئ أحيانًا حائرًا كيف تجلّت لهم هذه المعاني، وكيف استطاعوا أن يشقّقوا المعنى الواحد إلى معانٍ شتّى” (عزام 2013، 38–37).
3 من هو جلال الدين الرومي؟
وُلد الشاعر جلال الدين محمد في مدينة بلخ في السادس من ربيع الأول سنة 604 للهجرة (7 أكتوبر 1207م) (براون 1954، 654)، واشتهر وعُرف في الأوساط العلمية بمولانا جلال الدين الرومي أو المولى الرومي نسبة إلى بلاد الروم؛ حيث قضى الشطر الأكبر من حياته الحافلة بالخصب والإنتاج (غالب 1982، 12). وقد كان أبوه محمد بن الحسين بهاء الدين ولد، الملقّب بـسلطان العلماء، متكلمًا إلهيًا مشهورًا وصوفيًا منتميًا إلى مدرسة الغزّالي (شيمل 2016، 52).
وقد كان عصر الرومي من أقسى ما مرّ على البشرية من عصور؛ حيث تزامن مع الغزو المغولي، الأمر الذي أدّى –إلى جانب بعض العوامل الداخلية الأخرى– أن ترحل أسرة جلال الدين بعيدًا عن الدمار والخراب والقتل الذي لحق بالبلاد وأهلها. بدأت الرحلة سنة 617/1220 وكانت المحطة الأولى في نيسابور، حيث التقت الأسرة بالشاعر الصوفي فريد الدين العطّار الذي أدرك قابليات جلال الدين وقدراته، فأهداه نسخة من كتابه «أسرار نامه»، وقال عنه: “إنّه سيؤجّج النار في قلوب العشّاق الصوفيين.” ولدى مرورهم بالعراق نزلوا في بغداد، والتقوا الصوفي الكبير شهاب الدين السهروردي صاحب كتاب «عوارف المعارف»، وحين حطّ بهم الرحال في مدينة دمشق التقوا شيخ الصوفية وفيلسوفها محي الدين ابن عربي الذي ما إن رأى جلال الدين يسير خلف والده حتى قال: “سبحان الله، محيط يمشي خلف بحيرة” (محمد 2010، 178–179). وفي السنوات التي أعقبت سنة 617هـ وصل بهاء الدين ولد وأسرته إلى أواسط الأناضول، وبعد مكوث في مدينة لارَندَه طال عدة سنوات، تلقّى بهاء الدين دعوة من السلطان السلجوقي الذي جمع حوله العلماء والصوفية من كلّ مكان في العالم للإقامة في قونية، ولبّى بالفعل هذه الدعوة، واستقرّ فيها حوالي سنة 627/1230، وبدأ بفعّاليات وعظه وتعليمه، وبعد سنتين فقط توفّي وعُيّن ابنه جلال الدين خليفة له (شيمل 2016، 55–56).
بعد مضيّ عام على وفاة بهاء ولد، قدم إلى قونية برهان الدين محقق الترمذي لرؤية شيخه وأستاذه بهاء الدين، ولكنّه وجده قد توفّي وخلفه ابنه جلال الدين في التدريس والفتوى بالمدينة (حسن د.ت.، 35). كان وصول برهان الدين إلى قونية حدثًا جللًا بالنسبة إلى جلال الدين الرومي، والذي كان في الخامسة والعشرين من عمره حينذاك؛ حيث أشرف على تربيته وتوجيهه، وعرّفه على أعمق درجات الفكر الصوفي والخبرة الصوفية، والذي كان سببًا رئيسًا في نضج جلال الدين الرومي روحانيًّا (شيمل 2006، 352).
وفي سنة 1233/630اتجه إلى حلب، وأقام هناك في المدرسة الحلاوية –التي كانت تعدّ من أهم مراكز العلم المعروفة في حلب-، واشتغل بالتحصيل. لقد تتلمذ جلال الدين الرومي في هذه المدرسة على يد كمال الدين أبي القاسم عمرو بن أحمد المعروف بابن العديم (ت. 660/1262) في الفقه الحنفي وسائر العلوم الدينية. وبعد سنوات عديدة انتقل إلى المدرسة المقدسية في دمشق، وأقام فيها أربع سنوات. وقد التقى فيها بالشيخ محي الدين ابن عربي (ت. 638/1240) كما التقى بكلّ من سعد الدين الحموي (ت. 649/1251) وأوحد الدين الكرماني (ت. 635/1238) وصدر الدين القونوي (ت. 672/1274) الذين تركوا أثرًا كبيرًا في تفكير جلال الدين الرومي، ثمّ عاد الرومي فيما بعد إلى قونية تلبيةً لدعوة مريدي والده فاشتغل بالوعظ والإرشاد (محمد 2010، 179).
أما سنة 642هـ، فقد كانت علامة فاصلة في حياة جلال الدين، حيث التقى بشمس الدين التبريزي (ت. 645/1248)، وقد غيّر هذا اللقاء حياة شاعرنا إلى حدّ يعبّرون عنه بالانقلاب في حياة مولانا (رفعت جو 2008، 55). ويذكر عطاء الدين تديّن أنّ الشمس قد همس إلى مولانا في لقائهم الأول قائلًا: “جئت إلى هنا من جهة مرشدي وشيخي، ركن الدين السّجاسيّ (ت. القرن السابع/ القرن الثالث عشر)، وقد قال لي اذهب إلى قونية ففيها محترقٌ لا بد من إضرام النار في طينته” (تدين 2015، 101). لقد كانت آراء شمس المتفرّدة وغير المألوفة سببًا في انجذاب جلال الدين الرومي إليه، كانجذاب العطشان إلى الماء. وقد عبّر جلال الدين عن ذلك بقوله: “إذا كان العطاش ينشدون الماء، فإنّ الماء أيضًا ينشد العطاش في العالم.” هذه الكلمات تختصر فلسفة العشق والشوق في فكر جلال الدين الرومي (محمد 2010، 181).
إنّ تعليم شمس الدين لجلال الدين أشبه ما يكون بفصله عن حالة السبات التي يغطّ فيها، ويدفعه للبحث عن الله سبحانه، ولذلك فقد ظلّ جلال الدين يعترف له بحبٍ وعرفانٍ لا حدود لهما طوال حياته. يقول جلال الدين: “إنّ الشمس هو الذي أراني طريق الحقيقة وهو الذي أدين له في إيماني ويقيني.” لقد فتح عينيه على نافذة الحياة، وكان ذلك إيقاظًا وتفتّحًا في ذهن الرومي واتساعًا في إدراكه وفهمه. كان ذلك ثورة على الداخل وإعادة صياغة للعقل والتفكير عند جلال الدين (محمد 2010، 183).
لقد كان حبّ جلال الدين للشمس حبًّا مطلقًا ملأ كل جوانحه، وحمله على إهمال عائلته وتلامذته لأشهر، حتّى احتجّوا على ذلك في النهاية، فاضطرّ الشمس أن يرحل عن قونية واغتمّ الرومي لذلك غمًّا لا شيء يواسيه. غير أنّه بعد فترة من الزمن، وبينما كان جلال الدين يصبّ شوقه في قصائد حزينة، وجد الشمس مجددًا، حيث أعاده ابنه سلطان ولد إلى قونية. وقد ازداد قربهما ثانيةً وأصبح لا يمكن التغلّب عليه، لدرجة قرّر بعض تلامذة الرومي بالاشتراك مع ابنه علاء الدين إرسال الشمس إلى مكان لا يعود منه أبدًا (شيمل 2006، 353). وقد أدرك جلال الدين حينئذٍ أن لا عودة تُرجى لأستاذه الراحل، وأنّ الموت غيّب أحبّ الناس إليه وأقرب العقول إلى عقله، فغرق في حزن عميق. وفي النهاية فقد لقي الرومي حتفه في الخامس من جمادي الثاني سنة 672هـ (26 أكتوبر 1273م)، وقد اشترك فيه جميع أهل قونية بما فيه النصارى واليهود في تشييعه وتأبينه والبكاء عليه (رفعت جو 2008، 35).
إنّ إنجاز الرومي في الأدب هائل؛ وله أعمال أدبية متعدّدة؛ منها المنظوم، ومنها المنثور. أمّا المنظوم من أعماله فهو «المثنوي المعنوي» وهو أكثرها صيتًا، و«ديوان شمس التبريزي» و«الرباعيات» والمنثور منها هو «فيه ما فيه» و«المجالس السبعة» و«الرسائل» (حسن د.ت.، 39–46).
4 الألم والمعاناة من منظور جلال الدين الرومي
لا ريب أنّ السؤال عن الآلام البشرية وأسبابها والحِكَم الكامنة وراءها والمسؤولية الأخلاقية تجاهها كان ولا يزال من الأسئلة المقضّة لمضجع الإنسان، وشكّل هاجسًا فكريًا ووجدانيًا مقلقًا لدى أصحاب الفكر عبر التاريخ، وقد حاول كلّ منهم أن ينظر إليه من منظاره الخاصّ، ويشفي غليله بما يدلي به من رؤية يظنّها حلًّا لهذه المعضلة التاريخية. ولا شك أنّ هذا الموضوع البالغ الأهمية لم يغب عن فكر مفكّر فيلسوف وشاعر مبدع مثل جلال الدين الرومي الذي يقدّم نفسه طبيبًا حاذقًا للأمراض الروحية والأخلاقية، بل قد أعار بالفعل اهتمامًا بالغًا بالألم وأسبابه وآثاره وطرق تداويه في مؤلفاته المختلفة وخاصة كتابه «المثنوي»، وفيما يلي سنشير إلى أبرز معالم فكر مولانا بهذا الخصوص وطرق معالجته لقضية الألم والمعاناة لدى الإنسان.
4.1 الألم والمعاناة دلاليًا
الألم والمعاناة هو تجربة عامة وقضية مشتركة لكافّة أبناء الإنسان، ورغم كونه أمرًا ملموسًا للجميع إلا أنّه على مستوى المفهوم يعتبر من أغمض المفاهيم وأكثرها تجريدًا، بحيث لا يمكن تقديم تعريف دقيق عنه يتّفق عليه الجميع. ولعلّ الارتكاز العامّ يميل أن يصنّف كلّ ما يوجب تعبًا على الإنسان في دائرة الآلام، بينما الغريب أنّ هناك آلامًا تنهك الإنسان وهو يستطيبها. ويذكر الرومي ألم الحبّ مثالًا لهذا النوع من الآلام ويقارن بين العاشق والمريض؛ حيث يطلب الأخير الدواء ويستزيد الأول الداء (الرومي 1994، 539/3). ومهما كان فيبدو بديهيًا أنّ الخطوة الأولى في معالجة المفاهيم – ولا سيما التجريدية منها – هي معالجتها دلاليًا وبيان حقيقتها وتحديد المقصود منها؛ وذلك أنّ المعالجة الدلالية تؤثّر مباشرة على نتائج الأبحاث الأخرى التي تتبعها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا يعني الألم والمعاناة في فكر جلال الدين الرومي؟
لم يتطرّق مولانا في مؤلفاته إلى المعنى اللغوي لمفردتي «الألم» و«المعاناة»، وبدلًا من ذلك فقد حاول أن يقدّم صورة ملموسة منهما تارةً عن طريق عرض بعض المصاديق الواضحة والمفاهيم ذات الصلة من قبيل الوحدة واليأس والغمّ والكآبة والحُرقة وما إلى ذلك، وتارةً عبر بيان المفاهيم المضادّة لهما نظير الفرح والخلاص والوصال وما إلى ذلك. بالإضافة إلى ذلك، قام الرومي أحيانًا بتعريف الألم عبر ذكر مكوّنات الألم – باعتباره أمرًا مركبًا من الأجزاء – وأحكامه وميزاته وآثاره وعلاقته مع غيرها من المفاهيم المماثلة نظير الموت والوحدة والذنب، فيقول مثلًا إنّ اغتراب الإنسان وابتعاده عن أصله هو الوجه الآخر لألم الإنسان ومعاناته. وهذه الرؤية وإن كانت تعتبر رؤية أنطولوجية إلى الألم – ونحن سندرسها في القسم الآتي – إلا أنّه في نفس الوقت يتمتّع عند الرومي بأهمية دلالية أيضًا، حيث إنّ الاغتراب والافتراق من وجهة نظره ليس فقط سببًا للألم، بل هو الألم نفسه أيضًا؛ إذ يكون الألم في جوهره وماهيته هو فراق الإنسان عن موطنه الأصلي (غرجي 2012، 145).
على ذلك، يجب القول بأنّ الرومي عند بيان ماهية الألم، بدلًا من الإتيان بتعاريف منطقية أو لغوية، يؤكد دائمًا على المفاهيم المتاخمة أو المضادّة. وهذا ما يُعسّر تقديم تعريف دقيق ومقبول عند الجميع للألم وفقًا لرأي الرومي، وأقصى ما يمكن قوله هو أنّ الألم والعناء عنده أمر نسبيّ يختلف من شخص إلى آخر حسب وجهة نظره ومستوى إدراكه (غرجي 2012، 146).
4.2 الألم والمعاناة وجوديًا
تهدف الدراسة الوجودية للألم والمعاناة إلى معالجة موقف جلال الدين الرومي تجاه ظاهرة الألم من الناحية الأنطولوجية وبيان أنواعها وأسباب حدوثها وطرق التخلّص منها، وهي تشكل حجر الزاوية في جميع كلمات الرومي عن الألم، وفيها أيضا يكمن سرّ جاذبيته؛ وذلك أنّ جلال الدين يتميّز عن غيره من العلماء والمفكرين بنظرته الفريدة والمتحدّية تجاه الألم، فبينما الإنسان بطبعه يهرب من الألم، ويبذل كلّ جهده للتخلّص منه، ينظر الرومي من منظوره الصوفي إلى الألم نظرة إيجابية، ويدعو قارئيه إلى استقباله واحتضانه. إنّ الرومي يعتبر الألم لطفًا من قبل الله سبحانه وتعالى مختبئًا تحت أنواع القهر، (الرومي 1994، 106/3) ويؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ البلاء للولاء كما أنّ اللهب للذهب، وإنّ الله يجرّع عباده من كأس البلاء على قدر قربهم منه، ومن هو المبتلى فلا شك أنّه قد شمّ أريج العناية الربانية (الرومي 1994، 39/1). فالألم، من وجهة نظر مولانا، أمارة على سموّ مكانة العبد عند الرب، والعكس صحيح أيضًا، فإنّ من لا ألم له فهو –حسب تعبيره – بمثابة ميّت يتحرّك في نعش جسده (الرومي 1994، 336/3). وبعبارة أخرى، يمكن القول: إنّ الألم لدى مولانا هو موقف حدّي بالنسبة إلى الإنسان، وهو مصطلح أبدعه الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز (Karl Jaspers، ت. 1969م) إشارةً إلى مواقف تعتري الإنسان فيها حالة من القلق والهلع، ويُدرك من خلالها تمام الإدراك مكامن القصور فيه. ويذكر ياسبرز الموت والمرض والذنب والألم أمثلة على تلك المواقف (ياسبرز 1995، 238–239) ويعتقد الرومي أنّ هذا الخوف والقلق هو أمر ضروري ونافع للإنسان إذ يُنزل الإنسان من عرش الانبهار بالذات إلى فرش الافتقار إلى الله، وتُحطّم العقبات التي تقف حائلةً بينه وبين رُقيّه الوجداني والإنساني.
ويرى الرومي أنّ الألم في كافة أشكاله يتمتّع بسمتين مشتركتين:
الأولى: أنّ الألم قد يختلف من شخص إلى آخر، فقد تؤدّي تجربة واحدة إلى مشاعر شتّى في أشخاص مختلفين (محمودي ودادبه 2013، 166). ويروي الرومي لذلك حكاية الرجل الزاهد الذي يعتبر الجفاف جنّةً، بينما يراه الآخرون محنةً (الرومي 1994، 470/2).
والثانية: أنّ الألم – وكذلك الراحة – هو مقولة ذاتية (subjective) بمعنى أنّه موجود ما دام مدرَكًا، ويتبخّر عندما يقع خارج نطاق الإدراك (همايي 1987، 709). ولذلك ينصح الرومي أن يبحث الإنسان عن الراحة في ذاته وليس في القصور والحصون؛ فإنّ الإنسان قد يكون قابعًا في زاوية المسجد ثملًا فرحًا، وفي وسط البستان كئيبًا حزينًا (الرومي 1994، 467/3).
4.3 أسباب الألم والمعاناة
إنّ موقف مولانا من الأسباب الكامنة وراء الألم والمعاناة يتجذّر في النموذج الأفلاطوني الحديث، حيث «الأنا» الإنساني – أي البعد الروحي للوجود الإنساني الذي به الإنسان هو هو – يكون حبيسًا في سجن الجسد، وليس هناك أيّ اتحاد ذاتيّ بين الجسد والروح، وتكون الروح منقطعة عن الجسد تمامًا (علمي وصابري 2013، 146). يقول الرومي: “ما تعلّقك بهذا الجسد؟ وأنت قائمٌ من دونه. أنت دائمًا من دونه. في الليل لا تُعنى بالجسد، وفي النهار تكون منهمكًا دائمًا بالأعمال، ولستَ مع الجسد. وهكذا لِمَ ترتجف على هذا الجسد وأنت لا تكون معه ساعة واحدة، بل تكون دائمًا في أمكنة أخرى؟ أين أنت، وأين الجسد؟ أنت في وادٍ وأنا في وادٍ” (الرومي 2002، 328).
إنّ الروح وجوهر الوجود الإنساني، برأي الرومي، كانت تسكن في الأزل في عالم روحاني يتميز بوحدة لا كثرة فيها، فتنزّلت من ذلك العالم العُلوي «قوس النزول» وتلبّست في لباس الجسد، وأصبحت رهينة له (الرومي 1998، 304). وقد كان هذا الافتراق عن مألفه ومأواه مبدأ شقاءه والسبب الرئيس لبُؤسه (43–42/1 ،1994 الرومي). ويمكن بشكل عامّ تصنيف مصادر الألم من وجهة نظر مولانا في العوامل الثلاثة التالية:
التركب والتكثّر: موطن النفس الإنسانية هو عالم الوحدة، ولكنّها هبطت إلى عالم الكثرة. وهذا التكثر والتركب هو مصدر القلق والألم المعنوي والنفسي لديه (الرومي 1994، 191/1).
أسر الزمان: المصدر الثاني للألم هو همّ الإنسان لما فاته في الماضي وما سيأتيه في المستقبل، ويعتقد مولانا أنّ أسر الزمان يقيّد وجود الإنسان ويجب التحرّر منه (الرومي 1994، 134/1).
سُكر الوجود: إنّ النرجسية والنظرة الاستقلالية إلى «الأنا» ونشوة الوجود هي الأخرى مصدرًا أساسيًا للألم في الإنسان، فطالما الأنا هو الأنا، يكون الإنسان في قيد الكثرة والكثرة يتبعها الألم. “إنّ الآلام كلّها تنبعث من أنّك تريد شيئًا ثمّ لا يتيسّر لك ذلك الشيء، وعندما لا تريد لا يبقى هناك ألم” (الرومي 2002، 192).
وبناءً على ذلك، فإنّ الرومي يرفض جميع الاتجاهات المادّية بشأن قضية الألم ومصدره، ويعتبره خطأً منهجيًا، وبدلًا من ذلك، يؤكد على محورية الروح العُلوية في تحليل القضايا الإنسانية، ويعتقد أنّ الألم ليس أمرًا طارئًا على الإنسان وناتجًا عن حياته الفردية والاجتماعية، بل هي مشكلة أنطولوجية بالنسبة إليه، حيث إنّه ينتمي إلى عالم الوجود الوحداني ويعيش في جوهره غربة التنافر والاضطراب. وعلى رأي الرومي حتّى إذا ما توفّرت كافة حاجاته النفسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن الإنسان مازال يبقى معانيًا من اغترابه الأنطولوجي ويظلّ باحثًا عن سعادته الحقيقية (علمي وصابري 2013، 147–148).
4.4 أنواع الألم
في فكر الرومي هناك نوعان من الألم، أحدهما هو ما يسبّبه الإنسان لنفسه، والثاني هو ما يُنزله الله على الإنسان لحكمة يعلمها. ويرى الرومي أنّ الآلام من النوع الأول هي آلامٌ مذمومةٌ وعلى الإنسان أن يتصدّى لها، ويحرّر نفسه منها، ويحصل على الراحة والسكينة؛ أمّا النوع الثاني منها فهي آلامٌ هادفةٌ ومقدّسةٌ ليس فقط لا ينبغي الهروب منها، بل يجدر بالإنسان أن يستقبلها بحفاوةٍ، لما لها من أثر بالغ في تكوين شخصية الإنسان والارتقاء بها. إنّ معظم كلمات الرومي تختصّ بالنوع الثاني من الآلام، وهو يحاول أن ينظر إليه بنظرته التوحيدية المعتادة إلى الكون، ويعدّه مقبولًا ومبرّرًا. حيث يؤمن أنّ الله على كلّ أمر قدير، وبكلّ شيء عليم بصير، وهو أعلم بمصالح العباد، ولا يصدر الفعل منه عبثًا، ولا ريب أنّ ما يقوم به إله كهذا حتّى إذا كان في لباس الألم والقهر فهو في صالح الإنسان، ومن هذا المنطلق يعتبر ذلك هدية من الله (شهبازي 2007، 172).
وللرومي تقسيم آخر للألم أيضًا، وهو تقسيمه إلى الأصيل والطارئ؛ والألم الأصيل ليس سوى ألم الفراق والابتعاد عن المعشوق الأزلي. ويشرح الرومي هذا الألم من خلال قصيدته الشهيرة «أنين الناي» التي يبدأ بها كتابه «المثنوي». فالناي عنده هو أصل النفس البشرية والإنسان الذي يبحث عن سرّ وجوده، ومنبت الغاب يرمز إلى أصل تلك النفس وعالمها الأول، وأنين الناي هو رمز لحنين النفس للابتعاد عن أصلها. وقد وجد مولانا في هذه الأداة الموسيقية خير من يمثّله في التعبير عن حاله، فكلاهما يعاني الانفصال عن موطنه، واللوعة والحرقة التي تصدر من أنين الناي هي خير تعبير عمّا يعانيه الناس من هموم مختلفة، وسرّ نُواحه يكمن في البحث الدائم عن الأصل، من أين أتى، وإلى أين يذهب، كيف كان المبدأ وكيف يكون المعاد؟ (محمد 2010، 190–189) ويعتقد الرومي أنّ ألم الفراق هو الألم الحقيقي، وأصل كلّ ألم في الإنسان، ودواء هذا الداء هو اللقاء (340–339/1 ،1994 الرومي).
وأمّا الألم الطارئ فهو ما يسمّيه العرف العامّ عادةً بالألم، وهو في رأي مولانا ليس ألمًا في الحقيقة، بل هو لطف تستّر في لباس القهر، وذلك أنّه يُعين الإنسان على علاج ألمه الأصيل، وهو الفراق من الله (محمودي ودادبه 2013، 168). فالوصال لا يقع إلا بالحبّ، والحبّ لا يتسنّى بالغفلة عن ذكر الحبيب، والنفس الإنسانية مشوبة بألوان الغفلة وأنواع الرذائل، وتطهيره هو الألم. ولا يتبدّد هذا الألم والحزن الذي يتبعه إلا بعلاج ألم الفراق، وعندئذٍ سوف يسمو الإنسان عن عالم الكثرة، وتخرج أفراح الدنيا وأتراحها عن قلبه، ويدخل في جملة أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
إنّ طريقة مواجهة الرومي للألم ونظرته الربانية له تُظهر لنا أنّه يحلّق في ملكوت العشق الإلهي، ولا يرى ما يقاسيه الإنسان الأرضي في حياته الرتيبة مستحقًّا للحزن والاكتئاب. فالحياة الدنيا عند جلال الدين تشبه الأساطير الملحمية، فكما تُهرق فيها دماء الآلاف من الناس دون أن يترك أثرًا على نفسية القارئ، وفي نفس الوقت ينعكس فيها قتل البطل بل جرحه بشكل مؤثّر جدًا، فكذلك في نظرته الصوفية تنصهر جميع آلام الإنسان في بوتقة الرحمة الإلهية، وتُعتبر أمرًا لا يستحقّ الوقوف عنده (شهبازي 2007، 172).
4.5 الألم وشعور المتألّم بالحرمان
إنّ الشعور بالإهمال والخذلان من قبل الله سبحانه وتعالى هو من العوامل الرئيسية التي تبعث القلق في نفوس المرضى المصابون بما لا يُرجى شفائهم منه، وتزيد من آلامهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن حالة شعور الإنسان بالخذلان عند نزول البلاء في الآية الكريمة: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾ (الفجر: 16) واعتبر ذلك فكرة خاطئة.
ويحاول الرومي عبر ما يذكر من ألوان التمثيل وأنواع التشبيهات أن يُقنع القارئ بأنّ الألم هو أمارة على اهتمام الربّ بالعبد، فيذكر في أحد تشبيهاته أنّ الإنسان المبتلى هو كالأسد المكبّل، فالأسد لا يلحق به عار إذا كان هناك سلسلة على رقبته، فإنّه أمارة على قيمته وقوّته، ولذلك ينصح المؤمن ألا يشكو من قضاء الله وقدره، فإنّه ليس إهمالًا منه في حقّهم (الرومي 1994، 195/1). وفي تشبيه آخر يذكر أنّه لا أحد يجعل الطوق في رقبة الكلب العقور، بل يُجعل الطوق دائمًا في رقبة كلب الصيد، والطوق وإن كان قيدًا إلا أنّه يدلّ على مدى اهتمام صاحب الكلب إليه (الرومي 1994، 239/2).
وفي هذا السياق يذكر الرومي حكاية مفادها أن أحد الزهّاد ذات ليلة كان يدعو ربّه ويهتف «يا الله»، فقال له الشيطان: لطالما دعوت ربّك وناديته فهل أتاك «لبيك» من الله؟ فانكسر قلبه وطأطأ رأسه، فرأى في منامه النبي الخِضْر، وحذّره عن انصرافه عن الذكر وندمه على الدعاء، فأجاب الزاهد بأنّي أخاف أن أكون مردودًا عن الباب، حيث لم يأتني جواب من الله، فجاء الجواب: أنّ قولك «يا الله» هو نفسه «لبيك» منّا، وذلك أنّ الله لا يأذن لأيّ أحدٍ أن ينادي ربّه، بل قد يعطي العبد الدنيا بأسرها ويمنعه الألم والتعب لكيلا يشكو عند الله سبحانه وتعالى عندما يحلّ به أذى (15–13/2 ،1994 الرومي). ويستنتج من ذلك الرومي أنّ العناية الربانية قد تكمن في نفس ما نظنّه إهمالًا وخذلانًا من الله، وكذلك البلاء في نفسه هو نعمة من الله على العبد حيث يجعل الإنسان متضرّعًا وملتجئًا إليه.
4.6 الله مصدر الألم والراحة
يؤمن الرومي كأيّ مسلم صادق الإسلام أنّ الله سبحانه وتعالى هو مصدر الخير والشر، وليس هناك في الكون للشرّ أصل آخر. ونظرة الرومي هذه تشبه نظرة الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتس (Gottfried Leibniz، ت. 1716)، ويعتقد أنّ الشرّ لا ينافي حكمة الله سبحانه وتعالى، فإنّ مَثَل الشرّ هو مَثَل صورة عفريت قبيح يرسمها رسّام بارع، فكما أنّ رسم القبيح يدلّ على براعة الرسّام وأنّه يُحسن الرسمَ سواء كان المرسوم يوسفَ أو عفريتًا، فكذلك الله سبحانه وتعالى هو الخالق القادر على كلّ شيء سواء كان خيرًا أو شرًا، ووجود الشرّ ليس منقصة فيه، بل هو ينمّ عن كماله (الرومي 1994، 387/1). ومع ذلك يؤكد الرومي دائمًا أنّ الله لا يرضى بابتلاء عباده، ولكنّه يُنزل عليهم البلاء لحكمة يعلمها. إنّ الله يصف نفسه بالطبيب، وهذا لا يعني أنّه يحبّ أن يرى عباده مرضى، إذ لو كان كذلك لمنعهم من الدواء ولكنّه كما أعطى السمّ، أعطى الترياق أيضًا (الرومي 1994، 232/2).
5 أخلاقيات الألم والمعاناة
من الأبحاث الهامة التي تُطرح في موضوع الألم والمعاناة هو تحديد السلوك الأخلاقي الأنسب تجاه الألم. لقد أعطى التراث الإسلامي بشكل عام أهمية قصوى إزاء الوظيفة الأخلاقية للإنسان، ولا سيّما في الظروف الاستثنائية، سواء على مستوى علاقته مع الله أو مع أخيه الإنسان أو مع الكون. ولا شك أنّ المتألّم يعيش أزمة روحية في داخله قد تؤثّر على سلوكه الأخلاقي، والسؤال المطروح هنا هو: ما هو الموقف الذي ينبغي للإنسان أن يتخذه في حالات الألم والمعاناة وما هو السلوك الأنسب عند مواجهة البلاء؟
ويعتقد الرومي أنّ المسؤولية الأولى للإنسان هي المقاومة والنضال –سواء داخليًا أو خارجيًا– من أجل التخلّص من الألم، وذلك فيما إذا كان الألم قابلًا للعلاج (غرجي 2012، 157). ويرى مولانا وفقًا لرؤيته الصوفية، أنّ الأنا الإنساني –أي النفس– هو مصدر لميول نفسانية تنغّص عيش الإنسان وتكدّر صفو حياته ولذلك يعتبر النفس سببًا لأوساخٍ تعيث الفساد في كلّ زمانٍ ومكانٍ (الرومي 1994، 289/1). وطريق الخلاص من هذه الآلام ليس سوى جهاد النفس (الرومي 1994، 14/2). وأما فيما يتعلّق بالآلام غير القابلة للعلاج، فيدعو الرومي إلى مواجهتها عبر التزام أمور ثلاثة: الصبر، ويذكر أنّ الصبر هو شهوة الأذكياء والحلوى – كناية عن الأمر السهل الوصول – هو أمنية الأطفال (الرومي 1994، 98/1)، والتسليم بقضاء الله، ويعتقد أنّ الإنسان إذا سلّم بقضاء الله وفوّض أمره إليه، أصبحت إرادته إرادة الله وحينئذٍ جرى العالم بأسره بإرادته (110–108/2 ،1994 الرومي) ، والتضرع إلى الله، ويبيّن ذلك من خلال تشبيه هطول السحاب وبكاء الطفل بدعاء المتضرّع، فكما أنّ السحاب ما لم يبك لم تضحك الرياض، وأنّ الطفل ما لم يبك لم يجِش اللبن من ثدي الأم، فكذلك ما لم يتضرّع الإنسان ويدعو ربّه باكيًا منتحبًا لا يأتيه الفرج (الرومي 1994، 11/3).
6 الحِكم الكامنة وراء الألم
من الأسئلة المتكرّرة لدى المرضى المشرفين على الموت أو المصابين بالمرض العضال هو السؤال عن الحكمة وراء الألم والمعاناة، فإذا كان الله سبحانه وتعالى مصدرًا للخير ومنبعًا للعطاء، فما الذي يجعله يصبّ على عباده البلاء ويفتنهم بالبأساء والضراء. ونحن قد أشرنا فيما سبق بإيجاز واقتضاب إلى بعض الفوائد المترتبة على الألم والعناء من وجهة نظر مولانا، إلا أنّنا سنستوفي الكلام هنا عن ذلك، ونذكر أهمّ الآثار الإيجابية للألم.
6.1 الألم مقدمة لاستكمال الإنسان
إنّ ارتقاء الإنسان في مدارج الكمال لا يحصل إلا بمكابدة الآلام والمتاعب، فإن الإنسان في مسيره إلى الكمال يشبه القمر الذي يصير بدرًا فكما أنّ الأخير لا يكتمل إلا بعد النقصان ودخوله في طور المحاق، فكذلك الإنسان لا يبلغ كماله إلا بعد أن يتحمل الآلام والشدائد (الرومي 1994، 195/1). وفي هذا السياق يعتقد الرومي أنّ الإنسان يمرّ في حياته بمراحل وأطوار من كونه جمادًا وحيوانًا وإنسانًا وملكًا، وفي كل مرحلة يذوق موتًا مريرًا يمكنّه من الوصول إلى المرحلة القادمة، وهذا الموت والحياة لا يخلو من التعب والألم، ولكنّ النتيجة تستحق تحمل ذلك –كوجع المخاض الذي تتحمله الأم لما تترتب عليه من النتائج (الرومي 1994، 386/1)، وعليه فينبغي للإنسان، أن يهوّن هذه المتاعب على نفسه لكي يحصل على المكانة الإنسانية الشامخة (الرومي 1994، 222/2).
ويحاول الرومي عبر ما يقدّمه من تشبيهات لا مثيل لها أن يُفهم القارئ أنّ الألم أمر إيجابي للإنسان، ففي تشبيه حبّات الحمّص والسيدة، تقفز حبّات الحمّص في القدر المغلي صعودًا وهبوطًا محاولةً الخلاص منه والهرب، ولكن السيدة تضرب بالملعقة على رأسها، وتنزلها إلى قاع القدر. فتهتف حبّات الحمّص وتشكو السيدةَ لأنّها أشعلت بها النار، ولكنّ السيدة لا تأبه شيئًا، وتقول لها “إنّ ذلك ليس كراهةً لك، بل ليطيب مذاقك وطعمك، وتصيرينَ غذاءً، وتصلين إلى غايتك، فإنّ كلّ ما تحمّلت في البستان كان لتتهيّئين لهذه النار، فتصلينَ من خلالها إلى ذروة كمالك” (238–237/2 ،1994 الرومي). ويستخلص الرومي من هذه الحكاية أنّ البلاء الإلهي هو رحمة من الله على عباده ليُبلغهم مرتبة الكمال الإنساني، ولكنّ العباد لعدم صبرهم يرون ذلك جفاءً من الحبيب في حقّهم.
وفي تشبيه آخر، يقول الرومي أنّ حبّة الحنطة تُحبس تحت التراب لتتحوّل شطأً، وتستوي على ساقها، وهذا يعني أنّ نموّ الحنطة رهينة بتحمّل البرد والظلمة في قلب التراب، والأمر لا يقف عند ذلك، بل الحنطة بعد أن سنبلت يجب أن تُسحق في البيدر، وتُطحن في الطاحونة، وتُعجن في المعاجن، وتُرمى في النار لتتحوّل إلى خبز يؤكل، كما أنّ الخبز أيضًا ما لم يُمضغ تحت الأسنان لا يصير غذاءً نافعًا للإنسان وقوّة ممدة له وعلاجًا لمرضه ونورًا لبصره وركيزة لحياته (الرومي 1994، 195/1). وغرض الرومي من سرد هذه الرواية هو أنّ الإنسان أيضًا – كحبة الحنطة – ما لم يتحمل الشدائد والمصائب في حياته لا يصل إلى كماله.
وكثيرًا ما يستشهد الرومي في كلماته بقاعدة «الضدّ يتولّد من الضدّ» ويذكر لها شواهد متعدّدة: فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حارب المشركين وانتهت تلك الحروب في النهاية إلى السلام، والبستاني يهذّب الأغصان والفروع ويقتلع الأعشاب الضارة، ويؤدي ذلك إلى تقوية الأشجار وتحسين جودة ثمارها، والطبيب يخلع الضرس المنخور، ويحصل بذلك تخلّص الضرس من الألم والمرض، والشهيد يُقطع حلقه، ولكنّه يأكل بذلك الرزق عند ربّه. ويطبّق الرومي هذه القاعدة على قضية الألم والمعاناة أيضًا ويستنتج أنّ الألم وإن كان في الظاهر نقصانًا فإنه وفقًا لقاعدة «الضدّ يتولّد من الضد» سوف يؤدّي إلى الكمال (الرومي 1994، 238/1).
6.2 الألم محرّك الإنسان نحو صلاحه وإصلاحه
إنّ الألم هو سبب شحذ الهمم وإيقاظ العزائم وتحريك الإنسان نحو ما هو صلاحه وإصلاحه، وبدون الألم قد لا يندفع الإنسان نحو العمل. يقول مولانا: “إن الألم هو الذي يوجّه الإنسان في أي عملٍ. وما لم يظهر في داخله ألم ذلك الشيء، وهوسه وعشقه، فلن يقصد إليه، ولن يتيسّر له ذلك الشيء دون ألم، سواءٌ أكان ذلك الشيء نجاحًا في هذه الدنيا أم نجاة في الآخرة، وسواء أكان تجارة أم مُلكًا، وسواء أكان علمًا أم نجومًا. ولو لم تظهر آلام الوَضع لمريم لما قصدت إلى تلك الشجرة المباركة: فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة، ألجأها ذلك الألم إلى الشجرة، والشجرة التي كانت جافّة غدت مثمر” (الرومي 2002، 54–53).
ويروي مولانا في حكاية النائم والحية أنّ رجلًا كان نائمًا تحت ظل إحدى الأشجار وقد فتح فاه فإذا بحيّة متّجهة نحوه حتّى وصلته ودخلت إلى بطنه، وفي تلك الأثناء صادف أن مرّ من هناك رجل صالح ممتطيًا فرسه، ولم يجد الفارس بدًّا أن ينهال عليه يضربه بعصاه، فاستيقظ النائم وهرع مسرعًا نحو شجرة كان قد سقط تفاحها، فأمره الفارس بأكله حتّى التخمة، ثمّ عاد يضربه بالعصى مجدّدًا، فاستمر الرجل بالركض وهو يصيح شاكيًا: “أيها الجبان، لم تضربني وتظلمني، لينتقم الله منك،” حتى تقيّأ كلّ ما في بطنه بما فيه تلك الحية، وعندما شاهد تلك الحية قد خرجت من فمه، أدرك رأفة وشهامة ذلك الفارس الصنديد، فوقف أمامه بكل احترام وتواضع وشكره على لطفه ونسي كلّ ذلك الضرب المبرّح والألم والأنين (352–349/1 ،1994 الرومي). وأراد الرومي أن يعلّمنا عبر سرد هذه الحكاية أنّ الآلام والمحن وإن كانت بغيضة في ظاهرها فإننا إذا أمعنّا النظر فيها سنجد أنّها جاءت لتدفعنا نحو ما هو فيه صلاح أمرنا وإصلاح سريرتنا.
6.3 الألم يصقل القلب
يذكر مولانا في كثير من حكايات «المثنوي» أنّ مكابدة الآلام وتحمّل المصائب تؤدّي إلى نقاء القلب وصفاء النفس، ويشبه ذلك إلى بوتقة ينصهر فيه الوجود الإنساني لتزول عنه الشوائب. وفي ذلك، يسرد الرومي حكاية حيوان يسمّى بالأشغر، وهو كلّما ضُرب على رأسه بالعصا أكثر، كلما صار أكثر قوة وسمنة، ثمّ يخلص إلى أنّ نفس المؤمن تشبه الأشغر، حيث إنّ الألم والبلاء يزيدها قوة ومنعة (الرومي 1994، 283/2). وفي تشبيه آخر يذكر الرومي أنّ الإنسان بمنزلة الجلد الذي إذا دُبغ بالعقارات المُرّة تحوّل إلى الأديم الطائفي، وإذا لم يُدبغ صار منتنًا وعفنًا (الرومي 1994، 283/2)، وعلى ضوء هذا التشبيه، ينصح الإنسان أن يروّض نفسه بالمتاعب والصعوبات ليصير طاهرًا ولطيفًا وذا بهاء، وإن كان لا يتجرّأ على ذلك، فعليه أن يرضى بما يُصبّ عليه من البلاء، فإنّ البلاء هو تطهير للقلب من الأوساخ (الرومي 1994، 284/2).
6.4 الألم ينزل الرحمة
يرى الرومي أنّ كلّ بلاء تتبعه نعمة، ولو أعطيت الربّ حَمَلًا – أي: سلبه منك بالبلاء – فسيعطيك قطيعًا (الرومي 1994، 354/3)؛ فإنّه سبحانه وتعالى ليس ذلك المليك الذي يصفع الإنسان ثم لا يهبه شيئًا، وخير شاهد على ذلك الأنبياء، فإنّهم تحمّلوا في حياتهم بلاءً مريرًا، ولكنّ الله عوّضهم عن ذلك (الرومي 1994، 366/3). ويضرب الرومي على ذلك مثال الطفل والحجّام، حيث يرتعد الطفل فَرَقًا من مبضع الحجّام، ولكن أمّه فرحة بذلك، لأنّها تعلم أنّه سيزيد من صحّة الطفل وسلامته (الرومي 1994، 17/1). يقول الرومي: إنّ الله لو كسر رِجلًا فسيعطي جناحًا، ولو رمى في بئر فسيفتح بابًا في قاع البئر (الرومي 1994، 275/2). ويقول أيضًا: السبب في أنّ أولياء الله لا يعترضون على الله هو أنّهم يؤمنون بأنّ العوض سيأتي أعظم من المفقود (الرومي 1994، 107/2). ويذكر الرومي في هذا السياق أنّ العوض قد لا يكون نعمة مادّية، بل قد يكون نعمة روحية، وهي تأصيل الأخلاق الحسنة في وجود الإنسان (الرومي 1994، 355/3). كما قد لا يكون العوض في الدنيا بل في الآخرة، ويقدّم الرومي لذلك قصة خيالية لامرأة كانت تضع كل سنة ابنًا ولكنّه لم يكن يبقى أكثر من ستّة شهور، وكانت المرأة تبكي وتشتكي إلى الله من ذلك، وقد استمرّ الوضع هكذا حتّى مات منها عشرون ولدًا واحترقت قلوب الأهل بذلك. حينئذٍ حَلِمَت المرأة ذات ليلة ورأت جنة في منتهى الروعة والجمال وكان اسمها قد كتب على قصرٍ، فعلمت أنّه لها، فقيل لها: “هذا جزاء من يفدي نفسه مخلصًا فينا، وأما أنت فقد كنت تتكاسلين عن الالتجاء إلى الله، فأعطاك هذه المصائب لتقبلي إليه،” فقالت المرأة: “لا أبالي إن ابتليتني مائة سنة أو أزيد، فما دام هذا عطاءك، فيحقّ لك أن تسفك دمي،” وعندما دخل الجنة رأت فيها أبناءها العشرين لتدرك أنّهم وإن ضلّوا عنها، ولكنهم لا يضلّون عن الله سبحانه وتعالى (الرومي 1994، 2/194–195).
6.5 الألم يزيل الغفلة
الألم يُشعل ذكر الله في نفس الإنسان، فإنّه هو حبل يربط في عنق المحبّ، فيجرّه إلى باب الحبيب لينكبّ بوجهه الشاحب على عتبته، ويبكي منتحبًا، ويدعوه لكشف ما ألمّ به من البلاء. وعن ذلك، يقول الرومي: إنّ الفيل إذا لم يُضرب على رأسه، فسيحلم بالهند – الذي هو موطنه – ويتمرّد على الفيّال، وكذلك الإنسان إذا كان في الراحة والغنى صار طاغيًا عاصيًا، ولذلك فإنّ الله يصبّ عليه أنواع البلاء والمصائب ليكسر شوكته ويكبح جماحه ويزدهر التواضع والخشوع في نفسه (الرومي 1994، 239/2). ويعتقد الرومي أنّه ثمة حجابان بين الإنسان وربّه هما الصحة والثروة، ومادام الإنسان ينعم بهما، فهو غافل عن الله سبحانه وتعالى، وعندما يفقدهما ينتبه إليه (الرومي 2002، 333). وعلى ذلك، فمن رحمة الله أن يبتلي عبده بالآلام ليتوجّه إليه، ولا غرو إذن إن قلنا بأنّ الألم من الله هو أفضل من ملك الدنيا، والمثال على ذلك هو فرعون؛ حيث يذكر لنا الرومي أنّ الله قد أعطاه ملكًا عظيمًا ومالًا وفيرًا، ووقاه طيلة عمره حتّى من ألمٍ بسيطٍ كالصداع، والسبب أنّ الله كره أن يراه متضرعًا متبتّلًا إليه (الرومي 1994، 2/13–14).
ويذكر الرومي في الدفتر الثاني حكاية عن رجل اعتلّ، فعاده رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم – فشكر المريضُ الله على ما وهبه في الكبر من السقم لكيلا ينام جميع الليل، بل ينهض من النوم ويعبد الله في جوف الليل (الرومي 1994، 372/1). كذلك يروي الرومي في حكاية الملك وابنه أنّ ابن الملك تحت عناية أبيه يحصل على حالات عرفانية وروحية، وعندئذٍ يصيبه الغرور ويشعر بالاستغناء عن أبيه ويطغى عليه، فحينئذ يقطع الأب نظره عن الابن ليعتريه القبض ويعود إلى رشده (560–548/3 ،1994 الرومي). ويحاول الرومي عبر سرد هذه الروايات أن يُظهر للقارئ أنّ الآلام والأسقام لها وجه آخر حسنٌ أيضًا، إذا ما انتبه الإنسان إليه وهو تطهير قلبه من أدران الغفلة والغرّة.
6.6 الألم يُهيّئ الإنسان للموت
من وجهة نظر الرومي، كل ألمٍ هو قطعة من الموت، لأنّ الموت ليس حدثًا يقع في لحظة، بل هو حدث مستمر طيلة حياة الإنسان، وكل ألم وتعب يمثّل جزءًا من ذلك، ومن استطاع أن يصبر أمام ما يواجهه من الآلام، ويجتازها بقوة، فإنّه يستعدّ لمواجهة الموت، ويمكنه أن يعتنق الموت في غاية السرور والحبور (142–141/1 ،1994 الرومي). وإذا رأينا العرفاء يأمنون الموت، فذلك لأنّهم اجتازوا بحر الدمّ “كناية عن مكابدة المصاعب” بنجاح (الرومي 1994، 525/3). ويتحدّى الرومي في أحد غزلياته الموت قائلًا: “إذا كان الموت باسلًا فقل له تعال إليّ حتّى احتضنه بقوة، وعندئذٍ فأنا سأسلب منه لنفسي الحياة، وهو سيسلب مني خرقتي (كناية عن البدن)” (الرومي 1998، 516). وهنا يتفق الرومي مع الأديب الألماني هرمان هيسه حيث يقول: “أنا مقتنع جدًّا بسعادتي الحالية، ويمكنني أن أتحمّلها لفترة، ولكن أتمنّى أن أتألّم قليلًا، وأريد أن يكون ألمي أجمل وأعظم من ذي قبل، فأنا متعطّش لتلك الآلام والمصائب التي تهيّئني للموت” (هيسه 1975، 277).
6.7 الألم يميّز الخبيث من الطيّب
إنّ الآلام والمصائب – بل الألطاف والنعم أيضًا – هي اختبار للإنسان ليميز الخبيث من الطيب، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ (محمد: 31). لكن ينبغي أن لا نغفل أنّها تكون لطفًا ونعمة إذا ما صبر الإنسان وقاوم في وجهها؛ أمّا إذا تخلّى عن مسؤوليته وجزع عندها فهي ستتحوّل فعلًا إلى البلاء، وقد شبّه الرومي ذلك بنهر النيل حيث كان لأتباع موسى رحمة ونعمة وعلى أتباع فرعون نقمة وشقاوة (الرومي 1994، 454/2).
7 حصيلة البحث
إنّ التأصيل الإسلامي لرعاية نهاية الحياة لا يتيسّر إلا بالرجوع إلى تراثنا الإسلامي الزاخر، وجلال الدين الرومي هو أحد الشخصيات الإسلامية العظيمة التي يمكن الرجوع إليها لتوظيف عطاءاته الفكرية في مجال مساعدة المرضى المشرفين على الموت، ولا سيّما فيما يخصّ كيفية مواجهة الألم والمعاناة؛ حيث أنّه عاش عصرًا ذاق طعم الألم إثر اجتياح المغول وحاول أن يقدّم وصفة ناجحة للإنسان في سبيل التغلب على آلامه. بالإضافة إلى ذلك، إن صبّ المفاهيم اللاهوتية ومزجها مع الإحساس في الأدب الصوفي يمكن أن يعتبر نموذجًا موفّقًا في تقديم الرعاية الروحية للمرضى وإقناعهم الفكري والروحي. وفي هذا السياق يعتقد الرومي أنّ أصل الآلام الإنسانية يتجذّر في انقطاع الإنسان عن موطنه الأصلي وأما سائر الآلام فهي تجليات لألم الفراق، ويقترح للتخلص منها أن يعود الأنا الإنساني إلى عالمه الروحاني، وخروجه من سُكر الوجود كحلٍّ وحيدٍ لجميع الآلام الإنسانية. إنّ الله يصبّ على الإنسان أنواع الألم والبلاء تمهيدًا لخروج الإنسان من قفص سجنه وتحليقه في الملكوت الإلهي، وعلى ذلك فإنّ الموقف الأخلاقي الذي ينبغي للإنسان أن يتّخذه في مثل هذه الظروف الاستثنائية هو الصبر والتسليم والتضرّع. ومن جملة الأمور التي قد أعارها الرومي اهتمامًا زائدًا ويمكن توظيفها في مجال رعاية نهاية الحياة هي الحكم الكامنة وراء الآلام الإنسانية، ويذكر الرومي استكمال الإنسان، ودفعه إلى القيام بما يكون فيه صلاحه وإصلاحه، نقاء القلب، وإنزال الرحمة الإلهية، وإزالة الغفلة وتهيئة الإنسان للمواجهة مع الموت كآثار إيجابية للآلام البشرية.
المصادر
أمين، أحمد. 2013. ظهر الإسلام. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
براون، إدوارد جرانفيل. 1954. تاريخ الأدب في إيران من الفردوسي إلى السعدي، ترجمة إبراهيم أمين الشواربي (من الإنكليزية إلى العربية). القاهرة: مطبعة السعادة.
تدين، عطاء الله. 2015. بحثًا عن الشمس من قونية إلى دمشق، ترجمة عيسى علي العاكوب. دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع.
حسن، هاشم أبو الحسن علي. د.ت. الله والإنسان عند جلال الدين الرومي. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية.
خفاجي، محمد عبد المنعم. د.ت. الأدب في التراث الصوفي. القاهرة: دار غريب للطباعة.
رفعت جو، فرح ناز. 2008. العرفان الصوفي عند جلال الدين الرومي. بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر.
الرومي، جلال الدين. 1994. مثنوي معنوي، 4 ج. طهران: انتشارات علمي فرهنگي.
الرومي، جلال الدين. 1998. كليات شمس تبريزي. طهران: انتشارات أميركبير.
الرومي، جلال الدين. 2002. كتاب فيه ما فيه، ترجمة عيسى علي العاكوب. دمشق: دار الفكر.
شيمل، آنا ماري. 2006. الأبعاد الصوفية في الإسلام وتاريخ التصوف، ترجمة محمد إسماعيل السيد ورضا حامد قطب. بغداد: منشورات الجمل.
شيمل، آنا ماري. 2016. الشمس المنتصرة، ترجمة عيسى علي العاكوب. دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر.
شهبازي، إيرج. 2007. «رنج از نگاه مولانا« (العنوان بالعربية: »الألم من وجهة نظر الرومي»). پژوهش نامه فرهنگ وأدب 3(4): 167–186.
عزام، عبد الله. 2013. التصوف وفريد الدين العطار. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.
علمي، قربان وحسن صابرى ورزنه.2013 . «ارزيابي مولانا از أقسام إيمان در پاسخ به مسأله رن» (العنوان بالعربية: «تقييم الرومي لأقسام الإيمان عند الردّ على قضية الألم»). حكمة إسراء 5(1): 143–169.
العوادي، عدنان حسن. د.ت. الشعر الصوفي. بغداد: د.ن.
غالب، مصطفى. 1982. جلال الدين الرومي. بيروت: مؤسسة عزّ الدين.
غرجي، مصطفى. 2012. «بررسي وتحليل ماهيت درد ورنج در مثنوي معنوي» (العنوان بالعربية: «دراسة تحليلية لماهية الألم والمعاناة في المثنوي المعنوي»). مطالعات عرفاني 1(15): 139–162.
محمد، نظمي عبد البديع. د.ت. في الأدب الصوفي. القاهرة: د.ن.
محمد، ألما. 2010. «نار العشق في ناي جلال الدين الرومي». ثقافتنا للدراسات والبحوث 23(6): 177–194.
محمودي، حسين وأصغر دادبه. 2013. «رنج از ديدگاه مولانا با نگاهي به مسأله شر» (العنوان بالعربية: «الألم من وجهة نظر الرومي، مع الاهتمام بمشكلة الشر»). پژوهش نامه فلسفة دين 11(2): 163–188.
همايي، جلال الدين. 1987. مولوي نامه: مولوي چه مىگويد؟ (العنوان بالعربية: رسالة مولانا: ماذا يقول الرومي؟). 2 ج. طهران: نشر هما.
هيسة، هرمان. 1975. گرگ بيابان (العنوان بالعربية: ذئب البراري)، ترجمة كيكاووس جهانداري (إلى الفارسية). طهران: بنگاه ترجمة ونشر.
ياسبرز، كارل. 1975. زندگي نامه فلسفي من (العنوان بالعربية: سيرتي الفلسفية)، ترجمة عزت الله فولادوند (إلى الفارسية). طهران.