الخلاصة
يقدم هذا البحث مدخلاً جديدًا لدراسة العلاقة بين الفقه والأخلاق من خلال تأمل الأحكام الفقهية نفسها وما إذا كانت تستند إلى بنية أخلاقية بالمنظور الحديث، سواءٌ الأخلاق المعيارية أم التطبيقية، وهي محاولة لتجاوز مجرد الانشغال بالصياغة المعاصرة للأحكام الفقهية إلى معالجة مشاغل حديثة وتأمل العقل الفقهي نفسه من خلال موضوعاته وأحكامه. ويتخذ الباحث من أحكام الإجهاض في المذهب الحنبلي نموذجًا تطبيقيًّا للقراءة المنظومية الأخلاقية التي يقترحها، وهي تعني أربعة أمور: الأول: اعتبار أحكام الجنين في مختلف الأبواب منظومةً متكاملةً وحَمْل بعضها على بعض، والثاني: تَتَبع عِلَل الأحكام التي تختلف بحسب كل مسألة، والثالث: استيعاب كتب المذهب بأشكالها المختلفة، والرابع: الجمع بين الفروع والأصول عبر تأمل منهجية الحنابلة في تقرير مسائل الإجهاض.
وبناء على هذه القراءة المنظومية اتضح أن أحكام الإجهاض في المذهب تدور على ثلاثة أوصاف هي: انعقاد النطفة ولدًا بِتَحولها إلى علقة وهو أول أحوال الحمل، والتخليق وهو ظهور صورة الإنسان فيه أو بعضها، ونفخ الروح. وتختلف أحكام الجنين - وهي كثيرة - بحسب هذه الأوصاف وجودًا وعدمًا، وقد أثبت الحنابلةُ للجنين نوع استقلالية ولكنها ليست مطلقة، فحياة الجنين ليست كاملة ما دام يتحرك بغيره.
يقوم الفقه الحنبلي عامةً على المنهجية النصية والبعد عن الرأي المجرد، ويحاول إعمال جميع النصوص ما أمكنَ، ولكن فقهاء المذهب المتأخرين اعتنوا بتعليل المسائل وبيان وجه الحكم ضمن نظرٍ يَنتظم جميع الأحكام بما ينسجم مع قواعد المذهب وأصوله، ولو نظرنا إلى تعليلاتهم هنا نجدها تقوم على نظرين: أخلاقي وديني، يتلخصان في: (1) مركزية الروح الإنسانية، (2) ومراعاة الحياة الاعتبارية السابقة على نفخ الروح، (3) ووجود صفة الآدمية في الجنين واحترامها، (4) وأن الكلام في الجنين وأحكامه عامة مسألةٌ تتعلق بقضية الخلق الإلهي والحكمة المرادة منه.
مقدمة
انشغلت الكتابة الفقهية الجديدة بطرائق عرض الموضوع الفقهي وإعادة تقديمه بصيغة معاصرة، وساد المنزع القانوني في بعض الحالات كما في الكتابات حول تقنين الفقه والنظريات الفقهية، ولكن إعادة التفكير بأحكام الفقه من منظور أخلاقي بقيت غائبة أو هامشيّة، خاصةً أن ثمةَ تساؤلاً حديثًا عن غياب الأخلاق بوصفها حقلاً مستقلاً داخل تصنيف العلوم الإسلامية، وما إذا كان علماء الإسلام قد اكتفَوا بعلم الفقه عن التأسيس لعلم مستقل للأخلاق (الخطيب 2017، 87–89)، وهو ما يطرح بدوره تساؤلاً عن شكل العلاقة بين الفقه والأخلاق من المنظور المعاصر، وعما إذا كان من الممكن القول: إنه لا يمكن—في نظر الفقهاء الكلاسيكيين—إدراك الأخلاقي إلا من خلال الفقهي الذي يدور على منظومة الأحكام الخمسة.
وقد اتخذ الدرس الأخلاقي المعاصر في علاقته بالفقهي أربعة مداخل: الأول: البحث عن ”آيات الأخلاق“ في مقابل ”آيات الأحكام“ (الخطيب 2017)، والثاني: تأويل النصوص الأخلاقية التشريعية في القرآن بناء على القراءة السياقية؛ التي تقوم على مقصدية القيمة الأخلاقية الثاوية وراء الأحكام النصية لا الصيغة التشريعية النصية نفسها (Rahman 1989, Saeed 2004, Saeed 2014)، والثالث: البحث عن إعادة الوصل بين الظاهر والباطن بالاستناد إلى الممارسة الصوفية (عبد الرحمن 1997)، ويمكن أن نجد في أعمال الغزالي (505هـ) والعز بن عبد السلام (660هـ) والشاطبي (790هـ) معالجات تتصل بهذا. أما المدخل الرابع فقد توجه إلى دراسة علم الفقه باعتباره حقلاً أخلاقيًّا (Reinhart 1983، الخطيب 2011).
هذا البحث يقترح مدخلاً خامسًا وهو تأمل الأحكام الفقهية نفسها وما إذا كانت تستند إلى بنية أخلاقية بالمنظور الحديث، سواءٌ الأخلاق المعيارية أم التطبيقية، فالأخلاق المعيارية تبحث في الأحكام والتقويمات الجوهرية والتعليلات التي توفر المسوغ الأخلاقي للحكم وتجعله معقول المعنى، والأخلاق التطبيقية تنصرف إلى استيعاب التطبيقات العملية للمسألة المبحوثة على اختلاف أحوالها العادية والاستثنائية والملابسات التي تَحُفّ بها فتؤثر في بناء الحكم التقويمي. ومن خلال هذا المدخل يمكن لنا تجاوز مجرد الانشغال بالصياغة المعاصرة للأحكام الفقهية إلى معالجة مشاغل حديثة وتأمل العقل الفقهي نفسه من خلال موضوعاته وأحكامه، وسنجعل من أحكام الإجهاض في المذهب الحنبلي نموذجًا تطبيقيًّا لهذا.
1 أسباب اختيار المذهب الحنبلي
ولكن لماذا المذهب الحنبلي تحديدًا؟ لأن الصورة الشائعة عنه أنه مذهب نصيٌّ أقرب إلى نظرية الأوامر الإلهية (Divine Command Theory) منه إلى نظرية التعليل الأخلاقي، وهو ما يفرض علينا تحديًا أصعب في اختبار فرضية التداخل بين الفقهي والأخلاقي. ولماذا الإجهاض؟ لأنه مسألة نموذجية يشترك فيها النقاش الأخلاقي الحديث والنقاش الفقهي القديم. ولكن البحث عن مذهب الحنابلة في الإجهاض فيه صعوبةٌ وعُسرٌ، ولذلك افتقرَت بعض الأبحاث المعاصرة إلى الدقة في تقرير مذهبهم (مثلاً: ياسين 2008، 204–206، والموسوعة 1983، 58–59)، ومصدرُ هذه الصعوبة أمران:
الأول: تَعَدد “الروايات” عن إمام المذهب، وتعدد “الوجوه” عن أصحاب المذهب، وتعدد “الطرق” في النقل عن الإمام أو المذهب.
والثاني: أن الإجهاض ينبني عليه كثيرٌ من الأحكام الفقهية المتصلة بعدد من أبواب الفقه، ولذلك ذُكر الإجهاضُ في ستة كُتُب بحسب تقسيم الفقهاء، وهي كتُب الطهارة، والجنائز، والزكاة، والعِتق، والعِدَد، والجنايات. ففي الطهارة يتحدث الحنابلةُ عن متى تَطهُر النُّفَسَاء وإباحة إلقاء النطفة وغير ذلك، وفي الجنائز يتحدثون عن موت الأم وفي بطنها جنين يتحرك، وعن النصرانية تموت وفي بطنها جنين مسلم أين تُدفن؟، وغير ذلك، وفي الزكاة يتحدثون عن زكاة الفطر عن الجنين، وفي العتق يتحدثون عن أم الولد: وهي الأمَة التي تحمل من مالكها، وعن عتق الجنين وغير ذلك، وفي العِدَّة يتحدثون عن وقت انقضاء عدة الحامل، وفي الجنايات يتحدثون عن أحكام الجناية على الجنين.
2 منهج الدراسة:
والمنهج الذي نقترحه هنا هو القراءة المنظومية الأخلاقية للفقه الإسلامي من خلال نموذج أحكام الإجهاض، ونعني بالنظر المنظوميّ الأخلاقي أربعة أمور:
الأول: اعتبار أحكام الجنين في مختلف الأبواب منظومةً متكاملةً وحَمْل بعضها على بعض؛ ذلك أن الصياغة الفقهية الكلاسيكية درَجت على تشتيت المسائل ذات الوحدة الموضوعية، فكثير من الفقهاء يذكرون المسائل الفرعية عند أدنى مناسبة لها، مما تَرتب عليه ذِكْر مسائل ذُكرت في غير مَظِنتها أو قد تتوزع المسألة الواحدة على أبواب متعددة بحسب مُتَعَلَّقاتها كما في حالة الإجهاض مثلاً، وهو ما دفع الزركشي الشافعي (794هـ) إلى لَمّ شتات المسائل التي ذكرها شيخا المذهب الشافعي: الرافعي (623هـ) والنووي (676هـ) في غير مظانها في كتابٍ سماه ”خبايا الزوايا“ (الزركشي 1982).
الثاني: تَتَبع عِلَل الأحكام التي تختلف بحسب كل مسألة؛ حتى يمكننا الوقوف على نظام التفكير الفقهي في الإجهاض في المذهب الحنبلي.
الثالث: استيعاب كتب المذهب بأشكالها الأربعة: (1) الكتب التي تقرر المعتمد في المذهب ككتاب ”المنتهى“ لابن النجار (972هـ) و”الإقناع“ للحِجاوي (968هـ)، (2) والكتب التي تستقصي الروايات المتعددة في المذهب ككتاب ”الإنصاف“ للمرداوي (885هـ) و”الفروع“ لابن مفلح (763هـ)، (3) والكتب التي تعتني بذكر أدلة المذهب في تقرير أحكامه ككتاب ”المغني“ لابن قدامة (620هـ) و”المبدع“ لابن مفلح، (4) والكتب التي تقرر القواعد الفقهية في المذهب ككتاب ”القواعد“ لابن رجب (795هـ).
الرابع: الجمع بين الفروع والأصول عبر تأمل منهجية الحنابلة في تقرير مسائل الإجهاض.
ومراعاة هذه الأمور الأربعة ستمكننا من الجمع بين نوعي الأخلاق: المعيارية والتطبيقية، فالبحث في الأخلاق المعيارية سيكون عبر تَتَبع الأحكام وعللها والأوصاف التي تدور عليها، والبحث في الأخلاق التطبيقية سيكون عبر استقصاء مختلف الحالات العملية للإجهاض بما يشمل اختلاف أطوار الجنين والإجهاض في الأحوال العادية والاستثنائية (كالخوف على الأم، والزنا، والتشوه وغيرها). وستتوزع هذه الاعتبارات على أربعة محاور هي: الأوصاف التي يدور عليها الحُكم، واختلاف الأحكام باختلاف الأوصاف، ومنهج الحنابلة في الحكم على الإجهاض، والتعليل الأخلاقي والنظر الدينيّ. ولكن سنمهد لذلك ببيان مذهب الحنابلة في الإجهاض حتى يمكن لنا بناء المحاور التحليلية الأربعة السابقة.
2.1 أولاً: مذهب الحنابلة في الإجهاض
تنقسم مراحل تكوّن الجنين عند عامة الفقهاء إلى أربع مراحل هي: النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم نَفْخ الروح. فالنطفة هي ماء الرجل والمرأة على رأي جمهور المفسرين والفقهاء، والعلقة هي نقطة الدم الجامدة، والمضغة هي القطعة من اللحم. وقد أخذ الفقهاء تلك المراحل من نص القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)﴾ [المؤمنون: 12–14]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ﴾ [الحج: 5].
ومدةُ كلِّ مرحلة من المراحل الثلاث أربعون يومًا، وقد بنى عامة الفقهاء تحديدهم لتلك المدة على حديث عبد اللّٰه بن مسعود الذي قال فيه: حدثنا رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: ”إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ، وَرِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ…“ (البخاري 1998، رقم 3208، ومسلم 1998، رقم 2643).
لكن كيف نعرفُ بَدء الحمل؟ لم يناقش الفقهاء وشُرّاح الحديث هذه المسألة، وهي تحتمل ثلاثة أمور: أن يتم الحساب من لحظة الجِمَاع أو من لحظة العلوق في الرحم أو من لحظة انقطاع الحيض. ومجردُ الجِمَاع لا دلالة له هنا، أما انقطاعُ الحيض فيكون علامةً من علامات الحيض عند الحنابلة الذين يُشيرون إليه في مبحث عِدّة المرأة (انظر: ابن قدامة 1968، 455/7) ولكنه علامة لظهور الحمل لا لحصولِه، وقد بدا لي من تَتَبع مسائل الفقه في الأبواب المختلفة أن الحنابلة وغيرهم يرتّبون عددًا من الأحكام في الجنين على “العُلوق” في الرحِم، وهو ما يدفع إلى القول إن الحساب يبدأ من يوم عُلوق النطفة في الرحم، وهو ما وجدنا لاحقًا الإشارة إليه في بعض فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية. (انظر: البهوتي 1993، 646/1، و619/2، والموسوعة 1983، 295/30، وفتاوى اللجنة الدائمة، رقم 17576).
وقد اتفق جميع الفقهاء على تحريم الإجهاض بعد نفخ الروح فيه، ولكنهم اختلفوا في حكم الإجهاض في المراحل الثلاث السابقة على نفخ الروح، فرأى المالكية التحريم مطلقًا ولو في مرحلة النطفة، ورأى الحنفية والشافعية جواز الإجهاض قبل نفخ الروح مطلقًا، أما الحنابلة فقد توسطوا بين التحريم والجواز فقالوا بالإباحة في مرحلة النطفة، والتحريم في مرحلتي العلقة والمضغة. وثمة أقوال داخل كل مذهب تتقاطع مع المذهب الآخر (انظر: الموسوعة 1983، 57/2–59)، لكننا اقتصرنا هنا على بيان المعتَمَد في كل مذهب، وسنفصل في مذهب الحنابلة فقط؛ لأن هذا المقال يختص به.
يختلف حكم الإجهاض عند الحنابلة بحسَب التقسيم السابق لأطوار الجنين ومراحله، كما يختلف بحسب الأحوال العادية والاستثنائية، وسنفصل الكلام بناء على هذه الاعتبارات:
2.1.1 الإجهاض في الأحوال العادية:
اختلف الفقهاء في حكم إجهاض النطفة على ثلاثة أقوال هي:
الأول: الإباحة، وهو القول الذي يمثل المذهبَ الحنبلي، فقد نصّ فقهاء المذهب على أنه يجوز استعمال الدواء المباح لإخراج النطفة قبل أربعين يومًا. (ابن مفلح 2003، 393/1، والمِرْداوي 1956، 386/1، والحجاوي، 72/1، والبهوتي 1993، 121/1).
الثاني: التحريم، وهو قول ابن الجوزيّ ورجحه من المعاصرين ابن عثيمين وقال: هو إما مكروه وإما محرّم إذا لم تَدْعُ لذلك حاجةٌ (ابن الجوزي 1981، 376، والمرداوي 1956، 386/1، وابن عثيمين 2007، 342/13). وهو قول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية وهيئة كبار العلماء، وقيّدوا جواز إسقاط النطفة بحالة دفع ضرر متوقع أو تحقيق مصلحة شرعية، وتُقَدر كل حالة بعينها من المختصين طبًّا وشرعًا، وليس من ذلك خشية المشقة في تربيته ولا خوفُ العجز عن تكاليف تربيته وتعليمه، ولا الاكتفاءُ بما سبقه من أولاد. (فتاوى اللجنة الدائمة، رقم 17576، وقرار هيئة كبار العلماء رقم 140، بتاريخ 1407/6/20هـ).
الثالث: الأحوطُ—أي خلاف الأَولى—أن لا تستعمل المرأة دواءً يمنع سريان المنيّ في مجاري الحبَل، وهو قول ابن تيمية (ابن تيمية 1987، 299/1)، وهو ينطبق على العزل وإجهاض النطفة معًا.
أما إجهاض العلَقة والمُضغة ففيه قولان:
الأول: يَحرُم إسقاطهما، وهو المعتمد في المذهب (ابن رجب 2004، 161/1، والرُّحَيبانيّ 1994، 267/1)، وقال ابن تيمية: “إذا تَعَمّد الإسقاطَ فإنه يعاقَب على ذلك عقوبةً تردعه عن ذلك، وذلك مما يقدح في دينه وعدالته” (ابن تيمية 2005، 102/34).
الثاني: يجوز إسقاط الجنين قبل أن يُنفَخ فيه الروح من غير تقييد بمرحلة من المراحل، وهو ظاهرُ كلام ابن عقيل، وقال ابن مفلح: له وجهٌ (ابن مفلح 2003، 393/1، والمرداوي 1956، 386/1، والبهوتي [د.ت]، 220/1).
المرحلة الثالثة من مراحل الجنين هي مرحلة نفخ الروح، وقد اتفق الفقهاء على تحريم إسقاط الجنين الذي نُفخت فيه الروح؛ لأنه قتلٌ للنفس، والروايات عن أحمد تدل على أنه يُنفخ فيه الروح في مدة العشر بعد تمام الأربعة أشهر، وهو المعروف عنه. (انظر: ابن رجب 2004، 1/169، وابن القيم [د.ت]، ص 509).
2.1.2 الإجهاض في الأحوال الاستثنائية:
الأحكام السابقة مقررةٌ في الأحوال الطبيعية أو العادية، ومن حيث العموم، لكن قد تنشأ ظروف استثنائية أو أحوالٌ مخصوصة تَفرض بيان حكمها على وجه التحديد، وهذه الأحكام التي سنبينها هي فيما بعد مرحلة النطفة التي قد تَقرر إباحةُ إجهاضها مطلقًا في المذهب الحنبلي. ومن الحالات الاستثنائية الحالات الآتية:
2.1.2.1 الإجهاض في حال الخوف على الأم :
يجوز الإجهاض في مرحلتي العلقة والمضغة إذا دعت الضرورة إليه؛ كوجود خطر متَيَقَّنٍ يهدّد حياة الأم فيما لو استمر الحمل (فتاوى اللجنة الدائمة، رقم 17576، وقرار هيئة كبار العلماء رقم 140، بتاريخ 1407/6/20 هـ).
أما الإجهاض بعد نفخ الروح فالذي تفيده نصوص الفقهاء الأقدمين هو التحريم مطلقًا، فدلّ على أنه يشمل ما لو كان في بقائه خطرٌ على حياة الأم وما لم يكن فيه ذلك (انظر: الموسوعة 1983، 57/2). لكن الفقهاء المعاصرين اختلفوا فيه:
فالشيخ ابن عُثَيمين رأى أن الإجهاض بعد نفخ الروح محرّم ولو دعت الضرورة إليه؛ لأنه قتلُ نفسٍ ولا يجوز إحياءُ نفسٍ بنفسٍ أخرى، وللحفاظ على كرامة الإنسان وعدم تشبيهه بالبهيمة التي تخضع لمثل هذه التدخلات البشرية، ولأن الموت الحاصل نتيجة الإبقاء على الحمل هو من فعل اللّٰه لا من فعل البشر.
أما اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وهيئة كبار العلماء في السعودية فقد رأوا أنه لا يَحِلّ إسقاط الجنين بعد نفخ الروح إلا إذا قرر جمعٌ من الأطباء المتخصصين الموثوقين أن بقاء الجنين في بطن أمه يسبّب موتها، وذلك بعد استنفاد كل الوسائل الممكنة لإنقاذ حياته؛ ومستندُهم في ذلك دفعُ أعظم الضررين وجلبُ أعظم المصلحتين وهي التضحية بالجنين للحفاظ على أصله وهو الأم (انظر: فتاوى اللجنة الدائمة رقم 17576، وقرار هيئة كبار العلماء رقم 140، بتاريخ 1407/6/20هـ).
2.1.2.2 الإجهاض في حالة الزنا :
يُعبّر الفقهاء بالزنا عن العلاقة الجنسية التي تتم من دون عقد زواج، والزنا هنا يشمل نوعين: ما كان بالتراضي أو بالغصب (انظر: الدَّرْدِير [د.ت]، 218/2، والبجيرمي 1995، 418/3، والجَمَل [د.ت]، 177/4). ولم يتعرض الفقهاء قديمًا للحمل الناشئ عن زنا صراحةً؛ فظاهرُه أنه تنطبق عليه أحكام الإجهاض عامةً لا فرقَ، خصوصًا أن الحنابلة يرون إباحة الإجهاض في الأربعين الأولى ولو من دون حاجة، لكن ذهب بعض متأخري فقهاء الشافعية والمالكية إلى القول بجواز إجهاض الحمل الناشئ عن زنا قبل نفخ الروح؛ لأنهم رأوا أن ماء الزنا لا حُرمة له أو هو ماءٌ فاسد، وقيّده بعض المالكية بمثل أن تخاف القتلَ بظهور الحمل، ولكنه لو تُرك حتى نَفْخ الروح فلا شك في التحريم (الرملي 1984، 442/8، والشبراملسي 1984، 5/7، عُلَيش، 399/1).
2.1.2.3 إجهاض الجنين المشوَّه :
معرفة تفاصيل أحوال الجنين وما إذا كان سليمًا أو مشوَّهًا مسألةٌ حديثة وليس للفقهاء الأقدمين فيها نصٌّ أو حكمٌ فيما نعلم، ولكن اتفق فقهاء السعودية الذين يتبعون المذهب الحنبلي على أنه لا يجوز إجهاض الجنين المشوه، وذلك لعدة اعتبارات منها: أن ظنّ الأطباء أو معرفتهم ليست معرفة قطعية، فقد يغيّر اللّٰهُ الجنين ويخرج سليمًا معافىً، وأن تَشَوُّه الجنين ليس عذرًا شرعيًّا يبيح الإجهاض. (انظر: فتوى مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز في: الفتاوى 2004، ص 275، وفتاوى اللجنة الدائمة المتكررة تحت رقم 18309، و17073، و15961، و15963 و12946، وابن عثيمين، 2007، 343/13).
2.1.2.4 الإجهاض بغير إذن الزوج :
صرّح فقهاء المذهب الحنبليّ بأنه يجوز للمرأة أن تشرب دواء مباحًا؛ بهدف إسقاط النطفة أو قطع الحيض، سواءٌ أَذِن الزوج بذلك أم لم يأذن. لكن قال القاضي أبو يعلى (458هـ): ”لا يباح إلا بإذن الزوج كالعزْل“، وقال المرداوي: وهو الصواب، ونقلوا عن إمام المذهب أن ”الزوجة تستأذن زوجها“.
ويرجع أصل المسألة إلى نظرهم في الولد هل هو حقٌّ للزوج أو حقٌّ مشترَك بين الزوجين معًا؟ ولذلك أطلقوا حكمًا واحدًا على إسقاط النطفة بعد وقوعها في الرحم، وعلى العزل وهو مَنْع النطفة من الوقوع في الرحم. فالمذهبُ الحنبلي يرى أن الولد حقٌّ مشتركٌ بين الزوجين؛ لأنهم حرموا على الزوج أن يعزل عن زوجته بغير إذنها؛ “لأن لها في الولد حقًّا وعليها في العزل ضررٌ”، وكذلك حرموا على الزوج وغيره أن يسقيها—بغير علمها—دواءً يقطع الحيض أو يُسقط النطفة؛ “لأنه بذلك يبطل حقها من النسل المقصود”، ولذلك يجب أن يُفهم من كلامهم على جواز شرب الزوجة الدواءَ لإسقاط النطفة أو قطع الحيض أنه واردٌ في حال “ما لم يَنْهها الزوج عن ذلك، فإن نهاها امتنع عليها فعلُ ذلك؛ لأن له حقًّا في الولد”. فعلمنا من هذه المسائل والتعليلات كلها أن الحنابلة يقولون بالحق المشترك، أي أن للزوجة حقًّا في الولد كما للزوج حقٌّ. (البهوتي 1993، 122/1، و44/3، والمرداوي 1956، 383/1، والرحيباني 1994، 268/1). وعليه ينبغي أن يقع الإجهاض—إن وقع—بموافقتهما معًا، فإن تمّ من طرفٍ واحدٍ دون موافقة الآخر أَثِم من الناحية الدينية.
2.1.2.5 تناول حبوب منع الحمل :
يختلف منع الحمل عن الإجهاض من حيث إن المنع يكون قبل حصول الحمل، أما الإجهاض فيكون بعد حصوله، ولكن يتشابهان في أنهما وسيلتان لمنع الولد، ولذلك نتطرق إليه هنا استكمالاً للبحث. ومَنع الحمل إما أن يكون منعًا مؤقتًا أو كليًّا:
فإن كان منع الحمل مؤقتًا فهو مباح، لِمَا سبق من أن مذهب الحنابلة أنه يجوز للمرأة شرب دواءٍ مباحٍ لا يُسبب ضررًا لقطع الحيض أو لإسقاط النطفة، وقطعُ الحيض يترتب عليه منع الحمل، وهذا الجواز محمول على الإطلاق، سواءٌ لحاجة أم لا. (انظر: الرحيباني 1994، 268/1، وابن مفلح 2003، 392/1، والمرداوي 1956، 383/1). وذهب ابن تيمية كما سبق إلى أن “الأحوط ألا يُفعل ذلك” (ابن تيمية 1987، 299/1). وقيّد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1389هـ) أحد شيوخ الدعوة النجدية الجوازَ بالحاجة، كتنظيم فترات الحمل لظروف عائلية وصحية لضعف المرأة وتَضَررها بالحمل أو غير ذلك (الفتاوى 2004، ص307).
وإن كان منع الحمل كليًّا—ويُعبّر عنه الفقهاء بقطع الحمل—فإنه يَحْرم في المذهب الحنبلي (الرحيباني 1994، 268/1).
2.2 ثانيًا: الأوصاف التي يدور عليها الحُكم
تدور أحكام الجنين عند الحنابلة على ثلاثة أوصاف رئيسة هي:
2.2.1 الانعقاد:
وهو مبدأ تَحول النطفة إلى علقة، فالعلقة هي المنيّ ينتقل بعد طوره فيصير دمًا غليظًا متجمدًا، فإننا نجد مِن تَتبع نصوص الحنابلة وأحكامهم أن إباحة إجهاض النطفة مبنيٌّ على أنهم لم يَرَوا النطفةَ شيئًا، ولذلك لا يتعلق بها شيءٌ من الأحكام؛ لأن النطفة لم تنعقد بعدُ وقد لا تنعقد ولدًا، بخلاف العلقة التي اعتُبرت أول الأحوال التي يَتَحقق بها أن الحَمل ولدٌ، ولذلك يعللون حرمة إسقاط العلقة بأنها “ولدٌ انعقد” بخلاف النطفة، (ابن مفلح 1997، 74/7، وابن رجب 2004، 161/1، والبهوتي 1993، 193/3، والرحيباني 1994، 561/5، و267/1)، وقد علل الشيخ ابن عثيمين حرمة إجهاض العلقة بأنها “دمٌ والدم مادةُ الحياة” (ابن عثيمين 2007، 342/13)، وقد يؤكد هذا المعنى ما ذهب إليه بعض متأخري الحنابلة من أن كتابة الملَك الموكَّل بالرحم لقدَر الجنين تكون في أول الأربعين الثانية (ابن القيم 1988، ص 173، وابن رجب 2004، 173/1).
2.2.2 التخليق والتصوير:
والمرادُ به ظهور علامات يُعلم بها أن الجنين إنسانٌ تَخَلق أو تَصَوّر أو فيه شيءٌ من خلق الإنسان من رأسٍ أو يد أو رجل أو تخطيط، فقد علّق الفقهاء كثيرًا من الأحكام على هذا الوصف أو الاعتبار، كالنفاس وهو الدم الذي تراه المرأة بعد الولادة، والعِدة وهي الفترة التي تمكثها المرأة بعد الطلاق أو وفاة الزوج، والدِّيَة وهي التعويض الذي يدفعه الجاني على الجنين، وغيرها (ابن رجب 1996، 488/1، وابن قدامة 1968، 477/10، والزركشي 1993، 335/2، و555/5، والمرداوي 1956، 490/7). والتخليق أو التصوير قد يكون ظاهرًا وقد يكون خفيًّا يُعلَم بشهادة القوابل (الزركشي 1993، 544/7، وابن قدامة 1968، 120/8، والمرداوي 1956، 492/7، وابن رجب 1996، 487/1).
ولكن متى يحصل التخليق؟ وقع اختلافٌ شديدٌ داخل المذهب الحنبلي حول بداية التخليق على ثلاثة أقوال رئيسة هي:
القول الأول—وهو المعتمد في المذهب—أن التخليق يقع في الأربعين الثالثة؛ أخْذًا من حديث عبد اللّٰه بن مسعود، وقالوا: أقلُّ ما يَتبين فيه خَلْق الولد واحدٌ وثمانون يومًا، وغالبُه تسعون يومًا؛ لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة، ولا يَتخلق قبل أن يكون مضغة؛ لأن العلقة قد تكون دمًا انحدر من موضع من البدن، وأما المضغة فالظاهر كونها ابتداءَ خَلْق آدميّ؛ لأنها مَظِنة تَبَيُّن التخلق والتصوير غالبًا. وقد بنَوا على هذا جملة من الأحكام كانقضاء العدة والعتق—وهو إعطاء العبد حريَّته—وقالوا: إنها لا تكون إلا في المضغة المخلّقة، وقد نُقل عن إمام المذهب أنه قال: ”العلقة دمٌ لا يَستبين فيها الخلق“. (ابن رجب 2004، 164/1–165، وابن رجب 1996، 486/1–488، والبهوتي 1993، 122/1، و193/3، والمرداوي 1956، 274/9).
القول الثاني: أن التخليق يكون في أول الأربعين الثانية، وقد نَقل جماعة عن الإمام أحمد أن الأمَة إذا وضعت علقةً وتَبين أنها ولدٌ فإنها تصبح “أم ولد” وتَعتق بذلك، وهو قول إبراهيم النخعي (96هـ) من التابعين، وحُكي قولاً للشافعي (204هـ)، وهذا مبني على أن التخليق يمكن في العلقة. واستدلوا لذلك بظاهر حديث حذيفة بن أَسيد عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم أنه قال: “إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث اللّٰه إليها ملَكًا فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها…” (رواه مسلم، الصحيح، رقم 2645)، وقد رُوي عن عبد اللّٰه بن مسعود ما يدل على أن التخليق قد يقع قبل الأربعين الثالثة أيضًا، وذكر ابن رجب الحنبلي أن الأطباء يقولون إن العلقة تتخلق وتتخطط، وكذلك القوابل من النسوة يشهدن بذلك. (انظر: ابن رجب 2004، 162/1–166).
من الواضح أن وجود رواية عن أحمد بأن الأمَة تَعتق (أي تصير حرةً) بوضع العلَقة، جعل الحنابلة يقولون بإمكان التخلق في هذه المرحلة، ثم جاء بعض فقهاء الحنابلة فبنَوا على العِتق بوضع العلقة الحكمَ بانقضاء العدة، ثم جاء آخرون فبنَوا على انقضاء العدة الحكمَ بأن المرأة التي تضع علقة تصبح نُفَساء. (انظر: ابن رجب 1996، 487/1–488، وابن رجب 2004، 166/1).
القول الثالث: أن التصوير (أي بداية التشَكّل) يكون للنطفة في اليوم السابع، أخْذًا من حديث مالك بن الحُوَيرث عن النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: “إن اللّٰه تعالى إذا أراد خلق عبدٍ فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها، فإذا كان يومُ السابع جمعه اللّٰه تعالى ثم أحضره في كل عِرق له دون آدم”. (رواه الطبراني في الكبير، 290/19، والصغير 82/1، إسناده متصل ورجاله ثقات)، وقد قال اللّٰه تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾ [الإنسان: 2]، وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها. قال ابن رجب الحنبلي: “وقد ذكر علماء أهل الطب ما يوافق ذلك”، من أن النطفة تُصَور في هذه المدة من غير استمداد من الرحم، ثم بعد ذلك تَستمد منه، وابتداءُ الخطوط والنَّقط يكون بعد هذا بثلاثة أيام، ثم بعد ستة أيام—وهو الخامس عشر من وقت العلوق—يَنْفُذ الدم إلى الجميع فيصير علقة، ثم تتميز الأعضاء تميزًا ظاهرًا، ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الأصابع، تَمَيُّزًا يستبين في بعضٍ ويخفى في بعض. قالوا: وأقل مدة يتصور الذكر فيها ثلاثون يومًا (ابن رجب 2004، 163/1، و166).
ولم يأخذ فقهاء المذهب بهذه الرواية أو القول، ولم يَبنوا عليها أي أحكام أو فروع في الفقه، وقد بنى الإمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود السابق، وإنما استفاد هذا المعنى بعضُ الحنابلة من الأطباء في سياق الجمع بين بعض الروايات وكلام الأطباء، كما نجد لدى ابن قيم الجوزية (751هـ) وابن رجب، في حين أن بعض الشراح كابن حجر العسقلاني الشافعي (852هـ) ردّ هذا المعنى. (انظر: ابن القيم، 505–507، وابن رجب 2004، 163/1، وابن حجر 2001، 490/11–493).
وجمَع ابن القيم بين القول بأن اجتماع خَلْق الجنين يقع في الأربعين الأولى وبين حديث ابن مسعود الذي يقسم مراحل الجنين إلى النطفة والعلقة والمضغة: بأن الخلق يبدأ خفيًّا ويظهر على التدريج، “وذلك التخليق يتزايد شيئًا فشيئًا إلى أن يظهر للحس ظهورًا لا خفاء به” (ابن القيم [د.ت]، 507)، ومن ثم فالتخليق الوارد في الأحاديث النبوية له معنيان: مبدأ التخليق ويكون عُقَيب الأربعين الأولى كما في حديث حذيفة، وكمال التخليق ويكون عُقيب الأربعين الثانية (ابن القيم 1988، 173–174). ونجد نحو هذا التفريق في نصوص المذهب الحنبلي من خلال تفريقهم بين “مبدأ التخليق” أو “مبتدأ التخليق” وبين “التخليق” نفسه أو وجود صورته ظاهرةً أو خفيةً، ويبنون على كلا الصورتين أحكامًا مختلفة في مسألة أمّ الولد (الأمَة التي تحملُ من مالكِها) والعِدة والنفاس، فما كان مضغة فيها مبدأ تخليق يعتبرونه كالعلقة فيأخذ حكمَها (انظر: ابن قدامة 1968، 406/8)، ولكن عامة نصوص المذهب تورد ذلك التفريق في خصوص المضغة، وبعض نصوص المذهب تتحدث عن “جسم لا تخطيط فيه مثل المضغة ونحوها”، وهو ما جعله القاضي أبو يعلى يشمل العلقة والمضغة التي لم يتبين أنها مبدأ خَلْق إنسان. (المرداوي 1956، 273/9، وابن مفلح 1997، 72/6، والكَلْوَذاني 2004، 379/1).
2.2.3 نفخ الروح:
نَفْخُ الروح وصفٌ يدور عليه كثيرٌ من أحكام الجنين، ويرى عامة الفقهاء أن الجنين يُعتَبرُ حيًّا منذ نفخ الروح فيه، وهو ما استفاده جماعةٌ من السلف من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: 13]، فقالوا: هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادًا (القرطبي 1964، 109/12). فالروح هي التي تنقله من حالة الجماد إلى حالة يُسمى فيها نفسًا، ولذلك أجمعوا على حرمة إجهاضه بعد نفخ الروح فيه، وقد رُوي عن ابن مسعود في معنى قوله تعالى: ﴿وَغَيْرِ مُخلَّقةٍ﴾ قال: “لم تكن نسَمة وقذفتها الأرحام”. (انظر: ابن قدامة 1968، 398/2، وابن رجب 1996، 484/1–486).
وقد بنى الحنابلة على هذا الوصف أن السِّقط لا يُصلى عليه حتى يُنفخ فيه الروح ليكون ميتًا بمفارقة الروح له، ولأنه قبل نفخ الروح كالجمادات والدم، وهذا هو المشهور عن أحمد، وهو قول سعيد بن المسيَّب (94هـ) من التابعين وأحدُ أقوال الشافعي. (ابن رجب 1996، 487/1).
وفرّق الحنابلة بين الروح والحياة ولم يروهما متلازمَين، فالجنين قبل نفخ الروح فيه حركةُ النمو والاغتذاء كالنبات، ولكن ليس فيه حركة الحس والإرادة، وعندما تُنفَخ فيه الروح تنضم إلى حركة حسه وإرادته حركةُ نموه واغتذائه، فحركة الجنين نوعان: حركة ذاتية اختيارية تكون بوجود الروح، وحركة عارضة تُسبّبها الأغشية والرطوبات (انظر: ابن القيم [د.ت]، 509).
ولهذا رتَّبوا أحكامًا مختلفة على اختلاف الوصف بين الحركة التي تسبّبها الروح وحركة الجسم، فحركة الروح يُعلم وجودها بدلالة النص الديني ولكنه وجودٌ غير مُتَيَقن ما دام الجنين مستترًا في بطن أمه، وحتى إن خرَج الجنين فلا تُعلم حياته يقينًا إلا بالاستهلال—وهو الصراخ—على المشهور عن أحمد، فـ“مجرد الحركة والاختلاج لا يدلان على الحياة؛ لأن ذلك قد يكون لخروج الجنين من مَضيق فلم تُتَيَقن حياته”، ولهذا تختلف الأحكام بناءً على هذه الأوصاف، فالجنين الذي نُفخت فيه الروح يُصلى عليه منذ دخوله في الأربعين الرابعة أي وفق معيار عدد الأيام، لأنه معنى دينيّ بحتٌ، أما إثبات أحكام الدنيا له فيخضع لمعيار استهلاله صارخًا؛ لأنه معنى دنيويّ ينبني عليه جملة من الحقوق. (انظر: الزركشي 1993، 148/6–149، وابن قدامة 1968، 385/6).
والروح هنا مسألة دينية بحتة مرجعُها النص الديني وليس للعلم فيها مَدخل، ولم يقع الاختلافُ بين العلماء في أن نفخ الروح في الجنين يتم بعد الأربعين الثالثة من عمره، وقد نَقل هذا الاتفاقَ كثيرٌ من العلماء كالقاضي عِيَاض المالكي (544هـ)، وبدر الدين العيني الحنفي (855هـ)، وابن حجر الشافعي، وقال ابن القيم: “الذي نقطع به أن الروح لا تتعلق بالجنين إلا بعد الأربعين الثالثة”، وقال ابن رجب: “وأما نفخ الروح فقد رُوي صريحًا عن الصحابة رضي اللّٰه عنهم أنه إنما يُنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دل عليه ظاهر حديث ابن مسعود”. (انظر: عياض 1998، 123/8–124، والعيني 2001، 435/3، وابن رجب 2004، 167/1). وقد اختلفت الروايات عن أحمد فنَقل غير واحدٍ عنه أنه قال: “إذا بلغ أربعة أشهر وعشرًا ففي تلك العشر يُنفخ فيه الروح ويُصَلى عليه”، وفي رواية أخرى عنه: “فإذا أتم أربعة أشهر وعشرًا نُفخ فيه الروح”، ففي الرواية الأولى أن النفخ يتم في أثناء مدة العشر بعد تمام الأربعة أشهر وهذا هو المعروف عن أحمد، وفي الثانية أن النفخ يتم بعد تمام أربعة أشهر وعشر كما رُوي عن ابن عباس.
وأشار بعض المعاصرين (انظر: الموسوعة 1983، 265/18 وقد أحالوا إلى مادة “روح” ولا وجود لها في الموسوعة) إلى أن “الفقهاء اختلفوا في موعد نفخ الروح هل هو بعد أربعين ليلة أو بعد اثنتين وأربعين ليلة أو بعد مئة وعشرين”، وهذا خطأٌ نتج عن الخلط بين “نفخ الروح” و”التخليق”، خصوصًا أن الحنفية يعبرون عن نفخ الروح بلفظ التخليق، وهو اصطلاح خاص (انظر: ابن عابدين 1992، 302/1، و176/3). وحكى أحد الباحثين أن ثمة قولاً في أن نفخ الروح “يختلف باختلاف الأجنة، فبعضهم تُنفخ فيه الروح بعد الأربعين الأولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة” (القضاة 1990، 21، وعزاه لابن رجب في جامع العلوم والحكم)، وهذا خطأٌ؛ لأن هذا القول إنما هو في كتابة الملك لا نَفخ الروح، وقد فرّق ابن رجب بين الأمرين (انظر: ابن رجب 2004، 167–169). ووقع في بعض نسخ كتاب “تحفة المودود” لابن القيم أن “نفخ الروح فيه يكون بعد الأربعين الثانية” (ابن القيم 1988، 173)، وهو تصحيف من المحقق؛ ففي النسخة الخطية “الأربعين الثالثة” وليس الثانية. (ابن القيم 1657، 78).
2.3 ثالثًا: اختلاف الأحكام باختلاف الأوصاف
لا يمكن عَزل حكم الإجهاض عن أحكام الحمْل عامةً في الفقه، فالحمل تتعلق به أحكامٌ كثيرةٌ بعضها ثابتٌ وبعضها محلّ اختلاف، ويَصعب فهم وجه ثبوت الأحكام بمعزل عن النظر المنظومي الذي أشرنا إليه في مقدمة هذا البحث.
2.3.1 أنواع أحكام الجنين:
يُثبت الفقهاء للحمل نوعين من الأحكام:
الأول: أحكامٌ للغير بسبب وجود الحمل، وهذه الأحكام ثابتةٌ بالاتفاق؛ لأن الأحكام تَثْبت بناء على الأسباب الظاهرة، فإذا ظهرت علامات الحمل ثبتت له الأحكام في الظاهر وجرَت عليه، كإفطار أمه في رمضان إذا خافت أن يتضرر بالصوم، وكعدم دفن أمه غير المسلمة في مقابر غير المسلمين؛ احترامًا لكونه مسلمًا حُكمًا؛ تبَعًا لأبيه المسلم.
الثاني: أحكامٌ للحمل في ذاته، وهي أحكامٌ عديدة بعضها محلُّ اتفاق وبعضها محلُّ اختلاف.
2.3.2 استقلال الجنين عن أمه:
الأحكام الثابتة للجنين نفسه يقع فيها الاختلاف بناء على أحد نظرين: إما النظر إلى الجنين كعضو من أعضاء أمه فلا يَثبت له حكمٌ مستقلٌّ بل يَتبع أمه، وإما النظر إليه كأنه منفصلٌ عن أمه وإثباتُ نوعِ استقلالٍ له وإن لم يُعامَل معاملة الولد المستقلّ، وهذا النظر الأخير هو المنصوص عليه في المذهب الحنبلي وعليه تتنزل معظم الأحكام (انظر: ابن رجب 1998، 225/2–251). وقد ردّ ابن قدامة على القول: إن الجنين بمنزلة عضو من أعضاء أمه بعدة أمور منها: أنه لو كان كذلك لما وجبت الكفارة بقتله (والكفارة هي واجب ديني يُؤدّى بالصوم)، ولَمَا أمكن تَصَور حياته بعد موت أمه، ولَما مُنع من القصاص من أمه حتى تلده، وغير ذلك (ابن قدامة 1968، 409/8)، ومع ذلك فإن الحنابلة أجرَوا بعض الأحكام على الجنين تبَعًا لأمه؛ لعلة أنه كعضو من أعضائها (انظر: ابن قدامة 1968، 338/10، و352 و353، وابن مفلح 1997، 22/6، والبهوتي 1993، 588/2).
ولكن الاتفاق واقعٌ بين الفقهاء على عدم إعطاء الجنين صفة الاستقلال المطلق؛ وإلا لجَرَت عليه أحكام الدنيا وهي لا تجري عليه حتى يُولد، ولذلك يقول الحنابلة: “لا يَثبت حكم الولد إلا بخروجه” فلا تصح له وصية ولا ميراث ولا يجب ضمانه إذا لم يَظهر منه شيءٌ (ابن قدامة 1968، 406/8، وابن مفلح 1997، 295/7)، ويقول الحنفية: “هو نفس من وجه دون وجه” (الكاساني 1986، 325/7)، أي نفسٌ من حيث نُفخت فيه الروح، وليس نفسًا من حيث إنه جزءٌ من أمه لا يستقلّ عنها. ولأن الجنين ليس كعضوٍ من أعضاء أمه وجب ضمانه مستقلاً بالدية، ويتم توريث ديته لورثته كأنه سقط حيًّا، ولأنها ديتُه وبدلٌ عنه، وتَثبتُ للجنين النفقة حتى لو كانت أمه بائنًا؛ لأن النفقة واجبة له لا لها، ولكن الخلاف واقعٌ في بعض أحكام الجنين هل هي معلّقة بشرط انفصاله حيًّا فلا تثبت قبله، أو هي ثابتة في حال كونه حملاً ولكنّ ثبوتَها مراعىً بانفصاله حيًّا؟ ومن هنا وقع الخلاف في المذهب هل يَثبت للجنين المِلْكُ بالإرث من حين موت أبيه أو من حين ولادته، وكذلك الوصية له وغيرها. (انظر: ابن قدامة 1968، 408/8، وابن رجب 1998، 236/2–239).
2.3.3 حياة الجنين ليست كاملة:
أما إيجاب الدية في حال الجناية عليه؛ فهو لوقوع فعلِ الجناية، فالجنين إن صادفَتْه الجناية وفيه حياةٌ فالجاني قد قَتَله، وإن وقعت الجناية قبل وجود الحياة فيه فقد مَنع الجاني انعقاد حياته، ولكن لم تُعتَبر الجناية على الجنين مساويةً للجناية على النفس لعدة أمور: أن حياته ليست كاملة ما دام يتحرك بغيره لا بنفسه، وأن الجناية على النفس لا تَثبت إلا بالانفصال حيًّا، ولكن لما كان آدميًّا ألحقوه بالجناية على النفس وإن لم يساوِها من حيث مقدارُ الدية ووجوبُ القصاص، ومن هنا قسّم الحنفية الجناية على الآدمي إلى جناية على النفس وهي المولود، والجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه وهو الجنين (الكاساني 1986، 233/7).
ولأن حياته ليست كاملة فلا تجري عليه أحكام الدنيا كما سبق، ولذلك لا تجب عليه زكاة الفطر ولا يجب القصاص في حال قتله، وغير ذلك من الأحكام التي تتوقف على تَحَقق حياة الجنين حياة كاملة وانفصاله عن أمه حيًّا كالإرث والوصية والوقف.
2.4 رابعًا: منهج الحنابلة في الحكم على الإجهاض
تتأسس أحكام الإجهاض عند الحنابلة على المنهجية النصيّة بالدرجة الأولى، ويمكن تلخيص ملامح منهجهم بالآتي:
يَتَتَبع الحنابلة النصوص من القرآن والسنة أولاً، وقد تَعددت أقوال إمام المذهب؛ نظرًا لكثرة الأحاديث النبوية واختلاف رواياتها، مع وجود أحاديث تفصيلية تتصل بموضوع بداية وأطوار الخلق وأحكام الجنين، وقد شكّل حديث ابن مسعود في تقسيم أطوار ومراحل الجنين حديثًا مركزيًّا عندهم وعند غيرهم من المدارس الفقهية الأخرى، حتى قال عنه ابن رجب: حديثٌ “تلقته الأمة بالقبول” (ابن رجب 2004، 157/1).
يمشي الحنابلة على ظواهر النصوص، وإنْ تَعددت الروايات واختلفت يحاولون الجمع بينها وحَمْل بعضها على بعض حتى يتم إعمالها جميعًا.
فقه الحنابلة كما يتضح في هذه المسألة وغيرها يولي أهمية كبيرة لأقوال الصحابة؛ خصوصًا إذا كثر القائلون بالرأي.
البحثُ في الجنين وما يتصل به من أحكام مسألةٌ دينية مرتبطة بقضية الخَلْق وأطواره، وتنبني عليها أحكام دينية عقَدية وفقهية كالعدة والصلاة عليه ودفنه ونَفخ الروح وكتابة الملَك قدَر المولود ورزقَه وعملَه وجزاءَه، ولذلك عالج ابن القيم أحوال النطفة وأحكامها من المبدأ إلى الغاية، وختم بقوله: “هذا آخر أحوال النطفة التي هي مبدأ الإنسان، وما بين هذا المبدأ وهذه الغاية أحوالٌ وأطباقٌ قدّر العزيز العليم تَنَقّل الإنسان فيها وركوبَه لها طبقًا بعد طبق حتى يصل إلى غايته من السعادة أو الشقاوة” (ابن القيم 1988، 205).
تأسست أحكام الجنين عند الحنابلة بالاستناد إلى تلك المنهجية بمعزل عن مناقشة علم أهل الطب، ولكن بعض متأخري الفقهاء قاموا بنَقل بعض أقوال أهل الطب ومناقشتها في سياق معالجة أحكام الجنين أو شرح الأحاديث النبوية المتعلقة به، ويمكن لتلك المناقشات أن توضح لنا منهجية الفقهاء في تقرير هذا النوع من الأحكام، وابن القيم الحنبلي كان أحد أهم هؤلاء؛ فقد نقل نصوصًا عن بقراط (370 ق.م) ثم تَعقَّبها وبيّن ما فيها من مخالفة لنصوص الوحي وفهم الفقهاء لها (انظر: ابن القيم 1988، 171–176). كان ابن القيم حادًّا في ردّه على كلام بقراط في مراحل تصوير الجنين؛ بحجة مخالفته لكلام الوحي الإلهي، بل إنه تَوَسع فنقد منهجية بقراط ومن تابَعه من الأطباء في التعرف على مراحل تَخَلق الجنين، وفاضَلَ بينها وبين منهجية الفقه القائم على الوحي.
النقطة المنهجية الرئيسية التي يقررها ابن القيم هي أن تَنَقلات النطفة عبر مراحلها المختلفة لا تُدرك إلا بوحي أو مشاهدة، وهذا الوحي هو الذي قسّم أطوار الجنين إلى ثلاث مراحل كلُّ مرحلة أربعون يومًا حتى كأنك “تشاهده عيانًا”، وعليه فإن طبّ بقراط المخالف لهذا المعنى يَفتقر إلى المشاهدة؛ فبقراط “ليس معه عِيان”، بل غاية ما معه “قياس فاسد وتشريح لا ينبني على مشاهدة”، فعلمُ الأطباء مبنيٌّ على التشريح وهو قاصرٌ عن إدراك ما وراء ذلك من مبدأ الحمل وتَغَير أحوال النطفة. أي أن المسألة تُختَصر في معرفة بشرية غير معصومة في مقابل الوحي الإلهي المعصوم. فمعرفتهم البشرية تتعدد مصادرها ما بين أمور طبيعية فيها الحق والباطل، وأمور رياضية قليلة الجدوى، وأمور الهيئة التي باطلها أضعاف حقها، وهم يستندون في كل ذلك إلى كليات وأقيسة، وتشريح واستقراء غير يقيني، ومعرفتهم ليست تجريبية تَتَتبع كل حالة بعينها من بداية التلقيح إلى نهاية الحمل (انظر: ابن القيم 1988، 175–176).
هذا التصور عن منهجية الطب التي تخطئ في مقابل الوحي الذي لا يخطئ نجدُه بعد قرون عند ابن عثيمين أحد كبار شيوخ الدعوة الوهابية في السعودية، رغم ما حصل من تطورات هائلة في ميدان علم الطب ومنهجياته، فيحتج ابن عثيمين بأن قول الأطباء ليس وحيًا لا يخطئ، بل إن تقريرهم قد يكون خطأً، ولذلك فالحكم للشريعة عند التعارض؛ مهما ترتّب عنها؛ لأن أي نتيجة تترتب على اتباع الشريعة هي من صنع اللّٰه وليست من فعلنا نحن البشر، و“فرقٌ كبير بين فعل اللّٰه وفعل البشر“، أما منهجية ”التحسين العقلي“ فهي مرفوضة؛ لأن كل فعل مخالف للشرع فليس بحسنٍ. (انظر: ابن عثيمين 2007، 13/344–345).
2.5 خامسًا: التعليل الأخلاقي والنظر الدينيّ
لا تَفي النصوص الصريحة—وحدها—ببناء منظومة أحكام الإجهاض، ولذلك وُجدت آليات منهجية أخرى، كالقياس على النصوص والاستنباط منها، وقد شكّل التعليل منهجية مهمة في تركيب منظومة الأحكام في أبواب الفقه وفروعه حتى يستقيم النظام ويتحقق له الاتساق ويصبح معقول المعنى ومتسق المبنى، ويمكن لنا من خلال تتبع تعليلات أحكام الإجهاض عند الحنابلة الوقوف على نوعين من الاعتبارات ذات التأثير في بناء الأحكام وهما: العلل الأخلاقية والاعتبارات الدينية، ويمكن رصد الأمور الآتية:
مركزية الروح: ولذلك أجمعوا على حرمة إجهاضه في هذه المرحلة، ورتّبوا عليه عددًا من الأحكام الدنيوية والأخروية كالصلاة عليه وتكفينه ودفنه وأنه يُبعَث يوم القيامة وغير ذلك.
الحياة الاعتبارية: فرغم أن الجنين قبل نفخ الروح فيه هو كالجمادات إلا أن الفقهاء حرّموا إجهاضه قبل ذلك؛ لأنهم رأوا فيه حياة اعتبارية تبدأ بلحظة الانعقاد وبداية تَحَوله إلى حَمل ودخوله في مرحلة الوجود، ولذلك كانت النطفة غير محترمة أو هدرًا؛ لأن تَحَولها إلى حياة غيرُ مُتَيَقَّن، ولكنهم مع ذلك لم يُثبتوا للعلقة أحكام الحمل (كالنفاس والعدة وغيرهما)؛ لأنهم لم يروها حملاً حقيقيًّا وإن كانت حياة معتَبرة وذلك من باب الاحتياط الديني. وللشافعية مصطلح خاص يعبرون به عن نحو هذا المعنى وهو “حريم الروح” أي المدة التي تَسبق نفخ الروح (انظر: الرملي 1984، 442/8).
وهذا الاحتياط للدين يدفع الفقهاء أحيانًا للقول بقول ضعيف في المذهب؛ رعايةً لعلة أو معنى أخلاقي أو ديني، كما رتّبوا بعض الأحكام على المضغة؛ لأنهم رأوا أنها مَظِنَّة التخلق فيُحكَم لها بحكم المضغة المخلّقة، بل إن هذا الاحتياط هو ما دفع ابنَ الجوزي الحنبليَّ إلى تحريم الإجهاض من لحظة النطفة؛ لأنه “مُتَرَقٍّ إلى الكمال سارٍ إلى التمام، فتَعَمُّد إسقاطه مخالفةٌ لمراد الحكمة” الإلهية. (ابن الجوزي 1981، 374). ولكن هذا الاحتياط لا يُلغي الفارق بين الجانب الاعتباري والجانب الحقوقي، فرغم ثبوت جملة من الأحكام للجنين إلا أنه لا يَثبت حكمه إلا بخروجه، أي بأن يتحقق وجوده فعلاً بأي صيغة كان ما دام فيه صورة إنسان، ومن ثم ترتبت الأحكام على خروجه وعلى تَصَوُّره بصورة إنسان ولو خَفيّةً.
الآدمية: ألحّ الفقهاء كثيرًا على مسألة التخليق ومبدأ خَلْق إنسانٍ والصورةِ الخفية للآدمي ونحو ذلك من العبارات، فالآدميّة أو مبدأ تَشَكُّلها يستوجب الاحترام؛ لأنه سارٍ إلى التمام حتى يصبح جسدًا مكتملاً ويتهيأ لاستقبال الروح، وقد جاء في الحديث أنه “حين تخرج روح المؤمن يتلقاها ملَكان يُصعِدانها” ويقال لها: “صلى اللّٰه عليكِ وعلى جسدٍ كنتِ تَعمُرينه” (رواه مسلم في الصحيح، رقم 2872).
الخَلْق الإلهي: مسألة الجنين كلها دائرةٌ في إطار قضية الخلق الإلهي وأنها مسألة دينية، وأن الإجهاض جزء من نظام الخلق مبدأً وانتهاءً، ولذلك كان الإجهاض مخالفةً لمراد الحكمة، فثمة ملَك موكَّل بالنطفة، وقد اختلف الفقهاء في توقيت تَعَهده لها بحسب اختلاف الأحاديث، ولكن بعضهم انتهى إلى القول: إن “الملائكة ملازمة ومراعية لحال النطفة في أوقاتها” المختلفة (العيني 2001، 435/3). ونظرًا لهذا المعنى الديني فقد تم التفريق بين الإثم المترتب على الإجهاض من جهة، وبين الدية والكفارة الواجبة في حال الجناية عليه من جهة أخرى، فالإثم الديني واقعٌ في حال الجناية على العلقة والمضغة غير المخلقة مع أنهم لم يوجبوا الدية والكفارة على الجاني عليهما. والكفارة الواجبة في الجناية على الجنين الذي فيه صورةُ آدمي هي عقوبةٌ مقدَّرة حقًّا للّٰه تعالى، فيها معنى العقوبة الزاجرة وفيها معنى العبادة؛ لأنها تتأدى بالصوم، وهي من آثار أن الجناية عليه مخالفةٌ لمبدأ الحكمة ومرادِ الخالق فوجبت الكفارة؛ حقًّا له سبحانه وتعالى.
3 خاتمة:
أمكن لنا في هذه الدراسة تقديم مدخل جديد لدراسة العلاقة بين الفقه والأخلاق عبر قراءة أحكام الإجهاض—مثلاً—قراءة منظومية أخلاقية، وقد اتضح من خلال البحث أنه لا يمكن عَزل مسائل الإجهاض بعضها عن بعض وعن أحكام الحمْل عامةً؛ إذا ما أردنا أن نتأمل اشتغال العقل الفقهي ومنطقه الداخلي. صحيح أن المذهب الحنبلي يقوم—أساسًا—على تتبع النصوص وأقوال الصحابة، ولكن ذلك لم يكن ليفيَ—وحده—ببناء منظومة فقهية نتيجة توسع الفقه من جهة وتطور المذهب من جهة أخرى، وكانت أحكام الإجهاض مثالاً بارزًا على ذلك؛ فقد برزت آليات منهجية كالقياس على النصوص والاستنباط منها، والتعليل الفقهي الذي أمكن من خلاله تركيب منظومة متسقة للأحكام وعَقْلنة الفقه مبنىً ومعنىً.
كشفت لنا هذه القراءة المنظومية عن التداخل بين الفقهي والأخلاقي في بناء الأحكام والمسائل، واتضح أن أحكام الإجهاض—عند الحنابلة—تقوم على نوعين من الاعتبارات ذات التأثير في بناء الأحكام التقويمية وهما: العلل الأخلاقية (كالحياة الاعتبارية، واحترام الآدمية وغيرها) والاعتبارات الدينية (كنفخ الروح، والخلق الإلهي، والكفارة، والصلاة عليه، والزكاة عنه، وغيرها). وتتيح هذه القراءة الأخلاقية للفقه الخروج من النزعة النقلية التي سيطرت على المشتغلين بالفقه والفتوى من المعاصرين إلى دائرة التعليل الأخلاقي، ومن التفكير الجزئي في مسألة أو فرع إلى التفكير بالنسق ككل، ومن دليل المسألة المفردة إلى المنطق الداخلي الذي حكمَ فروع الباب الواحد المختلفة، ومن الاستغراق في النزعة العملية إلى الجمع بين المستويين النظري والعملي جمعًا يضبط اختلاف الأحوال في ضوء المبادئ والقيم النظرية الحاكمة للباب.
دارت البنية الفقهية الأخلاقية لأحكام الجنين على منظومة من الحقوق والقيم، فعلى مستوى الحقوق راعت النقاشات الفقهية الحقوق الثابتة للجنين نفسه والحقوق الثابتة لغيره بوجوده، وهي حقوق تتوزع بين الحقوق المالية (الميراث والوصية والعتق وغيرها) والحقوق الدينية (الصلاة عليه، والدفن، والكفارة، وغيرها)، وحقوق الناس وحقوق اللّٰه (كالإثم، والكفارة، وفطر الأم، وغيرها). وعلى مستوى القيم فإن منطق التفكير الفقهي في الجنين دار على جملة اعتبارات قيمية تتلخص في احترام مادة الحياة (انعقاد المني)، ومبدأ تشكل الإنسان (التخليق) وبداية الحياة الحقيقية (نفخ الروح) التي تتميز عن حركة النمو والاغتذاء، وهو نقاش يراعي درجات متعددة لتقويم الحياة وتحديد مستوى الاعتداء عليها والجزاء الواجب بحسب الجرم الواقع، كما أن النقاش لم يهمل ضبط علاقة الجنين بأمه، ولذلك اعتُبر نفسًا من وجه دون وجه؛ لأن استقلاليته ليست تامة، كما أنه في الوقت نفسه ليس عضوًا من الأم؛ لأن له كينونة خاصة توجب له حقوقًا مستقلة.
هذا النقاش الفقهي الأخلاقي يكشف لنا عن بعد أكثر تركيبية من النقاش الأخلاقي المعاصر حول الحمل غير المرغوب فيه، فالنقاش الفلسفي يدور بين حق المرأة في التقرير الذاتي وبين ضرورة حماية الجنين، كما يدور حول حياة جنينية تختلف فيها وجهات النظر بين فريقين: الفريق الأول يصف الحياة الإنسانية في هذه الحالة بعبارات حيادية (خالية من الأحكام المسبقة) كوصف الجنين بأنه “تَجَمّع خلايا”؛ بخلاف “المولود” الذي يشكّل المرحلة الأولى التي يُتَحَدَّث فيها عن شخص له كرامة إنسانية، والفريق الثاني يصف إخصاب الخلايا بأنه البداية الفعلية لسيرورة متطورة تتمتع بالتفرد وتُنظم نفسها بنفسها، وهو ما يمكن وصفه—بيولوجيًّا—بأنه نموذج إنسانيٌّ أو شخصٌ بالقوة ومن ثم صاحب حقوق أساسية (see: Habermas 2003, 31).
استوعب النقاش الفقهي الأخلاقي مختلف الاعتبارات الخاصة بالجنين والأم والأسرة واللّٰه سبحانه وتعالى، كما أنه راعى مستوى الأخلاق المعيارية التي تَتَبعناها من خلال الأحكام وعللها والأوصاف التي تدور عليها، والأخلاق التطبيقية التي استقصينا فيها مختلف الحالات العملية للإجهاض تحت دوافع متعددة ومختلفة، وبمراعاة اختلاف الأطوار الزمنية للجنين، وما إذا كانت الأحوال عادية أو استثنائية (كالخوف على الأم، والزنا، والتشوه وغيرها).
ولا بد من القول: إنه على الرغم من الصورة الشائعة عن المذهب الحنبلي التي تَسمه بالجمود على المنصوص؛ أظهر البحث بنية عقلية وحجاجية تتحكم في بناء أحكامه في تفاعلها مع النص، كما أن المذهب يحتوي على تنوع داخله برز من خلال وجود الأقوال في كل مرحلة من مراحل الإجهاض؛ بناء على حجج مختلفة واختيارات متباينة لبعض فقهاء المذهب.
إنني أرى أن أي تجديد داخل النقاش الفقهي يجب أن يكون محكومًا لهذه القراءة المنظومية الأخلاقية؛ لأن التجديد على مستوى الجزئيات والفروع من دون إدراك المنظومة الحاكمة وقيمها سيكون قاصرًا وربما يوقع في اضطرابات أو تناقضات، فإدراك البنية الأخلاقية الحاكمة لموضوع من الموضوعات (كالإجهاض هنا) شرطٌ أساسي؛ لبناء حجاج أخلاقي موازٍ أو مفارق؛ بناء على تغير في القيم الحاكمة أو نشوء اعتبارات وأبعاد جديدة كانت غائبة عن منطق النقاش القديم.
المصادر والمراجع
ابن تيمية، تقي الدين. 1987. الفتاوى الكبرى، بيروت: دار الكتب العلمية.
ابن تيمية، تقي الدين. 2005. مجموعة الفتاوى، اعتنى بها عامر الجزار وأنور الباز، القاهرة: دار الوفاء.
ابن الجوزي، عبد الرحمن. 1981. أحكام النساء، تحقيق علي المحمدي، بيروت: منشورات الكتب العصرية.
ابن حجر، أحمد بن علي. 2001. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق عبد القادر الحمد، السعودية: دون ناشر.
ابن رجب، عبد الرحمن. 2004. جامع العلوم والحِكَم، تحقيق محمد الأحمدي أبو النور. القاهرة: دار السلام.
ابن رجب، عبد الرحمن. 1996. فتح الباري في شرح صحيح البخاري، تحقيق طارق بن عوض اللّٰه، السعودية: دار ابن الجوزي.
ابن رجب، عبد الرحمن. 1998. تقرير القواعد وتحرير الفوائد، تحقيق مشهور آل سلمان، السعودية: دار ابن عفان.
ابن عابدين، محمد أمين. 1992. رد المحتار على الدر المختار، بيروت: دار الفكر.
ابن عثيمين، محمد بن صالح. 1428هـ/2007م. الشرح الممتع على زاد المستقنع، السعودية: دار ابن الجوزي.
ابن قدامة، موفق الدين. 1968. المغني. القاهرة: مكتبة القاهرة.
ابن القيم، شمس الدين. 1988. تحفة المودود بأحكام المولود، حققه محمد علي أبو العباس، القاهرة: مكتبة القرآن.
ابن القيم، شمس الدين. 1068هـ/1657م. تحفة المودود بأحكام المولود، نسخة خطية، مخطوطات الأزهر الشريف، رقم 313760.
ابن القيم، محمد بن أبي بكر. دون تاريخ. التبيان في أيمان القرآن، تحقيق عبد اللّٰه بن سالم البطَاطي، السعودية: عالم الفوائد.
ابن مفلح، برهان الدين. 2003. الفروع، تحقيق عبد اللّٰه بن عبد المحسن التركي، بيروت: مؤسسة الرسالة.
ابن مفلح، برهان الدين. 1997. المبدع في شرح المقنع، بيروت: دار الكتب العلمية.
البجيرمي، سليمان بن محمد. 1995. تحفة الحبيب على شرح الخطيب (حاشية البجيرمي)، بيروت: دار الفكر.
البخاري، محمد بن إسماعيل. 1998. صحيح البخاري، الرياض: بيت الأفكار الدولية.
البهوتي، منصور بن يونس. 1993. دقائق أولي النهى لشرح المنتهى، بيروت: عالم الكتب.
البهوتي، منصور بن يونس. دون تاريخ. كشاف القناع عن متن الإقناع، بيروت: دار الكتب العلمية.
الجمل، سليمان بن عمر. دون تاريخ. فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب، بيروت: دار الفكر.
الحجاوي، موسى بن أحمد. الإقناع لطالب الانتفاع، تحقيق عبد اللطيف السبكي، بيروت: دار المعرفة.
الخطيب، معتز. 2017. آيات الأخلاق: سؤال الأخلاق عند المفسرين، مجلة الأخلاق الإسلامية (The Journal of Islamic Ethics)، عدد 1، ليدن: بريل، ص ص. 83–121.
الخطيب، معتز. 2011. البعد الأخلاقي والقيمي للفقه الإسلامي، بحث مقدم في مؤتمر سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر، الرباط: الرابطة المحمدية، ص ص: 249–266.
الدردير، أحمد. دون تاريخ. الشرح الكبير على مختصر خليل، ومعه حاشيه الدَّسوقي، بيروت: دار الفكر.
الدريني، فتحي، 1997. النظريات الفقهية، دمشق: منشورات جامعة دمشق.
الرحيباني، مصطفى بن سعد. 1994. مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، بيروت: المكتب الإسلامي.
الرملي، شمس الدين. 1984. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، بيروت: دار الفكر.
الزركشي، محمد بن عبد اللّٰه. 1993. شرح الزركشي على مختصر الخرقي، تحقيق عبد اللّٰه الجبرين، السعودية: مكتبة العبيكان.
الزركشي، محمد بن بهادر. 1982. خبايا الزوايا، تحقيق عبد القادر عبد اللّٰه العاني، مراجعة عبد الستار أبو غدة، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
الشبراملسي، نور الدين بن علي. 1984. حاشية على نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج. بيروت: دار الفكر.
الطبراني، سليمان بن أحمد. 1985. المعجم الصغير، تحقيق محمد شكور، بيروت: المكتب الإسلامي.
الطبراني، سليمان بن أحمد، 1994. المعجم الكبير، تحقيق عبد المجيد السلفي، السعودية: دار الصميعي.
عبد الرحمن، طه. 1997. العمل الديني وتجديد العقل، بيروت: المركز الثقافي العربي.
عليش، محمد بن أحمد. دون تاريخ. فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك، بيروت: دار المعرفة.
عياض، عياض بن موسى، إكمال المُعْلم بفوائد مسلم، تحقيق يحيى إسماعيل، القاهرة: دار الوفاء.
عياض، عياض بن موسى، 1965. ترتيب المدارك وتقريب المسالك، تحقيق ابن تاويت الطنجي وآخرين، المغرب: مطبعة فضالة.
العيني، بدر الدين. 2001. عمدة القاري شرح صحيح البخاري، تحقيق عبد اللّٰه عمر، بيروت: دار الكتب العلمية.
القرطبي، محمد بن أحمد. 1964. الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم اطفيش، القاهرة: دار الكتب المصرية.
القضاة، شرف. 1990. متى تنفخ الروح في الجنين، عمان: دار الفرقان.
الكاساني، علاء الدين. 1986. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، بيروت: دار الكتب العلمية.
الكَلْوذاني، أبو الخطّاب. 2004. الهداية، تحقيق عبد اللطيف هميم، وماهر الفحل، الكويت: مؤسسة غراس.
مجموعة من العلماء. 2004. الفتاوى المتعلقة بالطب وأحكام المرضى، القاهرة: أولي النهى للإنتاج الإعلامي.
مجموعة مؤلفين، الموسوعة الفقهية. 1983. الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
المرداوي، علاء الدين. 1956. الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، صححه وحققه محمد حامد الفقي، بيروت: إحياء التراث العربي (نسخة مصورة).
مسلم، مسلم بن الحجاج. 1998. صحيح مسلم، الرياض: بيت الأفكار الدولية.
ياسين، محمد نعيم. 2008. أبحاث فقهية في قضايا طبية، الأردن: دار النفائس.
Habermas, Jurgen. 2003. The Future of Human Nature. Polity Press.
Rahman, Fazlur. 1989. Major themes in the Quran. With a new forward by Ebrahim Moosa. The University of Chicago Press.
Reinhart, Kevin. 1983. Islamic Law as Islamic Ethics, The journal of religious Ethics, Vol. 11, No. 2, pp. 186–203.
Saeed, Abdullah. 2004. Fazlur Rahman: a framework for interpreting the ethico—legal content of the Qur’an. In: Suha Taji-Farouki (Editor), Modern Muslim Intellectuals and Quran. Oxford University Press, pp. 37–67.
Saeed, Abdullah. 2014. Reading the Qur’an in the Twenty-First Century: A Contextualist Approach. Routledge.
نقله ابن المقفع من الپهلوية إلى اللغة العربية في القرن الثاني الهجري، ونقل عنه المسعودي في مروج الذهب، والتنبيه والإشراف، ومسكويه في تجارب الأمم، والبيروني في تحقيق ما للهند من مقولة وغيرهم، وكان يعتبر كالفلك المشحون في فنون الحكمة، وللأسف فإن النص الپهلوي مفقود، وكذلك الترجمة العربية لابن المقفع، ولم يبق غير الترجمة الفارسية التي قام بها ابن اسفند يار من ترجمة ابن المقفع، وعن هذه الترجمة الفارسية أعاد نقلها إلى العربية يحيى الخشاب.
ثمة تشابه كبير بين هذه الأسس للحكم والسياسة وبين ما كتبه برني نفسه في كتابه تاريخ فيروز شاهي ضمن ترجمة السلطان غياث الدين بلبن بعنوان "أصول حكمراني" أي أصول الحكم، فقال: "كان السلطان غياث الدين بلبن دائمًا يقول لحاشيته إنه سمع من الثقات أن الأمراء والعلماء الذين كانوا يعملون في بلاط السلطان شمس الدين ايلتتمش، دائمًا يلقنونه درسًا بأنه لا يمكن للسلطان أن يقوم بأداء واجباته السياسية والعسكرية والإدارية كما ينبغي دون ممارسة الآداب السلطانية الساسانية ممارسة تامة في الحكم والسياسة …" (برني 2004، 80–81).