ما يفتأ صلاح الدِّين يُثيرُ الأقلامَ للكِتابة عنه، على كثرة ما كُتِبَ، فهو بلا مُنازعٍ أشهرُ شخصيَّة ظهرت في شرقنا الإسلاميِّ إبَّان الحروب الصَّليبيَّة، حتَّى غدا رمزًا لكُلِّ ما هو نقيٌّ وجميلٌ في تاريخنا.
وهي شهرةٌ يستحقُّها لِمَا تمتَّع به من سماتٍ خاصَّةٍ ميَّزته عن غيره من القادة الذين عاصَروه، من حيث القيادة والإستراتيجيَّة في صراعه الدَّؤوب ضدّ أعْدائه، وهو ما تحدَّث عنه هذا الكِتابُ بشمولٍ وإسْهابٍ، وزادها رُسوخًا انتصاره الكبير في معركة حِطِّين، وما تلاها من فتْح بَيْت المَقْدِس، دُرَّة فُتوحاته.
ولعلَّ ما يُفسِّر لنا تاريخَه كُلَّه، تلك الكلمة التي قالها وقت تسنُّمِه الوِزارة في مِصْر، عَقِيب وفاة عمِّه أَسَد الدِّين شِيرَكُوه: ”لمَّا يسَّرَ الله لي الدِّيارَ المِصْريَّة علمتُ أنَّه أراد فتْحَ السَّاحل؛ لأنَّه أوقعَ ذلك في نَفْسي“. فمن خلال كلمته هذه يمكننا تتبُّع سياساته وتحالُفاته، وما شَنَّه من معاركَ؛ كي يصل إلى مُبتغاه، وقد وصل.
بَيْدَ أنَّ لشخصيَّة صلاح الدِّين فَرَادةً عن غيره كذلك، تجلَّتْ في هذا الجمْع الحميم بين شجاعة المُقاتل وصلابته، ورِقَّة مشاعره وعُمقها، وهو جمْعٌ ليس بالهيِّن في زمن ساد فيه العُنفُ الأَعْمى، وعمَّ فيه الكُرْهُ الأَصْمُّ، ففي خِضَمِّ معاركه وحروبه لم يتخلَّ عن الإنْسان فيه، وسعى إلى أن يملك قلوبَ النَّاس بالحُبِّ لا بهَيْبة الحُكم، وبالرَّحمة لا بجبروت السُّلْطة.
وقد صوَّر لنا مُعاصِروه جوانبَ من تلك الملامح من شخصيته، فها هو مؤرِّخ دِمَشْق عليّ بن الحَسَن المعروف بابن عساكر، حين يذكرُ ما كان عليه نور الدِّين من الهَيْبة والوَقار، حتَّى إنَّ أحدًا من الأُمَراء لم يكُن يجرؤ على الجلوس بحضرته إذا لم يأذن له، يتذكَّرُ زِيارةً له إلى مجلس صلاح الدِّين حين ملك دِمَشْقَ، فيرى مجلسًا يعجُّ بالحوار الصَّاخب، وكأنَّه كبعض مجالس السُّوقة كما وصفه، وصلاح الدِّين كواحدٍ من أُمرائه ومُجالسيه، لا يتميَّز عنهم بمنزلةٍ أو كلامٍ، وهي لَعَمْري ميزةٌ لم يقدِّرْها حقَّ قدرها هذا المؤرِّخ الكبير؛ الذي اعتاد السُّكون الهامد في مجلس نور الدِّين، حيث النَّاس كأنَّما على رؤوسهم الطَّير من هيبته ووقاره.
وفي حصاره الثاني لحلب، وما تخلَّله من جنوحه للصُّلح واشتطاط أعْدائه في مطالبهم، كان يكفيه خروج ابنة صغيرة لنور الدِّين إلى خيمته في اللَّيْل كي يقوم لها، ويُقبِّل الأرْضَ، ويبكي على نور الدِّين، ويهب لها بلدةً مثل عَزَاز، ويُقدِّم لها من الجواهر والتُّحف والمال الشيءَ الكثيرَ.
ورقَّته هذه كانت حتَّى مع أعْدائه، وهم يحاربونه، وقصَّته مع المرأة الصَّليبيَّة التي فقدتْ طفلَها الرَّضيعَ وقت حصارهم عكَّا مشهورة، وكيف أنَّها استغاثت بملوكها فقالوا لها عن صلاح الدِّين: إنَّه رحيم القلب، وقد أذِنَّا لكِ في الخروج إليه. فلمَّا أتته بكتْ بُكاءً شديدًا، ومرَّغتْ وجهها في التُّراب، فرقَّ لها ودَمِعَتْ عينُه، وأمر بإحضار رضيعها، ولم يزل واقفًا حتَّى أُحضر، وسُلِّم إليها.
وهذا اللُّطْف والحِلْم مع النَّاس رافقه حتَّى في مرضه الذي تُوفِّي فيه، وقد عانى فيه ما عاناه من ألمٍ وحُمَّى، فقد زاره في مرضه صاحباه القاضي ابن شدَّاد والقاضي الفاضِل، ولندع ابن شدَّاد يُحدِّثنا عن تلك الزِّيارة، يقول: ”وأسندنا ظهرَه إلى مِخَدَّة، وأُحضر ماءٌ فاترٌ يشربه عَقِيب شَرابٍ يليِّن الطبع، فشربه، فوجده شديدَ الحرارة، فشكا من شِدَّة حرِّه، فغُيِّر، وعُرض عليه ثانيًا، فشكا من برده، ولم يغضب ولم يصخب، ولم يَقُلْ سوى هذه الكلمات: سُبْحان الله لا يمكن أحدًا تعديل الماء! فخرجتُ أنا والقاضي من عنده، وقد اشتدَّ مِنَّا البُكاء، والقاضي الفاضل يقولُ لي: أبصرْ هذه الأخلاق التي أشرف المسلمون على مُفارقتها، واللهِ لو أنَّ هذا بعض النَّاس كان قد ضرب بالقَدَح رأس مَنْ أحضره“.
بل إنَّ دِمَشْق لم تشهد حُزْنًا على حاكمٍ كما شهدت يوم وفاته، فقد غشي النَّاس من البكاء والعويل ما شَغَلهم عن الصَّلاة، فما يوجد قلبٌ إلَّا حزين، ولا عينٌ إلَّا باكية، ثُمَّ رجع النَّاس إلى بيوتهم أقبحَ رجوعٍ.
ولو أطلقتُ للقلم عِنانَه لاسترسل في الحديث عن صلاح الدِّين، والحديث عنه ذو شجونٍ.
وبَعْدُ، فإنِّي أشكر للدُّكتور علاء مصري النهر، على ما بذله من جهدٍ طيِّبٍ في ترجمة هذا الكِتاب، بما عهد عنه من دِقَّة في العبارة، واستقصاء في البحث، وحَدَاه شغفه بالإتقان على تزيينه بتعليقاتٍ مفيدةٍ، زادتِ النَّصَّ وضوحًا وغِنًى، وآمُل أن يكون في عنايته به، قد سدَّ نقصًا في مكتبتنا العربيَّة تزيدنا معرفةً بصلاح الدِّين وتقديرًا له.
والله المُوفِّق لكُلِّ خيرٍ. إبْراهيم عُمَر الزِّيبق
دِمَشْق في 8 أيار/ مايو 2022م غفر الله له