Author:
‮حافظ‬‎ ‮عبدولي‬‎
Search for other papers by ‮حافظ‬‎ ‮عبدولي‬‎ in
Current site
Google Scholar
PubMed
Close
Free access

يسرّني أن أتولّى تقديم هذا الكتاب الموسوم بـ من تريبوليتانيا الى أطرابلس: المشهد التعميري خلال العصر الوسيط المتقدّم بين التّواصل والتحوّلات، وهو في صيغته الأصـلية أطروحة دكتوراه أنجزها الباحث حافظ عبدولي ونُوقشت سنة ‭2011‬ بكلية العـلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس وحازت على ملاحظة مشرّف جدّا. وقد سعى المؤلّف لاحقا إلى تحيين المحتوى المعرفي لكتابه على ضوء ما صدر بعد سنة ‭2011‬ من أبحاث حول تاريخ كورة طرابلس وسكّانها. وعلى سبيل المثال لا الحصر نُشير في هذا الصدد إلى موضوع القبائل البربرية مثل هوارة وزناتة قبل الإسلام واستمراريتها من الفترة الرومانية المسيحية إلى فترة ما بعد الفتح العربي الإسلامي، بالإضافة إلى مواصلة استقرارها منذ قرون طويلة في مواطنها الأصلية حيث ذكرتها المصادر العربية (أرض هوارة وأرض زناتة …).‬‎

واعتبارا لقلّة الدراسات حول الموضوع فلا شكّ أنّ هذا الكتاب يُمثّل إضافة علمية متميّزة حول كورة طرابلس في العصر الوسيط وبالخصوص المدن الثلاث الكبرى ومجالاتها وهي لبدة وطرابلس وصبراتة. ومن ذلك التميّز أنّ دراسة المشهد التعميري خلال المرحلة الانتقاليّة من العهد البيزنطي المسيحي إلى فترة الانصهار في الإسلام قد عُوّل فيها على الإلمام بمختلف المصادر الأدبية والأثرية المتعلقة بالفترتين معا القديمة والوسيطة. ولم يكتف الباحث بذلك بل رامَ أيضًا توظيف العلوم المساعدة مثل الأونومستكا/‭onomastics‬ اللوبية والبربرية والمقاربات الحديثة في دراسة السكان الأصليين بالاستفادة مثلا من الطبعة الجديدة لكتاب العبر التي أشرف عليها الأستاذ إبراهيم شبوح معتمدا في تحقيقه علىمخطوط القاهرةالمحتفظ به في إسطنبول وهو المخطوط الذي ضمّنه ابن خلدون علامات الشكل والإشمام وشجرات النسب القبلي.‬‎

وتجدر الإشارة إلى أنّ بعض المؤرخين المعاصرين يستنقصون من أهميّة الكتابات التاريخية لابن خلدون الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، ويُشكّكون في مصادره البربرية التي لم تعد في أغلبها موجودة الآن. وخلافا لهؤلاء نجد أنّ واضع هذا الكتاب يعدّ ابن خلدون من أهم المصادر وأثراها من جهة تضمّن كتاب العبر إفادات قيّمة بخصوص هجرات القبائل العربية من بني هلال وبني سليم فضلا عن بتاريخ القبائل البربرية وتركيبتها. وقد أشاد المؤلف مُحِقًّا في ذلك بالقسم المُخصّص لأمراء بني خزرون المنحدرين من قبيلة مغراوة الزناتية والذين حكموا طرابلس طيلة القرن العاشر وحتى منتصف القرن الحادي عشر للميلاد. وجاء هذا الموقف الإيجابي من المؤرخ ابن خلدون منسجما مع نتائج الدراسات التي تمّ نشرها في العشرية الأخيرة وهي التّي استفادت من كتاب العبر في نسخته الجديدة. ذلك أنّ الأبحاث الأخيرة قد أبرزت تطابقا مهمّا بين ما جاء في المصادر اللاتينية القديمة وما أورده ابن خلدون حول تاريخ القبائل البربرية وأصولها الضاربة في القدم.‬‎

كما أظهرت تلك الدراسات أنّ القبائل البربرية التي قاومت العرب الفاتحين ثم لعبت دورا بارزا في ثورات الخوارج ومنها لواتة وزناتة وهوارة، قد ظلّت متواجدة في مواطنها بليبيا في الفترة الوسيطة المتقدّمة. وهذه الملاحظة تنطبق على مجموعات البربر البُتر المتواجدين منذ أقدم العصور في جبال أوراس وبلاد الزاب المجاورة لها والمجالات الممتدة بين تهرت وتلمسان. وهكذا جاءت المعطيات الجديدة مخالفة لمخرجات البحث المعاصر حول مفهوم البربر الجدد/‭Neoberbers‬ الذي لم يعد له من مبرّر اليوم. واعتبارا لذلك فإنّ المؤرخ مدعو مستقبلا إلى التخلّي عن نظرية الهجرة المكثفة للقبائل البربرية من مناطق طرابلس إلى المناطق الوسطى والغربية لإفريقية وبلاد المغرب كنتيجة لتقدّم الجيوش العربية وتوغّلها زمن الفتوحات الإسلامية.‬‎

وانتهى البحث الذي بين أيدينا إلى عديد النتائج التي وجب تثمينها ومن بينها:‬‎

  • النّقدُ بالحجة والبرهان لمفهوم القطيعة بين الفترتين القديمة والوسيطة الذي بُنِيَ على أحكام مسبقة تُفيد مثلا بأفول مدينة لبدة خلال العهد القديم المتأخّر، مقابل صعود أويّة التي أصبحت تُسمّى أطرابلس بصفتها العاصمة الجديدة للإقليم. والحقيقة أنّ المقصود بمدينة أطرابلس التي تعرّضت إلى حملة في رواية الفتح إنّما هي مدينة لبدة حيث أن صعود مدينة أويّة إلى مرتبة حاضرة الولاية وعاصمتها لم يحصل قبل سنة ‭749‬–‭750‬م في أعقاب ثورات الخوارج وبقرار من عبد الرحمان بن حبيب تمّ نقل العاصمة الإدارية من لبدة إلى مدينةأويةالتي ستعرف منذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا باسم أطرابلس/طرابلس ثم شهدت لاحقا تطوّرا معماريا مهمّا على امتداد العصر الوسيط. وتجدر الإشارة إلى أنّ مدينة لبدة لم تندثر بمفعول الفتح بل بقيت رغم تراجعها في شكل قرية تستمدّ أهمّيتها من موضعها كمحطّة على مسار الطرقات البرية والبحرية تماما مثل مدينة صبرة/ صبراتة.‬‎

  • إبراز ظاهرة التواصل بالنسبة إلى إقليم طرابلس القديم خلال الفترة الوسيطة برقعة ترابية متغيّرة من مرحلة إلى أخرى بين امتداد وانكماش، ولكن مع المحافظة على مكوّناته الطبيعيّة الثلاثة وهي الشريط الساحلي الذي تركّزت فيه المدن والمراسي والمناطق الجبلية وما دون الصحراء التي عُرفت بـالقصوروبالنشاط الزراعي في الأودية.‬‎

  • التأكيد على أنّ المرور من تريبوليتانيا اللاتينية-المسيحيّة إلى أطرابلس العربيّة-الإسلاميّة لم يكن عبر إحداث قطيعة فوريّة وهوّة فاصلة بين الفترتين القديمة والوسيطة، بل كان كما الحال في بقيّة مجالات بلاد المغرب تدريجيّا وبطيئًا في كلّ المستويات؛ وأخصّ بالذكر منها الجوانب الدينية وكل ما يتعلّق بالتركيبة البشريّة وأشكال التعمير والطوبونيميا.‬‎

  • إنجاز مجموعة من الخرائط الجيّدة في علاقة بالجغرافيا التاريخيّة لإقليم طرابلس في العهد الوسيط المتقدّم.‬‎

قرأت هذا الكتاب الذي يُقدّم لنا دراسة ضافية مُجدّدة حول كورة طرابلس الغرب في العصر الوسيط واستفدت من قراءته أيّما استفادة.‬‎

بقلم د. أحمد مشارك‬‎

أستاذ متميّز بالجامعة التونسية‬‎

  • Collapse
  • Expand