Author:
علاء مصري النهر
Search for other papers by علاء مصري النهر in
Current site
Google Scholar
PubMed
Close
Free access

‫يُعَدُّ صلاح الدِّين من أكثر الشخصيَّات المُسلِمة التي حظيتْ – ولا تزال تحظى – بكثرة التآليف عنها في الغرب لسببين اثنين: أوَّلهما لهزيمته الفِرِنْج هزيمة نَكْراء في حِطِّينٍ، وآخِرُهما لمآثره معهم في عُقْب حِطِّينٍ؛ فهو العدوُّ النبيلُ! ومن ثَمَّ كثرتِ التآليفُ عن مَسِيرَته الثَّرَّة من جوانبها كافَّةً.١

‫لا عَجَبَ؛ فشتَّانَ بين فِعْل الفِرِنْج لمَّا دخلوا بَيْت المَقْدِس غُزَاةً، وبين فِعْل صلاح الدِّين لمَّا دخلها فاتِحًا: [من الطويل]‬

‫إنَّ هذه الحِقبة التاريخيَّة الفيصليَّة لها أهمِّيَّةٌ عظيمةٌ في تاريخ الشرق والغرب على سويةٍ واحِدةٍ، فما أدراك ما تلكم الحِقبة؟ إنَّها حِقبة احتكاكٍ حربيٍّ وثقافيٍّ، تخلَّص فيها الشرقُ الإسلاميُّ من المُحتَلِّ الغربيِّ، الآخِذ بلاده عَنْوةً. وتخصَّصتُ فيها إبَّان دراستي في الماجستير والدُّكتوراة؛ طلبًا للحقِّ والنَّصَفة، مُبتغيًا رصْد شمس الحقيقة، تلك التي تجري أبدًا لمُستقَرٍّ لها. فجعلتُ الماجستيرَ عن الدَّوْلة الزَّنْكيَّة، فهي الجِسْر المُوصِّل إلى تحرير بَيْت المَقْدِس على يد صلاح الدِّين. وأمَّا رسالة الدُّكتوراة، فأفردتُّها عن أبرز مُؤرِّخي تلك الحِقْبة. ثُمَّ حقَّقتُ الجزءَ السَّادس من كِتاب ”مُفرِّج الكُروب في أخْبار بني أيُّوب“ لابن واصِل الحَمَويِّ، وصدر عن مركز تحقيق التُّراث بدار الكتب والوثائق القومية المِصْريَّة في العام 2023م. وانطلاقًا من أهمِّيَّة دَوْر صلاح الدِّين المُتمِّم لدَوْرَي عِمَاد الدِّين زَنْكي وابنه نور الدِّين مَحْمودٍ في جهاد الفِرِنْج، ترجمتُ أهمَّ كِتابٍ صُنِّف عن صلاح الدِّين في الغرب، أعني كِتابَ ستانلي لين–بول (Stanley Lane-Poole)، وصدر عن الدار المصريَّة اللُّبنانيَّة في العام 2023م. لقد صنَّف لين-بول كِتابَه الفريد عن صلاح الدِّين عند مُنقلَب القرن التاسع عشر، ثُمَّ جاءتِ الكُتبُ الغربيَّةُ عنه من حينها تَتْرَى. وبهذا أخذتْ فضائلُ صلاح الدِّين المطوية في الذَّيَعان والانتشار.‬

‫ولكون ديفيد نيكول (David Nicolle)، مُؤرِّخًا عسكريًّا إنكليزيًّا، له كِتاباتٌ ثِقَالُ الوَطْأَة في الغرب، تتَّسمُ بالموضوعيَّة إلى حدٍّ كبيرٍ، ويأتي في سَنَام أعْماله هذا الكِتاب الذي نحنُ في رِحابه نتجوَّلُ وعمَّا قريبٍ سنقطفُ من ثماره اليُنْع؛ إذ يتناوَلُ الجانِبَ القياديَّ والإستراتيجيَّ والصِّراعيَّ من مسيرة صلاح الدِّين على نحوٍ أَخَصَّ، ومن ثَمَّ وقع عليه اخْتِياري. فالمُؤلِّف يتَّخذُ موقفًا بينَ بينَ من صلاح الدِّين، مُتجنِّبًا التَّفريط والإفْراط: فلا هو بالمُؤيِّد القُحِّ، ولا هو بالمُتحامِل الإدِّ، وإنْ كان إلى الحِياد أقربَ.‬

‫بدأ تعرُّفي إلى المُؤرِّخ الإنكليزيِّ ديفيد نيكول في يوليو 2019م لمَّا التقينا ضمن فعاليات المُؤتمَر الدُّوَليِّ عن ”الفروسيَّة والفنون الحربيَّة في عصر سلاطين المماليك“ بمكتبة الإسكندريَّة العامِرة، ومُذْ تلكم المُناسَبة أخذتُ أنقِّب عن مُؤلَّفاته، حتَّى شدَّني هذا الكِتابُ شَدًّا، فعرضتُ عليه ترجمتَه، فمَرْحَب بالفكرة وهشَّ لها، وأمدَّني بنُسْخةٍ منه.‬

‫وحقيقٌ عليَّ أن أُحيط سيِّدي القارِئَ الكريم عِلْمًا بسِيرة المُؤلِّف، وبسُهْمَته العلميَّة:‬

‫فأمَّا المُؤلِّف، فهو ديفيد تشارلز نيكول، وُلِدَ في مدينة لندن في الرابع من إبريل 1944م، وعمل لدى تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانيَّة (BBC) في الفترة من 1963 إلى 1967م. ثُمَّ بعدما سافَر في ربوع الشرق الأوسط وشغفتْه حُبًّا الحضارةُ الإسلاميَّةُ، أُعير إلى قسم الإذاعات العالَميَّة بهيئة الإذاعة البريطانيَّة؛ حيث عمل كاتِبًا للمحادثات في فرع الإذاعة النَّاطِق بالعربيَّة في الفترة من 1967 إلى 1971م. وفي هاتِه الغُضونِ بدأ في الكتابة لمجلاتٍ تعليميَّةٍ عن المواضيع التاريخيَّة والأثريَّة. وفي العام 1972م عاد أدْراجَه إلى الجامِعة حتَّى حصل على درجة الدُّكتوراة من جامعة إدنبرة (University of Edinburgh) العريقة في العام 1982م، وكانت رِسالته بعنوان ”التكنولوجيا العسكريَّة إبَّان العصور الإسلاميَّة الذَّهَبيَّة“ (The Military Technology of Classical Islam)، سعى فيها جاهِدًا إلى جمْع أدلَّةٍ عن الأسلحة والدُّروع المُستخدَمة في الحضارة الإسلاميَّة أثناء العصور الوسطى (منذ القرن السادس إلى الرابع عشر للميلاد)، وذلك بالاستناد إلى مَصادِرَ قروسطيَّةٍ أثريَّةٍ: المكتوبة والمُصوَّرة.‬

‫بجانب مُحافَظة نيكول على كِتابة مقالات لمجلَّاتٍ تعليميَّةٍ، نَهَدَ أيضًا إلى تصنيف كُتُب عن أسلحة العصور الوسطى ودُروعها، وعن التاريخ الحربيِّ، لا سيَّما في العالَم الإسلاميِّ. وفي العام 1983م عمل أُستاذًا مُحاضِرًا بجامِعة اليرموك بالأُرْدُنّ، فظلَّ يُدرِّسُ بها حتَّى العام 1987م. وعَقِيب أَوْبتِه إلى إنكلترا، واصَلَ الكِتابةَ حتَّى صار لديه الآن ما يُناهِزُ المئة كِتابٍ عن تاريخ التكنولوجيا العسكريَّة في الشرق الأوسط ووَسَط آسيا وجنوبها أثناء العصور الوسطى. ومنذ العام 1995م يُشارِكُ نيكول – فوق ذلك – في البحث الأثريِّ المُهتَمِّ في المَقام الأوَّل بالكشوفات عن الآلات الحربيَّة في العصور الوسطى وأوائل العصر العُثْماني في سُورِيَة، بالتعاون مع فِرَق الآثار الفرنسيَّة والسُّوريَّة.‬

‫عَوْدٌ على بَدْءٍ، وأمَّا سُهْمَتُه العلميَّة فكثيرةٌ غزيرةٌ٣ ، وأغلبُها مُنصَبٌّ على الأسلحة الإسلاميَّة في العصور الوسطى. ومن باب زيادة الفائدة أقول: إنَّ نيكول سَبَرَ أغْوارًا عميقةً من عبقريَّة صلاح الدِّين الحربيَّة، وقد تجلَّى ذلك في مُؤلَّفاته الأُخَرِ التالية:‬

  • Saladin and the Saracens: Armies of the Middle East, 1100–1300. Osprey Men-at-Arms Series, 171, London 1986.

  • Hattin, 1187: Saladin’s Greatest Victory. Osprey Campaign Series, 1 London 1993.

  • The Third Crusade 1191: Richard the Lionheart, Saladin and the Struggle for Jerusalem. Bloomsbury USA 2005.

  • The Background, Strategies, Tactics and Battlefield Experiences of the Greatest Commanders of History. Osprey Publishing 2011.

‫لا غَرْوَ أنْ شَهِدَ المُؤلِّفُ ببراعة صلاح الدِّين وحُنْكَتِه حربيًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا، ولم يتحيَّز – و”المُتحيِّز لا يُميِّز“٤ – لبني جِلْدَته: [من الكامل]‬

‫بدأ المُؤلِّف كِتابَه بمُقدِّمةٍ، تطرَّق فيها إلى تاريخ الشرق الإسلاميِّ عَشِيَّة مَوْلِد صلاح الدِّين، ثُمَّ أردفها بجدولٍ زمنيٍّ بأبرز المحطَّات في مسيرته، من المحيا إلى الممات. ثُمَّ غاص في طَوْر طفولة صلاح الدِّين، وتنشئته العسكريَّة، ثُمَّ تحدَّث عن انتصاره الحاسِم في حِطِّينٍ. كما خصَّص جزءًا فريدًا عن أهمِّ القادة الذين عارَضوا صلاحَ الدِّين، اثنان منهم من المُسلِمين، هما: شاوَر السَّعْديّ، وعِزّ الدِّين مسعود ”الأوَّل“ الزَّنْكيّ، وثلاثة من الفِرِنْج، وهم: أَرْناط، والملك أملريك (= عموري الأوَّل)، ورتشارد قلب الأَسَد. ثُمَّ تفرَّد بالتَّطرُّق لمُعتَقَدات صلاح الدِّين وسَبْر أغْواره، منها عدم إيمانه بالخُرافات ونبوءات السَّحَرة. كما أشار إلى أنَّ أهمَّ سِمَةٍ في نظامَيْه السِّياسيِّ والعسكريِّ هي التَّضامن الأسَري. وتطرَّق إلى تحالُفاته عن طريق المُصاهَرة، واهتمامه بالأُسْطول المِصْريّ، وتشييد الطُّرق والجسور والخانات، واهتمامه بالتِّجارة في البحر الأحمر. وألمع إلى أهمِّيَّة الدَّوْر الذي كان يُؤدِّيه دِيوان الإنْشاء في دعْم حروبه.‬

‫ثُمَّ يذكر قولَ الفَصْل في سِيرَة صلاح الدِّين من جانب الفِرِنْج – بل من جانِب الغرب الآن – ومن جانِب المسلمين من قُدْماهم إلى حُدْثاهم: أبدى قادة الحملة الصَّليبيَّة الثالثة إعْجابَهم به، ويراه بعضُهم – مع ذلك – مُخادِعًا. ثُمَّ أخذتْ صورة صلاح الدِّين تتعدَّل في الغرب شيئًا فشيئًا في خواتيم القرن الثاني عشر للميلاد، وآيةُ ذلك ما ورد في ”الكوميديا الإلهيَّة:Divina Commedia“ لدانتي (Dante). ثُمَّ صار يُنظَرُ إليه في الغرب إبَّان القرن التاسع عشر على أنَّه شخصيَّةٌ بطوليَّةٌ، وعلى أنَّه العدوُّ المُسلِم النَّبيل. أمَّا المُسلِمون المُعاصِرون له، فقِسْمانِ اثنان: قِسْمٌ مُؤيِّدٌ، على رأسه بَهاء الدِّين ابن شدَّاد المَوْصِليّ، والعِمَاد الكاتِب الأَصْفَهانيّ، وقِسْمٌ آخَرُ مُؤيِّدٌ للزَّنْكيين كعِزِّ الدِّين ابن الأثير الجَزَريّ، الذي برُغْم ذلك نافَحَ عن صلاح الدِّين في قراره بضرورة استئصال شأفة حصار عكَّا في مَهْده. كما بيَّن أنَّ العُرْبان في أوائل عصر سلاطين المماليك كانوا ينظرون إلى حُكْم آل أيُّوب على أنَّه حُكْمُ خوارج خرجوا على البلاد. أمَّا العرب في العصر الحديث، فمنهم مَنْ يُقلِّل دَوْرَ صلاح الدِّين بالحديث عن دَوْر أسْلافه من قادة الجِهاد الإسلاميِّ ضد الصَّليبيين كعِمَاد الدِّين زَنْكي ونور الدِّين محمود، ومنهم مَنْ يتَّخذه قدوةً يقتدي بها في الصِّراع مع العدوِّ الصهيونيِّ، وهذا اجتعل بعض المُؤرِّخين المُؤيِّدين للصهيونيَّة ينالون منه كُلَّ نَيْلٍ.‬

‫ينتقِد المُؤلِّفُ صلاحَ الدِّين في أنَّه لم ينجح عمليًّا في ربْط مِصْر والشَّام عبر وَحْدةٍ دِينيَّةٍ أو عسكريَّةٍ أو اقتصاديَّةٍ، وقد أمسى هذا الضَّعْفُ بادِيًا للعِيَان غِبَّ وفاته. ويُبيِّن بعضَ مَثالِبَ من ضعفٍ وقُصورٍ في قيادة صلاح الدِّين؛ الذي اتَّخذ – من ثَمَّ – الجِهادَ وسيلةً لشرعنة حُكْمه، ويحذو نيكول في ذلك حَذْوَ المُؤرِّخ اليهودي أندرو إهرنكروتز (Andrew Ehrenkreutz). ويُقِرُّ – مع ذلك – بأنَّ صلاح الدِّين كان أكثرَ مُعاصِريه نجاحًا في التَّغلُّب على الفُرْقة والشِّقاق.‬

‫ومِمَّا زاد الكِتاب بَهاءً ومَتاعةً، وزانه هي تيك الخرائط وهاتيك الصُّور التي حواها بين دَفَّتَيْه؛ فأكثر الصُّور التقطها المُؤلِّف بنفسه أثناء جولاته بمِصْر وسُورِيَة والأُرْدُنّ والعِراق وتركيا.‬

‫ولستُ أريدُ بهذه الكلمة أن أُطيلَ الوقوفَ أمام عناصِر هذا السِّفْر الرَّصين، وحَسْبي أن أُهيِّئ للقارِئ الكريم مُدخَلَ صدقٍ إلى شوابك القضايا والمسائل؛ حتَّى يُؤسِّس – على مُكْثٍ – لنفسه معرفةً وثيقةً بهذا البطل المُسلِم.‬

‫كنتُ أعتقدُ وأنا أُترجِم كِتاب ستانلي لين-بول عن صلاح الدِّين أنَّه كما يقول المَثَل العربيُّ: ”كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْف الفَرَا“٦ ، بَيْدَ أنِّي لمَّا ترجمتُ هذا الكِتاب قلتُ: قد ترك الفَرَأُ٧ بعضَ الصَّيْد لهذا الكِتاب، فبرُغْم صِغَر حجمه إلَّا أنَّه مُكمِّلٌ مُهمٌّ لكِتاب لين-بول؛ إذ سدَّ النَّقْصَ الذي شابه بسببٍ من صدوره منذ ما يربو على قرنٍ من عُمر الزَّمان، فلَعَمْري كأنَّ نيكول – وهو مَنْ قدَّم لكِتاب لين-بول في العام 2002م بمُناسَبة مرور مئة عامٍ على صدوره٨ – قد تتبَّع النَّقصَ في كِتاب لين-بول وعالَجه في كِتابه هذا، والأمثلةُ كثيرة تُعجِزُ الحَصْرَ، منها:‬

  • ‫تجنُّب لين-بول القول بأنَّ الصَّليبيين كانوا غُزَاةً، بينا صرَّح نيكول في أكثر من موضعٍ عن كونهم كانوا غُزَاةً مُحتلِّين.‬

  • ‫انتقد تأكيد لين-بول الواضِح على أُصول صلاح الدِّين الكُرْديَّة، ويرى – وهو عَيْن الحقِّ – أنَّ صلاح الدِّين نُشِّئ وعُلِّم في بلاطٍ إسْلاميٍّ ذي أَثارةٍ من ثقافةٍ عربيَّةٍ أَصيلةٍ، تسيطر عليه نُخْبةٌ عسكريَّةٌ تُرْكيَّةٌ؛ فالأُصولُ الكُرْديَّةُ للأُسْرة الأيُّوبيَّة خارِجةً بِرُمَّتها عن الموضوع، اللَّهُمَّ إلَّا لكونها مصدرَ دعمٍ سياسيٍّ وعسكريٍّ لمَّا أمسى صلاحُ الدِّين لاعِبًا رئيسًا في سياسات القُوَّة في أيَّامه. ويُؤكِّد أنَّه في عصر لين-بول أفرط بعضُ المُؤرِّخين في تأكيد أُصول صلاح الدِّين الكُرْديَّة؛ وذلك لأنَّهم كانوا يُكِنُّون في صُدورِهم إنْكارَ دَوْر عَرَب مِنْطقة الهلال الخصيب البارِز في صُنْع حوادث تاريخهم إبَّان القرن الثاني عشر للميلاد.‬

  • ‫يبيِّن أنَّ فَهْمَ لين-بول للنواحي البحريَّة الخاصَّة بنضال المسلمين ضد الصَّليبيين في البحرين المتوسط والأحمر قاصِرٌ؛ ومن ثَمَّ سيجد القارئ إشاراتٍ كثيرةً عن حُروب صلاح الدِّين البحريَّة في تضاعيف هذا الكِتاب.‬

‫عَسِيٌّ بالذِّكْر أنَّ نيكول لم يتأثَّر بمَوْجة رُهَاب الإسلام (Islamophobia) التي تُشوِّه وَجْهَ الكِتابات الحاليَّة كثيرًا، فهو بَرَاءٌ – وإلى حدٍّ كبيرٍ – من دبيب العُنْصُريَّة التي يمكن الوقوف عليها في كِتابات أكثر الباحثين الغربيين، وآية ذلك شهادتُه في حَقِّ صلاح الدِّين: [من الكامل]‬

‫لعلَّ تصدير المُؤلِّف لهذه التَّرْجَمة العربيَّة يُضفي على كِتابه حُلَّةً قشيبةً، لا سيَّما وأنَّ الكِتاب قد مرَّ على صُدوره ما ينيف على عَقْدٍ من الزَّمَن. وتشرَّفتُ أيَّما تشرُّفٍ بتقديم المُحقِّق السُّوريِّ العلَّامة النَّابِه إبْراهيم عُمَر الزِّيبق (1953م-) دِهْقان التَّاريخ الأيُّوبيّ، وأنجب تلامِذة العلَّامتَينِ: المُحدِّث الثَّبْت شُعَيْب الأرنؤوط (ت. 2016م)، واللُّغويّ الخِرِّيت أحمد راتِب النَّفَّاح (ت. 1992م)، رحمهما الله تعالى. إذ له في نَفْسي – وقد قرَّبني منه نَجِيًّا – عربونُ وفاءٍ ووِدٍّ وحُبٍّ ووِدادٍ، مُلبَّد بغيوم الصِّدق والعِرْفان. وهو قد شغف بتحقيق التُّراث منذ أوائل العام 1980م، فصدر من تحقيقه: الجزء الخامِس عشر من ”سِير أعْلام النُّبلاء“ للشَّمْس الذَّهَبيِّ في العام 1983م، والجزء التاسع والعشرون من ”مُختصَر تاريخ دمشق“ لابن مَنْظور في العام 1988م، والجزء الثالث والرابع من ”طبقات عُلَماء الحديث“ لابن عبد الهادي في العام 1989م، والجزء الثاني عشر من ”البداية والنِّهاية“ لابن كثير في العام 2007م. وشارك في تحقيق ”مُسْنَد الإمام أَحْمَد“، وتخريج أحاديثه مع شَيْخه شُعَيْب الأرنؤوط، وصديقه المُحقِّق محمد نعيم العِرْقُسوسيّ. لكن أبرز أعْماله التي ملكتْ عليه لُبّه كُتُب أبي شامة المَقْدِسيِّ (ت. 665هـ = 1268م) التاريخيَّة؛ فأعاد تحقيق كِتابه ”الرَّوْضَتينِ في أخْبار الدَّوْلتينِ النُّوريَّة والصَّلاحيَّة“، وصدر في خَمْسة أجْزاء في العام 1997م، و“المُذيَّل على الرَّوْضتينِ“ في جزءَيْنِ في العام 2010م. إذ يرى الزِّيبق أنَّ كِتاب ”الرَّوْضتينِ“ يكتسب الآن أهمِّيَّةً خاصَّةً في ظلِّ صراعنا مع الصهيونيَّة؛ نظرًا للتشابُه الواضِح بين الصَّليبيين والصهيونيين، وبيَّن أنَّ الصهيونيين يدركون هذا التَّشابهَ بين احتلالهم لأرْضنا واحتلال الصَّليبيين لها من قبلُ، فهناك فِرَق عملٍ كاملة في الجامعة العبريَّة، تقوم بدراسة موقف أجْدادنا، وتُحلِّله من جذوره؛ كي يتفادوا نهايةً كنهاية حِطِّين وما تلاها. وهذا ما شجَّعني على أنْ أسعى سعيًا حثيثًا لأنال شرفَ تقديم هذا العالِم الجليل البحَّاثة؛ فهو الحفيُّ بصلاح الدِّين كُلّ الحِفاية، وما تقديمه منك ببعيدٍ! فله الحُبُّ واصِبًا والشُّكْرُ مَحْضًا: [من المتقارب]‬

‫خرج بنا الكلام عن مقصده، فلنعُد إلى ما كُنَّا بصدده، فأقول: كان المُؤلِّف معي في كُلِّ صغيرٍ وكبيرٍ وأنا أُترجِمُ كِتابَه؛ إذ كنتُ أُمطِرُه بسَيْلٍ من الأسئلة آناء اللَّيْل وأطْراف النَّهار، فكان يُجيبُ عنها بغير أناةٍ. وممَّا يجدر بالذِّكر ها هُنا أنَّه لم يُوثِّق رواياتِه إلَّا في القليل النَّادر، فكنتُ أرجع إليه سائله عن مَظانِّه – لا سيَّما الأجنبيَّة – فكان يمُدّني بها؛ مِمَّا أثرى التَّرْجَمة ففاقت – وبلا أيَّة مُبالَغةٍ – الأصلَ في كثيرٍ.‬

‫في الحقِّ، كُنتُ أقف عاجِزًا أمام بعض النُّصوص، فأرجع إليه؛ فيفتح لي مَغاليقَه. ولمَّا كُنتُ أنبِّهه إلى إحدى ”القَواقِع المطبعيَّة“ أو هَنَاتٍ في مَطَاوي عمله، لم أجده مُكابِرًا، فعلى سبيل المثال – وكم لذلك من أخواتٍ! – لمَّا وجدتُّ (Qawn al-Rish) رجعتُ إليه مُستفسِرًا، فقال لي: رُبَّما عَثْرة مطبعيَّة. فبان لي – بعد البحث المُستأني – أنَّها بَلْدة (كوم الرِّيش) قُرْب القاهِرة، ولمَّا أخبرته سلَّم شاكِرًا.‬

‫كان المُؤلِّف أحيانًا يطلبُ مني تحديث بعض الفِقَر، وقد وقع ذلك – مثلًا – فيما يتعلَّق بإشاعة زواج صلاح الدِّين من ابنة شاوَرٍ السَّعْديّ، فطلب مني تغييرها ليكون زواجًا مُتبادَلًا؛ أيْ يتزوَّج صلاح الدِّين من أُخت الكامِل بن شاوَرٍ ويتزوَّج الكامِل من أُخت صلاح الدِّين. ومع أنَّ المُؤلِّف بارِعٌ ونِقَابٌ١١ في الجوانب العسكريَّة؛ إذ الفنُّ فنُّه والمَيْدان مَيْدانه، كان يخلِطُ بين بعض الحوادث، وتجلَّى ذلك في خلْطه بين مُحاوَلتَي قتْل صلاح الدِّين على يد الحَشِيشِيَّة أمام حَلَب وعَزَاز؛ إذ جعلهما مُحاوَلةً واحِدةً أمام حَلَب! كما أنَّه خلَط بين بعض حوادث معركتَي صلاح الدِّين ضد الزَّنْكيين في قُرون حماة وفي تلِّ السُّلطان، فجعلهما معركةً واحِدةً!١٢

‫أمَّا عن عملي في الكِتاب، فلم أتلاعب بالصِّياغة للتَّعفية على الأصل، بل عَضَدتُّ الأصلَ بتخريج النُّصوص من مَظانِّها العربيَّة والأجنبيَّة على سواءٍ، كما خرَّجتُ تلك التي لم يُشِرِ المُؤلِّفُ إليها، وهي كثيرةٌ ناصِبةٌ، وفرَّقتُ بين هوامِش المُؤلِّف وهوامِشي بأنْ جعلتُ هوامشي بين معكوفتين، ومشفوعةً بكلمة (المُترجِم). وضعتُ الاسْمَ الأجنبيَّ رِفْقة تعريبه عند أوَّل ذِكْرٍ له، وترجمتُ في الهامِش للشخصيَّات الوارِدة بالمتن، وعرَّفتُ كثيرًا من الألفاظ الغريبة؛ حتَّى يسهُلَ على القارِئ فَهْمُ النَّصِّ. وكان المُؤلِّفُ قد أورد جميعَ التواريخ ميلاديَّةً، فوضعتُ قبلَها مُقابِلَها الهجريَّ، مُستنِدًا في ذلك إلى المَصادِر العربيَّة المُعاصِرة، مثل ”النَّوادر السُّلْطانيَّة“ لبَهاء الدِّين ابن شدَّاد، و“الرَّوْضَتَيْنِ“ لأبي شامة.‬

‫بعد هذا – ويكفي هذا – لعلِّي أتركُ سيِّدي الكريم مع الكِتاب؛ حتَّى يعيشَ مع النَّصِّ، فهو مرآةُ كُلِّ تيك المعاني؛ بل هو هي في عَيْن المَقام، وفي نَفْس الأمْر١٣.‬

‫اللَّهُمَّ غيرَ وجهكَ الكريم ما ابتغيتُ، وسوى النَّفعِ لخَلْقكَ ما نويتُ، وعليكَ رجائي ألقيتُ. وأنا أستقلُّ سيِّدي القارِئَ الكريمَ فيه السَّقَطات، وأَستوهِبُه التَّجاوز عن الفَرَطات.‬

‫ثَغْر الإسكندريَّة المحروس، في يوم الاثنين علاء مصري النهر

‫24 رَمَضان 1443هـ/ 25 إبريل 2022م غفر الله له‬

١

‫ثَمَّ مقالةٌ قيِّمةٌ مُحكَمةٌ بعنوان ”صلاح الدِّين ومُعجَبوه“ لبيتر مالكولم هولت (P.M. Holt)، ونظرًا لأهمِّيَّتها الكبيرة، ترجمتُها وألحقتُها بالكِتاب، يُنظَر: مُلحَق رقم (1).‬

٢

‫الأبيات لأبي الفَوارِس سَعْد بن مُحمَّد ابن صَيْفي التَّمِيميّ، المعروف بحَيْصَ بَيْصَ، ت. 574هـ = 1178م. (وفيَات الأعيان 2: 365؛ الوافي بالوفيَات 15: 168).‬

٣

‫يُنظَر: المُلحَق رقم (2)؛ إذ أفردتُّه عن أهمِّ مُؤلَّفاته.‬

٤

‫من حِكَم أحمد شوقي، يُنظَر كِتابه: ”أسْواق الذَّهَب“، القاهرة – مطبعة الهلال، 1932م، ص114.‬

٥

‫البيت لأبي الحَسَن السَّريِّ الرَّفَّاء المَوْصِليِّ، (ت. نحو 366هـ = 976هـ). يُنظَر: ”ديوانه“، تقديم وشرح كرم البستاني، بيروت – دار صادر، 1996م، ص16.‬

٦

‫لفضل بيانٍ، راجع وبلا بُدٍّ: ”مَجْمَع الأمثال“ لأبي الفَضْل المَيْدانيِّ، حقَّقه محمد مُحيي الدِّين عبد الحميد، مطبعة السُّنَّة المُحمَّديَّة، 1955م، 2: 136؛ ”قِلادة النَّحْر في وفيَات أعيان الدَّهْر“ للطَّيِّب بامَخْرَمة الحَضْرَميّ، عني به بوجمعة مكري، خالد زواري، جُدَّة – دار المنهاج، ط1، 2008م، 2: 279.‬

٧

‫الحِمَار الوَحْشيّ. يُنظَر: ”مُخْتار الصِّحاح“، (فرأ).‬

٨

‫وقد أمدَّني بهذا التَّقديم الباذِخ، وألحقتُه بكِتاب لين-بول مُعرَّبًا؛ فأنا له شاكِرٌ.‬

٩

‫بيتٌ مشهورٌ، ورد في: النَّوادِر السُّلْطانيَّة للبَهَاء ابن شدَّاد، ص240.‬

١٠

‫البيتان لعليّ بن الجَهْم، يُنظَر: ديوانه، عني بتحقيقه خليل مَردم بك، بيروت – منشورات دار الآفاق الجديدة، ط2، 1980م، ص140.‬

١١

‫النِّقَاب: الرَّجُل العالِم بالأشياء، المُبحِّث عنها، والفَطِن الشَّديد الدُّخول فيها. يُنظَر: ”لِسان العرب“ (نقب).‬

١٢

‫أرجو ألَّا يُسافِر وَهْمُ بعضِ النّاس إلى أنَّني أتنقَّصُ بذلك من عِلْم هذا العالِم الرَّاسِخ، حاشى لله، وله في قلبي كبيرُ تقديرٍ، ولكن هل من شَرْط العالِم ألَّا يُخطئ؟‬

١٣

‫نَفْسُ الأمْر: اصطلاحٌ فلسفيٌّ منطقيٌّ أحيانًا، وعِرفانيٌ في أحايينَ أُخَرَ، أشكل على المناطقة ذات المِرَار؛ سالِبًا إيَّاهم غيرَ قليلٍ من أوقاتهم وصحائفهم. وهو بتلخيصٍ مُخِلٍّ: الأمْر من حيثُ ذاته، وباعتبار ذاته فقط.‬

Citation Info

  • Collapse
  • Expand

صلاح الدين: القيادة - الإستراتيجية - الصراع

[Ṣalāḥ al-Dīn: A Translation of David Nicolle's Work on Saladin with Commentary]

Series:  الحضارة العربية والإسلامية, Volume: 11