Save

عن الأثر والأنقاض ومفاهيمها الوجوديّة في روايات الكاتب جان دوست

The Existential Import of Traces and Ruins in the Novels of Jan Dost

In: المركز: مجلة الدراسات العربية
Author:
باسيليوس حنّا بواردي محاضر متمرسّ، كليةّّ اللغة العربيةّ وآدابها، جامعة بار إيلان (Senior Lecturer, Faculty of Arabic language and literature, Bar Ilan University) رمات غان (Ramat Gan)

Search for other papers by باسيليوس حنّا بواردي in
Current site
Google Scholar
PubMed
Close
Open Access

المستخلص

تتناول هذه المقالة مفهوم أنقاض ما بعد الحرب وآثارها في روايات الكاتب الكرديّ السوريّ جان دوست (–1965) كجزء من مفهومه العامّ حول مسائل الهويّة والذاكرة وكتابة التاريخ. وتتتبّع هذه المقالة، عن طريق مفهوم الأثر/الأنقاض والمشاهد الديستوبيّة، مسائلَ وجوديّة مضمرة تحت مشاهد الخراب المادّيّ والأخلاقيّ. وهو مفهوم يخرج عن المفهوم التقليديّ لوصف خرائب المدن وبكائيّات أدب مراثي المدن والوقوف على الأطلال؛ إنّه مفهوم يقرأ الركام الصامت من الأحجار من منظور العلاقة الحميميّة مع الأنقاض بصفتها أداة مقاومة وحيدة باقية ضدّ الضياع والمحو القوميّ. وتعتمد هذه المقالة على ثلاثة محاور أساس تصوغ مفهوم دوست للأنقاض؛ الأنقاض وكتابة الذاكرة، والأنقاض: الحدّيّة ومسارات النزوح واللجوء، ونصوص الأنقاض وكتابة السيرة الذاتيّة واليوميّات. وتعيد هذه المقالة النظر في أسئلة التوثيق واللغة والتمثيل والذاكرة، والتي ينبثق منها النقاش في روايات جان دوست، وتحاول معالجة مسألة صياغة التجربة الأليمة وحتّى السوداويّة في أدبه، هذا الأدب الذي يتعامل مع الأنقاض على أنّها أجسام حجريّة متشظّية ذات مدلولات وجوديّة‪.‬

Abstract

This article addresses the concept of post-war ‘rubble and ruin’ in the novels of Kurdish-Syrian author Jan Dost (b. 1965) as part of his overall perception of the issues of identity, memory and historical writing. Through the concept of rubble and ruin and scenes of dystopia, this article traces the existential issues concealed within the scenes of physical and moral destruction. This concept exceeds the traditional one which portrays the ruins of cities as well as the lament (elegiac) odes written about them and about standing on their remain. Rather, it is a concept that reads the silent piles of rubble from the perspective of the intimate connection with them as the only surviving tool of resistance against the national collective of loss and annihilation.

This article is informed by three main axes that disrupt Dūst’s concept of destruction: rubble and ruin; liminality and the writing of memory; and the paths of dispossession and refuge; and texts of the rubble as well as autobiographical and journal writing. Thus, this article examines issues of documentation, language, representation and memory emerging from Dūst’s novels. This article also addresses questions on the language of the painful and even melancholic experience in his writing, which treats rubble as objects of stone that have existential connotations.

مدخل1

تمثّل الأنقاض وآثار دمار الحروب في روايات الكاتب الكرديّ السوريّ جان دوست2 (1965–) مدخلًا جوهريًّا لعوالمه الروائيّة الواسعة ولرموز سرديّته الديستوبيّة3 (اللاطوباويّة) الكاشفة عن عتمات الوجود العربيّ والإنسانيّ على حدٍّ سواء. ليكون بهذا جزءًا من الكتابة الديستوبيّة العربيّة الرافضة للغطرسة على أنواعها الاجتماعيّة والوجوديّة والسلطويّة، مشاركًا بهذا كوكبةً من الأديبات والأدباء السوريّين الذين استعملوا المفهوم الديستوبيّ ليعبّروا عن الخطاب الضدّيّ المنتهك لقوى الأنظمة والسلطة، أمثال: خالد خليفة (1964–)، وفوّاز حدّاد (1947–)، ومها حسن (1966–)، وسمر يزبك (1970–)، ومنهل السراج (1964–)، ومصطفى خليفة (1948–)‪.‬

من هنا، تتتبّع هذه المقالة الأنقاض/الأثر في روايات دوست: كوباني ودم على المئذنة وباص أخضر يغادر حلب وممرّ آمن وإنّهم ينتظرون الفجر، لتولِّد أرضيةً للتساؤلات الوجوديّة المتعلّقة بأسئلة العنف والحرب وما بعد الصدمة. إنّ عودة الراوي المنفيّ الخياليّة إلى مدنه المدمّرة، إلى حاراته ومسقط رأسه الخَرِب ووصفه الأثر/الأنقاض، ما هي إلّا محاولة لتجديد النقاش حول الكارثة الإنسانيّة التي حلّت بهذه المدن، متمثّلةً بمركبات الدمار الشامل المهدِّد لوجود المجتمعات أو الشعوب بأكملها. إنّها عمليًّا توليد لرؤية بديلة لكسر القواعد والفوضى والفساد الأخلاقيّ وإلغاء الحدود، ممّا يجعل الإنسان لاجئًا في عالم رآه بالأمس منزله. هذه الأنقاض/الأثر تحمل في صورتها المشوّهة فعلًا مزدوجًا متعلّقًا بسؤال الهويّة والانتماء، فهي حالة من الفقد الفاجع والموجع من جهة، وبالوقت ذاته هي كلّ ما تبقّى ليشهد على الوجود الذي كان والذي من الممكن إعادة ترميمه، إنّها عمليًّا كلّ ما تبقّى من حدود الانتماء والهويّة والذاكرة المطموسة داخل هذا الخراب. وتؤكّد هذه المقالة أنّ هذه الروايات هي عيّنات نصّيّة وحالة اختبار لأدب جان دوست الغارق في الوعي التاريخيّ، والذي يتعامل بشكل مباشر وغير مباشر مع مسألة الماضي الكرديّ وحاضره ومستقبله‪.‬

تبتعد روايات جان دوست عن المركز، وتتّخذ الهامش لها مركزًا.4 ويبدو الهامش ضحيّةً للمركز في صراعات القوى غير المنتهية المبنيّة على مصالح ضيّقة أو واسعة، غير آبهة بالإنسان العاديّ ولا بأدنى حقوقه المعترف بها عالميًّا. من هنا، تصبح كوباني، وعامودا، والقامشلي، وعفرين، وديريك، والدرباسيّة، ورأس العين، وحلب، وباقي القرى والمدن والمناطق الكرديّة والسوريّة مسرحًا لصراعات أكبر دمّرت عائلات شفّافة لا يراها أحد، لا سند لها ولا تؤخذ بالحسبان عندما تُقارَن بمصالح الدول المجاورة لها‪.‬

تدخل روايات جان دوست ضمن ما يمكن تسميته بـ“رواية الفاجعة” أو “الرواية الكابوسيّة” أو “السوداويّة،” وتنضوي كذلك تحت “أدب الأنقاض” أو “الرجوع إلى البيت،” وهي تصوّر في جميع تصنيفاتها المتشابكة مشاهدَ الدماء والقتل المرّ والسهل. ولهذا، يُنَصِّب الكاتب نفسه شاهدًا افتراضيًّا حيث تنعدم إمكانيّة الشهادة الواقعيّة والحقيقيّة؛ شهادة تشير إلى عمق السلوك الآدميّ العنيف ومهرجانات صراع القوى الإقليميّة والعالميّة. جان دوست السوريّ الكرديّ يضع محيطه السوريّ والكرديّ في مركز رواياته، مؤرّخًا للفواجع الدمويّة التي حلّت بالأكراد والسوريّين في خضمّ الصراعات الخفيّة والمعلنة على الأراضي السوريّة وما جاورها. من الواضح أنّ دوست لا يحاول كتابة التاريخ المحض في رواياته ولكنّه يسعى بواسطة هذه الروايات إلى تكريس مشاهد الأنقاض والخراب والآثار التي خلّفها المشهد الدامي والنزيف اللامحدود لآلاف الأكراد والسوريّين في أذهان التاريخ خوفًا من النسيان، يقول الراوي: “أقسم أنّني سأنقل نزيفك إلى كلّ العالم.“5

وعليه، تتعدّى هذه الروايات التوثيق التاريخيّ الموضوعيّ والخطّيّ نحو سبر عميق لحالات فرديّة وجماعيّة أصابها الدمار الجسديّ والنفسيّ. يمثّل الخراب وآثاره، عمليًّا كما سنرى، قصصَ الضياع والتشرّد والغربة والمنفى والانكسارات والدم والخيانات، أو بالأحرى قصصَ الصدى، صدى صراعات القوى التي تعمل وفق مصالحها، ولا قداسة في سيرورتها إلّا قداسة السيطرة. أمّا النتيجة كما يرويها دوست فهي الخراب المولِّد للمحو التامّ لمعالم الذكريات والقيم الإنسانيّة، محو لأبسط الحقوق الفرديّة والجماعيّة. يفرض المركز المتمثّل بالسلطة على أنواعها، على الهامش مسارات الاجتثاث والقلق المرعب، والهامش في هذا السياق ليس إلّا الإنسان الهامشيّ البعيد عن مسرح اتّخاذ القرارات، “الشخص العاري” في صياغة المؤرّخ جورجيو أغامبين (Giorgio Agamben، 1942–).6 هذا الكائن معدم ولاجئ وناجٍ وميت، شخص صودرت حقوقه المدنيّة والوجوديّة وأصبح عاريًا من حقوقه الأساسيّة كلّها ويحتاج العطف والمساعدة. فالمركز محكوم بمصالح لا تتقاطع البتّة مع حياة الهامش المقموع البائس معدوم الحيلة والعنوان. لم تُبقِ هذه القصصُ العناوينَ على ما هي عليه بحُكْم الخراب وما يليه من أنقاض. تغيّرت عناوين الهامش تعسّفًا رغمًا عنه. عناوين ألّفها هذا الهامش التابع لسنوات طويلة وألّف أشياءها المنبعثة عنها: البيوت، والكروم، والجبال المكسوّة بالثلج، والأبواب، والمساجد ومواقيت الصلاة، والمفاتيح، ومواعيد النوم وساعات الاستيقاظ، وعشيّات السهر والحبّ والعشق والأحزان، ومساحات التأمّل في اللاشيء، والمقابر والموت. لم يكن الموت العاديّ الطبيعيّ سَحقًا عامًّا للوجود الجماعيّ للأكراد والسوريّين، بل كان عنوانًا ألّفه الناس كما ألّفوا جدليّة الأحزان والأفراح، تغيّر الموت ليتحوّل إلى موت جماعيّ للوجود، موت متكرّر ومتنوّع ومفاجئ، موت سهل وسريع لا يستثني أحدًا ولا يُحاكَم بسببه أحد. إنّ الأنقاض والآثار الباقية في المدن الكرديّة والسوريّة هي علامة لفرض المركز الموتَ الأبديّ آليّةً للسيطرة؛ سيطرة لقوى سياسيّة قد تكون مرحليّة ومتغيّرة وسريعة الزوال. قد يتغيّر المركز ويتبدّل اللاعبون بينما يبقى مشهد الخراب والأنقاض شاهدًا على الموت المشاع في الهامش، موت خالد لا يمكن لحقيقته الأبديّة أن تتغيّر. من هنا، تشكّل سرمديّة رُكام حجارة المدن والقرى والموتُ السهل والسريع والتشرّدُ بكلّ معانيه، جوهرَ ما يدوّنه راوي روايات جان دوست. لا يُعنى مشهد الأنقاض بنقل مشاهد بشاعة الموت الجسديّ فقط، بل يعرض تباعًا مشاهد الموت النفسيّ، موت الأحياء الملازم، والأكثر إيلامًا على الإطلاق. من هنا يصبح الموت والألم “دلالة كبرى“7 (macrostructure)، بحسب تعبير ڨان ديك (Van Dijk، 1943–)، مع ما تتضمّنه هاتان الثيمتان من “دلائل صغرى” ومرادفات المقابر والحزن والوحشيّة الإنسانيّة والتمثيل بالجثث والدم، وعبثيّة الحياة، والقلق، والألم الوجوديّ والحرّيّة والظلم. تبثّ روايات دوست من هذه الناحية أبعادًا وجوديّة واضحة المنحى، تحاول تسليط الأضواء على عبثيّة الحياة وعدميّتها‪.‬

‫يتقاطع مفهوم “أدب الأنقاض“8 – أو “نصوص الأنقاض” (Trümmerliteratur) – الذي اشتُهر في أدب هاينريش بول (‫Heinrich Böll‬، 1917–1985) وتنظيره في مقالته عام 1952 “Bekenntnis zur Trümmerliteratur،“9 عندما دافع عن المؤلّفين المعاصرين الذين تناولوا قضايا الخراب الجسديّ أو المعنويّ، يتقاطع وأدبَ الفاجعة عند جان دوست. ويسمح بتحليل الأشكال الثقافيّة التي تشهدها المدن الكرديّة والسوريّة في زمن الحرب وما بعد الحرب كمشهد يعبّر، من جهة، عن الآثار – التي تشير إلى طبقات واضحة من الماضي – ومن جهة أخرى عن الأنقاض – التي تشير إلى حالة مربكة من الدمار –. تعالج القراءات الدقيقة للنصوص الخلطَ المعبّر بين الركام والآثار في الخطاب المعاصر، والذي يعكس كلًّا من الرغبة في خلق شيء جديد والحضور المستمرّ للقديم‪.‬

ويتردّد صدى مثل هذا النداء بقوّة في كتابة بول، الذي حثّ المؤلّفين على عدم الشعور بالخجل من عرض الخراب وإبراز الإنسانيّة الموجودة وراء واجهات المباني والمنازل المدمّرة. وكما في تصوير بول، نجد عند جان دوست نصًّا صادقًا، مليئًا برثاء ما بعد الحرب حيث تكون الأنقاض “عارية” ومكشوفة، ويصوغ البلاط مشهد التحوّل من الترتيب والأمان إلى الفوضى والقلق. إنّه يقارن مشهدًا من المعدن والحجر المسنّن، مع التصوير الحميميّ للطبيعة التي تقدّم نفسها في المساحات المنزليّة، في غرف النوم والمطابخ والرسائل المبعثرة الساكنة التي حملت يومًا ذكريات ورديّة وحياة نابضة‪.‬

يشدّد تحليلنا لهذه النصوص على أنّها كيانات ثقافيّة أُنتجت أثناء فترات الحرب التي حدثت بالمدن السوريّة والكرديّة وتتعامل مع اللحظة الحاليّة لوضعيّات الأكراد المأساويّة في حالة الدمار الوجوديّ العامّ. تتميّز هذه النصوص غالبًا بالاهتمام بالوقت والزمان، فضلًا عن مراعاة التأمّل الذاتيّ لما يعنيه أن تشهد على هذه اللحظة من التمزّق والتغيير التاريخيّ. إنّ دراسة هذه اللحظة المتأثّرة والمضطربة بشكل غير عاديّ في التاريخ الكرديّ تساعدنا أيضًا على فهم كيف تطرح فترات التمزّق التاريخيّ أشكالًا ثقافيّة جديدة. من هنا، تكشف القراءة النصّيّة للروايات أنّ علاقة دوست بالآثار ليست علاقة حزن أو ندم على الماضي بقدر ما هي علاقة انفتاح حذر نحو الأيّام الآتية، تقدّم فيه الهياكل الإسمنتيّة المتناثرة والآثار المتضخّمة دروسًا للمستقبل‪.‬

1 الأنقاض ولقاء الذكريات

تبحث هذه المقالة في الثقافة الأدبيّة والبصريّة وبالنظريّة السياسيّة للمرحلة التي ترتبط بمفهوم “الأنقاض” على المستويات الاستعاريّة والأخلاقيّة والبنيويّة. تشكّل هذه الكثبان من الأحجار والأنقاض قبرًا ضخمًا للذكريات، إنّها الاستعارة المؤسفة للغاية ولكنّها الأكثر كشفًا عن خبايا الأنقاض في الوقت نفسه. الأنقاض على المستوى الظاهريّ عناصر مادّيّة صامتة وجامدة، ولكنّ الفجوات في هذه الموادّ هي التي تحفّز الخيال وتجعل من الأنقاض مساحات غير مادّيّة وتتيح إلقاء الضوء على نوايا الشاهد‪.‬

يحوّل دوست آثار الأحجار المتراكمة إلى استعارات. إنّه التحوّل من عمليّة الرؤية للواقعيّ الموجود في مرمى البصر إلى محاولةٍ لتحويل هذه الأنقاض لمساحات جدل ونبش للذاكرة وسعي للحفاظ على ما تبقّى من وجود كان وما يزال، ضمن فراغات هذا الركام وفجواته. إنّها عمليًّا “سرديّة الدمار” بتعبير هاينريش بول وليست سرديّة الغارة الجوّيّة، وهي بالواقع تفسير للدمار الذي كان سببه أناسًا عديمي الحساسيّة الجماليّة. أسعى في هذا المقال إلى تفسير استراتيجيّة دوست لتذكّر الماضي باستخدام الأحجار المتراكمة الباقية بصفتها عارضًا من أعراض عمل الذاكرة في الأدب السوريّ الكرديّ. لا تتعلّق شخصيّات روايات دوست التي اختار أن يقدّمها في الرواية بتقرّب الإنسان للطبيعة وإدراكه لها، بل هي مغمورة بظلام رهيب يتميّز بتعقيدٍ لا متناهٍ للطبيعة الإنسانيّة التي تغلّف الإنسان بظلمة خانقة. الطبيعة الإنسانيّة هي البيئة المهدّدة، وهي بيئة تعمل في ظلّ قوانين الهدم والبناء الصارمة، والتي تبدو غريبة على إيقاعات الحياة البشريّة (التاريخيّة)، ومع ذلك فهي قادرة على تحديد الخطوط العريضة للخراب التاريخيّ-الصدع الحضاريّ نفسه‪.‬

تُفسَّر مجموعة الأحجار على أنّها نصب لذكريات الماضي، ولكنّها مصيدة موت أيضًا: كان الحجر “الكامل،” في وقت ما، علامةً على كمال الأسرة، وجزءًا من المنتجع العائليّ، ولكنّه الآن عبارة عن ركام، بقايا مكسورة من الحياة الأسريّة المفقودة. تشحن صورة الحجر الحزين النصَّ بوعيٍ سوداويّ، حيث ينعكس فيه إحساس الثقل والصمت. ومع ذلك، فإنّ اللحظة التي يلتقي فيها الحجر بالبطل في الوقت الحاضر هي أيضًا اللحظة التي يصبح فيها الحجر قابلًا للقراءة ومتاحًا للتفسير. إنّها نقطة حرجة، حيث يسمح الحجر لنفسه بالانكشاف والإتاحة عن طريق الانفتاح في الوقت الحاضر. تحدث بهذا المعنى خطوة حاسمة في مواجهة بطل الرواية مع الحجر‪:‬

وقف الناس عند مداخل البنايات المهدّمة وعلى ناصية كلّ شارع. كانوا ينحنون على الجثث، يتفحّصونها، يبحثون فيها عن وجوه معروفة. وفجأة تنطلق صرخة من امرأة تعرّفت للتوّ على ابنها أو قريبها. يخفي الرجال حزنهم وغضبهم وراء وجوههم الملفوفة بمناديلهم بينما يراقب الأطفالُ المشهدَ بفضول وصمت، يشحنون ذاكرتهم الغضّة بالقسوة ويسقون شجرتها بالرعب.10

لقاء الحجر يعني تحديد الماضيينِ الشخصيّ والعائليّ وإعادة بنائهما، أي فعل تذكّر الأسرة. من هنا، تصبح استعادة الشيء المفقود للبطل قابلةً للقراءة فقط في لحظة لَمِّ الشمل بالحجر. بعبارة أخرى، إنّ الحجر الملقى هو أيضًا إشارة تكوينيّة لفعل الذاكرة‪.‬

يؤدّي مشهد الأنقاض إلى بعثرة الثابت والكامل. تقف بقايا المخطوطات وشظاياها وبقايا المنازل والجدران، جنبًا إلى جنب دون موقف تضادّ، وتقبع الأشياء التي يعدّدها الراوي مثل: كرسيّ، وكتاب، ومخطوط، وسماء، وساعة، ونبع، وحجر، وشجرة، وإبريق، وجديلة، وغيرها في مكانها كجزئيّات لا تحصل على قيمتها التي كانت إلّا بواسطة الذاكرة التي تجمعها من جديد. وبذلك، فإنّ مراقبة الحجر تعني ملاحظة العديد من الأحجار المتشابهة، كذلك هي حال مراقبة المنزل، فهي أشبه بمشاهدة سلسلة من المنازل، ومع ذلك، فإنّ مشاهد شعريّة الأحجار والأنقاض الباقية وشعريّة اللغة لوصف آثار الخراب، والرحلة إلى الفضاءات الجيولوجيّة وخطاب العناصر المتلاشية، لا يمكن فصلها بالأخير عن التجربة التاريخيّة-تجربة الحرب السوريّة وحروب الأكراد أينما حلّوا‪:‬

المنازل مهدّمة. كتل الإسمنت المسلّح متراكمة بعضها فوق بعض. الأثاث محطّم، نوافذ مكسّرة، الأبواب مخلوعة، واجهات بعض المحلّات مرميّة بعيدًا، الطوابق العالية تتمدّد الآن وسط الشارع، مدافئ الحمّامات بين الأنقاض، الجدران ليست سوى حجارة متناثرة. سيّارة بيضاء تبدو مغمورة بالأنقاض.11

إنّ فعل الذاكرة في الروايات مثل المظاهر الحجريّة الثقيلة والصامتة مرتبط بالصدع الحضاريّ والتاريخيّ الذي ميّز الوجود الكرديّ. عالم ما بعد الحرب عند دوست هو عالم إشارات العنف والذكريات الكابوسيّة. الفضاء الكرديّ والسوريّ في الرواية مليء بالهياكل العظميّة والجماجم والأجساد العارية للجنود والمدنيّين، بساتين الأشجار التي كانت تعني كلّ شيء لأصحابها توقّفت فيها حركة الأشياء، وتوقّفت علامات الحرب، أو هكذا يبدو في تلك اللحظات، وغرقت في ركود جامد والْتِياعٍ شديد‪:‬

لم تمرّ ثوانٍ قليلة حتّى شعر بما يشبه طعنًا متلاحقًا في صدره. إنّها هي. لا ليست هي. هي ليست هي. كانت الجثّة متفسّخة قليلًا. بدا أنّها قضت منذ أيّام عديدة. الوجه مزرقّ ومنتفخ قليلًا. الجسد كلّه منتفخ. جراح عديدة تملأ الجسد الفتيّ الذي شوّهه الموت. الدم متخثّر على وجه الفتاة وحول جراحها، عند عينيها المسبلتين. شعرها المقصوص الجميل ملوّث بقطع من الطين والدماء المتخثّرة. انحنى عليها متأمّلًا. تمنّى أن يكون ما يراه كابوسًا. تمنّى أن تكون الجثّة جثّة مقاتلة أخرى غير بَرْفِينْ. لكنّها هي. عرفها من تفاصيل كثيرة. من قصّة شعرها. ملامح وجهها وحتّى بنطلون الجينز والحزام الجلديّ الأبيض. كانت بَرْفِينْ قد تحصّنت في بيته، عند الغرفة التي عانقها فيها قبل حوالي ثلاثة أشهر حين ودّعها وغادر إلى ضريح الجزريّ ليعكف على كتابة الرواية وسيرته الذاتيّة. إنّها بَرْفِينْ. إن خانته عيناه فسيعرفها بقلبه. حاول أن ينحني على الجثّة ليعاين تفاصيل الوجه لكنّه ارتدّ بشكلٍ عفويّ وانسحب إلى الوراء. كانت الرائحة نفّاذة جدًّا. وقف حائرًا لدقيقتين ثمّ عاد للوقوف قرب الجثّة. لكنّ الرائحة دفعته بعيدًا مرّة أخرى.12

التجوال بين الأنقاض، الإشارات والأجزاء، كلّها توثّق اللقاء مع الماضي. لا يقدّم نثر دوست سردًا منظّمًا بترتيب زمنيّ للأشياء التي تصوّر مؤامرات المجرمين وضحاياهم أو المعارك الدمويّة وحقول القتل. يجلب الأدب لنا اللحظة التي تلي الصدع فقط‪:‬

بدا الوضع في حارة يافث كأنّ زلزالًا ضرب المكان. البيوت مدمّرة. والشوارع ليست سوى أطلال. الناس حائرون مذهولون وتائهون يمشون بصمت وهم يرمقون الخراب. لم تكن الحارات الأخرى بأحسن حالًا من حارة يافث. حارة جودي، حارة السور، حارة النور كلّها تضرّرت من القصف. لم يعد حتّى ابن الحارة يعرف أين يقع بيته! الزلزال شمل نصف حارات الجزيرة التسعة.13

من الأنقاض/الإشارات لا يمكن معرفة هويّة المتوفّى، أيّ منهم ضحيّة أو مجرم، وما الذي كُسر وماذا فقد، إلّا عندما يتمّ لقاء لمّ الشمل بين الأقارب وموتاهم. لمّ الشمل مع الحجر الصامت يتيح لمّ الشمل مع الضحايا الصامتين وبالوقت ذاته مع صراخ أهلهم وتأوّهاتهم، إنّه لقاء مزدوج بين الصمت والصرخات التي تروي كلّ شيء‪:‬

لم يذهب هو أيضًا ليواسي أحدًا في الجوار. كان الجميع مشغولين بالبحث عن قتلاهم ودفنهم. رجال كثيرون كانوا يمشون مذهولين بين أنقاض الحارات المدمّرة، نساء مرعوبات يبكين بحناجر مخنوقة في بيوتٍ لم يبق منها سوى حجارة مبعثرة كأعمار السجناء وأحلام الثوّار. […] في كلّ زاوية تمدّدت جثّة مقاتل أو مقاتلة. تهدّمت بنايات كثيرة من القصف. شوارع عديدة سدَّتها الأنقاض المتراكمة. روائح الجثث المرميّة بلا دفن تزكّم الأنوف. هواء خانق يلفّ المدينة المنكوبة. في الأقبية، أسفل البنايات، ظهرت جثث متفحّمة لمدنيّين وفتيان وفتيات صغيرات ممّن حملوا السلاح وقاتلوا في الخنادق ووراء المتاريس طوال الشتاء. كثيرون من الضحايا كانوا بلا بطاقات شخصيّة تفصح عن هويّاتهم. لم تكن لهم هويّة سوى جراحهم التي نزفت الدماء حتّى فاضت أرواحهم. أمّهات كثيرات كنَّ يبكين بحرقة على ناصية كلّ زقاق. يلقين المراثي التي يرتجلنها مذهولات أمام المشهد المرعب. آباء مكلومون كانوا يقفون فوق جثث أبنائهم يحدّقون فيها بصمت يستذكرون أيّام النقاشات اللاهبة قبل أشهر عديدة.14

تعتمد حركة العودة إلى الماضي على ذاكرة جماعيّة كرديّة تُسكَت وتُقمَع بدافع معارضة بدائل الزمن التاريخيّ. تتحوّل رحلة البحث عن الماضي واكتشافه إلى عرف جماليّ للعمل مع الصور المرئيّة العنيفة والأشكال المكسورة. إنّه تمثيل شاعريّ لا يكشف الحرب إلّا بواسطة آثارٍ وأنقاضٍ مشوّهة جزئيّة وغير كاملة. جوهر مراسم الذكرى سلبيّ، حيث يسعى جاهدًا للتأكيد على الفجوة ويعبّر عن ديناميكيّة تتجنّب تمثيل الكامل والتصريح الإيجابيّ. وبذا تتبلور في طقوس التذكّر في الحرب هويّة حزينة للنثر. إنّ تعطيل استمراريّة سيرورة الذاكرة هو ذاته القسوة التي تُستعاد بها التجربة ممزّقة ومكشوفة. إنّ روايات دوست مكتوبة من وجهة نظر مفادها أنّ علامات الحرب لم تتلاشَ، الحرب لن تُنسى وسيستمرّ الناس في مواجهة أهوالها، ذكريات الحرب غير قابلة للمحو، وتشير إلى مجتمع حزن لا يذوّت الكارثة ولا يستوعبها بسيرورة حداد منظّم وجماعيّ، بل بحداد فرديّ مؤلم. يُفسَّر الضياع الاجتماعيّ في الروايات على أنّه جريمة منظّمة وتُصوَّر الأبعاد الجماعيّة الكرديّة على أنّها مجتمع من المجرمين والضحايا في آن. في هذه الروايات تتمّ محاولة رسم قصّة مجتمع تائه في واقع ما بعد الدمار بواسطة الحجر والأنقاض الباقية، ويتجلّى دور الحجر بأنّه يشكّل تعبيرًا عن القصّة الإنسانيّة كتاريخ للجريمة المستمرّة‪:‬

وهبّ الإعصار. غرقت البلاد كلّها في غبار الطباشير أولئك الأطفال واليافعين. اهتزّ العرش الدمشقيّ وارتجّت الأرض. طولًا وعرضًا، نهضت البلاد وأنّت الساحات تحت وطأة الأقدام الغاضبة، شبّت في الهشيم المتراكم على مدى نصف قرن من الزمان نار عظيمة صارت ترمي بشرر في كلّ اتّجاه. جوبِهَ الناس بغربان الموت في الساحات وفي بيوتهم وأنّى ذهبوا. باض الموت وفرّخ في كلّ حارة وزقاق شهد احتجاجًا. دخل الناس في سجون البلاد أفواجًا وخرجوا فرادى مقتولين، جرحى معاقين أو مختلّين عقليًّا في أحسن الأحوال. ذُبحت النساء والأطفال. مدن عامرة صارت أطلالًا. دم سال على كلّ مكان. خرائب وحرائق وأنقاض، قرى وبلدات صارت تظهر في صور جوّيّة تبثّها في خفر أقمار اصطناعيّة زندقيّة ترصد كون الله بدقّة وتغضّ الطرف عن موبقات عباده. هكذا هندس القائمون بالأمر للخراب الكبير وخطّطوا له.15

يفضي تتبّع أعمال دوست إلى الكشف عن صياغة رواياته السوداويّة في المجال الشاعريّ وتبيان أماكن التمزّق الحضاريّ. يسعى المؤلّف إلى خلق حضور للحالات الجامدة التي تسود في كلّ كائن حيّ ويشير كيف تنهار الأبعاد الحضاريّة أخيرًا في دمار كبير وتعود إلى السكون والركود. يتّضح في هذه الروايات أنّ قصّة الإنسان هي قصّة جريمة مستمرّة وقصّة خسارة الحياة الحضاريّة. إنّ شاعريّة الحجر والأنقاض تعبّر عن تدمير الثقافة وحالات السوداويّة.16 إنّها شاعريّة من الصمت والتعتيم، لكنّها في الوقت نفسه شاعريّة الانكشاف: الانكشاف فقط حيث يحلّ الخراب على الأكواخ، حيث البنادق والخوذ المثقوبة والمنازل، وروائح الجثث المتعفّنة والعالم الغارق، فقط في الحالات الجامدة يمكن رؤية أسس المبنى والموادّ مرّة أخرى، فقط من حالات التمزّق هذه يمكننا تخمين ماذا حلّ بفحوى الذاكرة‪:‬

فأنا لو عميت قادر على تمييز حارتي التي ولدت فيها وفتحت قلبي فيها أوّل مرّة لأوّل فتاة أعرفها، وأرسلت منها أوّل رسالة حبّ، حارتي التي تعلّمت فيها أوّل حرف من الأبجديّة ونطقت فيها أوّل كلمة، خطوت فيها أولى خطواتي، كتبت فيها أولى قصائدي، الحارة التي يضمّ ترابها عظام أبي وأمّي وأخي وأبناء عمومتي وأعمامي وعمّاتي وجيراني الأقربين، الحارة التي عشت فيها خمسة وثلاثين عامًا من عمري بين الغبار والطين وصخب الحياة والحبّ والقهر والخوف.17

الأنقاض فضاء يبعث على الألم الوجوديّ العميق، هذا الألم يتعاظم عندما يعود الراوي بذاكرته إلى أشيائه الحميميّة الخاصّة التي تبدو في فجوات الأنقاض محوًا تامًّا. تعداد التفاصيل الحياتيّة للحياة العاديّة التي كان أصحاب هذه الأنقاض يعيشونها يضاعف من تماثل القارئ مع كارثيّة وجود الأنقاض، ليست الأنقاض من هذه الناحية مكانًا محايدًا وصامتًا، إنّه مليء بعناصر الحياة التي أُزيلت عنوة‪.‬

إنّ معاينة الجثث في الركام والأنقاض تجعلها آثارًا لذكرى. كلّ الحواس تشترك في عمليّة المعاينة هذه، البصر الذي يرى المشهد الجلل، السمع الذي يشهد على أنين من الركام أو صرخات الأمّهات والأقارب لهول المشهد، الشمّ الذي يشهد على تعفّن الجثث، والذوق الذي يصبح بطعم المرار الشديد لهول مناظر الموت والألم، واللمس الذي يحفر أو يمسّد شعر جثث الضحايا، كلّ الحواسّ مشتركة في منظر الموت والذكريات والتداعيات الفرديّة والجماعيّة غير المنتهية‪.‬

يمكن أن نفهم الأنقاض على أنّها لوحة تعتمد على الخداع البصريّ: عند النظر إلى المظهر السطحيّ، يبدو الجسم الهندسيّ مثل أشكال هندسيّة مشذّبة، ولكن عند الفحص الدقيق، يتّضح أنّه وهم بصريّ ذو طبيعة مزدوجة. تُفسَّر الطبيعة الغامضة للركام الباقي في مظهره الذي لا معنى له في الفضاء، على أنّها واقع لا منطق له ولكن موجود مع ذلك، لذا جاء وضْع دوست للأنقاض في جوهر أعماله للتشكيك في حقيقة رؤية عيون الإنسان/القارئ. لقد سعى إلى إيجاد حقيقة أكثر تعقيدًا وعمقًا من مجرّد مسبّب إلهيّ سماويّ، ليس الأمر حدثًا ميتافيزيائيًّا غيبيًّا بل هو سلوك إنسانيّ بحت، ممّا يعطي الإنسان أمرًا أخلاقيًّا للبحث المستمرّ لفهم الواقع والمسبِّبات الحقيقيّة. لا يجسّد غموض الأنقاض الفجوة بين وهم الرؤية المخادعة والواقع فحسب، بل يجسّد أيضًا التعبير عن الشكّ وأزمة المعرفة في العصر الجديد وضرورة البحث عن المسبّبات الحقيقيّة لتواجد هذه الأنقاض‪.‬

الأنقاض في هذه الحالة علامة استعاريّة-علامة خراب لا تقدّم التعازي العلاجيّة، ولكنّها تشير فقط إلى مناطق الدمار واليأس والخدر وعلامات الموت. الحجر هو جسم جامد، لكنّه في الوقت نفسه مصدر للتأمّل. إنّه بمثابة أساس لشكل من أشكال الفنّ لا يفضي للحياة، ولكن لغرقٍ في الاكتئاب والولوج لداخل حدوده الضيّقة، أي أنّ الحجر لا يقدّم إلّا الموت واليأس في الفضاء، ولكنّه – على هذا النحو – يجسّد أيضًا جوهرَ العمل الفلسفيّ لفهم عمق تعقيد الكون. إنّه تأمّل في شيء جامد مؤدٍّ إلى فعل الكآبة وإدراكها، كأساس للحياة-الحياة الكئيبة.18

للأنقاض في روايات الكاتب الكرديّ السوريّ جوهرٌ متميّز مرتبط بالذاكرة بشكل عضويّ. هذا ليس حجرًا تاريخيًّا ولا اكتشافًا أثريًّا. إنّها أنقاض تحمل علامات تصدّع وانهيار وطبقات آلام. آثار دوست وأنقاضه قصّة كارثة تلاحق كارثة، وتشكِّل، في عمليّة تراكمها، سلسلة طويلة مليئة بالمعاناة والألم. إنّ تكوين سلسلة الكوارث هو تكوين لمنظر غير طبيعيّ، وبذا فإنّ تأمّل أنقاض دوست يتطلّب أوّلًا منظورًا جيولوجيًّا إنسانيًّا يبحث في طبقات السلوك الإنسانيّ. التفسير الجيولوجيّ لمشهد الأنقاض في عمله ضروريّ لاختبار الطبقات والتراكمات، طبقات عمل الذاكرة‪:‬

رويدًا رويدًا أقترب من المنازل. هل قلت منازل؟ ما أراه ليس سوى أكوام من الإسمنت المسلّح المتراكم بعضه فوق بعض، وأعداد هائلة من قضبان الحديد الخارجة من بين تلك الأكوام، والحجارة، والوسائد والفرش وألعاب الأطفال والطاولات والكراسي، والأسرّة مرميّة بعضها فوق بعض تبدو من بين الأكوام تستغيث وتئنّ تحت وطأة الإسمنت الثقيل. حارات بأكملها تفترش الشارع، أنقاض أنقاض. أصحّح جملتي السابقة الأنقاض التي تتكلّم الصمت بطلاقة.19

الأسرّة التي كانت مرتعًا للأحلام أو للشهوات أو للراحة، الأسرّة التي كانت تجمع بين كائنات البيوت تصبح حيّزًا للوحدة والغربة والتشرذم الوجوديّ، لم يعد الإنسان الكرديّ ينعم بنعمة النوم والاستلقاء والحلم، بدلًا من ذلك يصبح الشارع فراش المنازل وفراش الحارات الموحشة الخالية‪.‬

تتحوّل الخصائص المتميّزة للأنقاض إلى خصائص الأدب والنصّ: هكذا يصبح الكشف عن مميّزات الأنقاض كشفًا عن خصائص النصّ ومركّباته؛ فكلّما كانت هذه الأنقاض أكبر حجمًا أو ذكرياتها أكثر تراصًّا، ستكون حبكة الرواية والعالم القصصيّ وترتيب العناصر الروائيّة أكثر صلابة وقسوة، والعكس في هذه الحالة صحيح، فعندما تختفي هذه الأنقاض تنفرج الأحداث وتصبح آمال الحلول أكثر حضورًا على الرغم من مرارة الذاكرة. لذا تزوّد هذه الأنقاض الرواية بموادّ خام من الصلابة والقسوة والكتمان والصمت، ولكنّها بالوقت عينه كنز دفين من براكين الذاكرة المتفجّرة‪.‬

في أدب الأنقاض لجان دوست، يكتسب النشاط المزدوج للهدم والبناء صلاحيّة شعريّة، وبذلك فهو أدب مرعب وكابوسيّ. أشكال الأنقاض والآثار الباقية الإسمنتيّة أو الطبيعة التي خُرِّبت عمدًا، تشكّل في نثره علامة حزينة، ذاكرة مكسورة ومتصدّعة وجوديًّا وجيولوجيًّا. ومع ذلك، فإنّ الجانب الجيولوجيّ الإيجابيّ والبنّاء ليس له وزن في أدب دوست، لأنّ أهليّة الفعل الأدبيّ تسعى جاهدة للتفتّت والدمار. إنّ النضوب المادّيّ للأحجار المتراكمة في عمل دوست؛ ارتكاس الأحجار في كوارث الكون، وتبلورها وتدميرها في دورات مختلفة يدلّ من الناحية الشعريّة على المعيب والجزئيّ وانعدام الكمال، كما ذكرت آنفًا. شعاع الضوء، الذي أُلقي من الأدب على الحجر المكسور والمفقود والمنحلّ، يسعى إلى مواجهة ماضٍ كرديّ مسكون بالكوابيس. إنّ الإشارة المتكرّرة للماضي في أدب دوست منبثقة من أحداث التاريخ الكرديّ والسوريّ وهي تعيد خلق الأدب حركةً ديالكتيكيّة سلبيّة‪:‬

إنّه كابوس. إنّني ألهث. أشعر بالعطش. أهرب عبر الأنقاض. أمرّ من المساجد والدكاكين والبيوت المدمّرة. رعب الألغام ما زال يلازمني. ولكنّني أسرع في الهرب. أسمع نشيجًا وحشرجة من مكبّرات صوت المساجد. يبدو كأنّ أحدًا يُنحر. المآذن مضطجعة على الأرض كأنّها جثث مرميّة على الأنقاض. إنّها أصابع الربّ المقطوعة هناك، صامتة ميّتة… ألمح إبريقًا. إنّه إبريق وضوء المسجد الكبير وسط المدينة. يدفعني الظمأ الشديد إليه. أرفع الإبريق لأشرب. أجده مليئًا بالدم. أرميه من يدي مرتعبًا وأهرب كمن أصابه مسّ.20

تعدّت الأنقاض في هذا المشهد العجيب فعلَ الصمت في وعي الراوي، إنّها مشاهد مليئة بالأصوات الغريبة المنبعثة من اللاإنسانيّ، أو المنبعثة من مخزون مخيّلة الراوي. كابوسيّة المشهد تنبع من الهوّة العميقة بين التوقّع والحقيقة/الخيبة الكابوسيّة، التوقّع مصدره الذاكرة الفرديّة والجماعيّة التي ترسم حقائق ما كان، أمّا الحقيقة/الخيبة الكابوسيّة فهي مشهد الأنقاض المشوِّش لعناصر الذاكرة. كلّ ما تبقّى من هذه العناصر لا يتعدّى الأجزاء المبعثرة، الأجزاء التي تحوّلت إلى نقيض ماهيّتها، الإبريق على سبيل المثال، رمز الدخول إلى الطهر والاستعداد للقيام بطقوس الصلاة المقدّسة، ينقلب من ماهيّة الطهارة إلى الدنس، من فعل الحياة؛ الماء، إلى فعل الموت؛ الدم‪.‬

‫ويطرح هذا الوصف الروائيّ للأثر الباقي في روايات دوست العلاقةَ بين الأزمة وسؤال الشاهد والشهادة بحسب تعبير دوري لاوب (‫Dori Laub‬، 1937–2018).21 فالكارثة التي حلّت بكوباني وعامودا أدّت إلى انهيار الشهادة، وبذا إلى الإبادة، فتاريخ هذه الكارثة حدث على ما يبدو بدون “شهود” بعد أن أُخليت هذه المدن من السكّان. تصرخ المناطق فلا أحد استطاع سماعها بالماضي ولا أحد يسمعها اليوم: “الآن أرى هضبة مِشْتَنُور باكية شاكية. لا تجد غير سهل سروج تشكو له همّها، لا تجد غير السماء تصغي إليها، لا تجد غير أنقاض تبكي في حضنها وتنوح.“22 الظروف المرعبة لم تسمح بالتواجد بداخل الحدث والبقاء على قيد الحياة؛ في عالم الكارثة يصبح الآخر غير ممكن أيضًا: لم يكن هناك آخر يمكن التوجّه إليه على أمل أن يسمعك، على أمل الاعتراف بك ذاتًا تستحقّ الجواب. من هنا، يشير لاوب لتحوّل الكارثة إلى وضعيّة فلسفيّة تنسف أيّة إمكانيّة للتوجّه إلى الآخر أو الطلب منه، ومحاولة إعادة تشكيل الواقع من جديد. كذلك، تنسف القدرة على مساءلة النفس أو الشهادة على ما حلّ بنا: “كلّ ما أشير إليه أنقاض وذكرى بيوت. يا إلهي. تستبدّ بي رغبة عارمة أن أذهب إلى كلّ تلك البيوت وأطرق أبوابها. أبواب؟ وهل بقيت أبواب تُطرق في هذه المدينة المنكوبة؟ لا أبواب ولا جدران تستند إليها الأبواب. ولا أحد هنا يطرق الأبواب، سوى الريح والفاجعة.“23

إنّ فقدان أهليّة الشهادة من داخل الحدث يحمل في داخله المعنى الحقيقيّ للإبادة، فمجرّد إلغاء الشهادة هو عمليًّا إلغاء هويّة الضحيّة. هذا ما يفعله جان دوست في وصفه الأثر الباقي، حيث يخرج ضدّ التحطيم أو الإبادة، ضدّ إلغاء الشهادة أو المقدرة على توثيق الحدث وبذلك المحو التامّ للإنسان الكرديّ السوريّ وتاريخه وهويّته‪:‬

أركض عبر الدكاكين على طرفي الشارع. الدكاكين؟ يصحّح خيالي المرعوب العبارة من جديد: أركض عبر أطلال الدكاكين الجاثمة على طرفي الشارع وكأنّها تعبت من الوقوف فأرادت أن تستريح فانهارت […] أمامي في الجنوب هضبة مِشْتَنُور. تبدو مثل عجوز غاضب. نتبادل النظرات. تؤلمني نظراتها. إنّها مليئة بالغضب والأسى، مليئة بحقد مقدّس. أرمقها بدوري بنظرات ملؤها الاعتذار. البيوت التي كانت فيما مضى تتسلّق سفح الهضبة تبدو الآن مرتميةً على الأرض. ميّتة. لا حراك فيها ولا حياة.24

إنّ العودة المتردّدة إلى الأنقاض هي فعل صدمويّ من الدرجة الأولى، فعل قد يكون مشوبًا بشعور مختلط من فرح العودة وهول المشهد الحاضر. في فصل “عودة اليمام“25 برواية كوباني يتحدّث الراوي عن عودة النازحين إلى بيوتهم في كوباني بعد أن قصفتها الطائرات الأمريكيّة في حربها مع فصائل تنظيم الدولة الإسلاميّة داعش. يسرد اللقاء مع الأنقاض في هذا الفصل مدى الشقاء الذي أصاب العائدين الذين فرحوا بدايةً لتحرير مدينتهم من داعش. “يا للهول! لقد قامت القيامة هنا. لا يمكن أن نتعرّف إلى المكان! […] لم يتركوا لنا جدارًا على حاله. […] أين نحن؟ ما هذا المكان؟ حين اقتربت من حارتها ندّت منها صرخة ضعيفة. لم تتعرّف إلى المكان. البيوت منهارة والشوارع مليئة بالأنقاض تفوح منها رائحة البارود والحريق.“26 على أنّ فرح العودة حمل معه شعورًا بالموت المجّانيّ والخراب العبثيّ الذي لم يأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه منازل لأشخاص بنوها على امتداد سنين طويلة. “التحرير” العسكريّ من داعش لم تصاحبه أيّة اعتبارات إنسانيّة تأخذ بالحسبان عودة النازحين. يتناسب مصطلح “المحو الجميل،” والذي يتغاضى بحسب نعومي كلاين (Naomi Klein، 1970–)27 عن إعادة توطين سكّان الكارثة بل التخلّص منهم وبيع مناطقهم لشرائح سكّانية ميسورة، يتناسب ومشاهدَ الأنقاض وعدم القيام بإعادة ترميم المباني لتعود مكانًا للأمان الوجوديّ وحيّزًا يزوّد العائدين بروتين حياة طبيعيّة‪.‬

من جهة أخرى، فإنّ مغادرة الأنقاض، كما حصل في مدينة حلب، يعني الوداع أو الشعور بالنفي القسريّ، إنّ النازحين في الباصات الخضر يستغلّون الأنقاض لتكريس وجودهم، على الأقلّ لمحاولة إبقاء شيء منهم للذكرى، لقد تحوّلت الأنقاض إلى جداريّات للتعبير عن المشاعر المختلطة ومشاعر الحزن أو مشاعر الغضب‪:‬

حدّق أبو ليلى في الخارج حيث الأنقاض المغسولة لتوّها بالمطر، فرأى مقاتلًا يتنكّب بندقيّة على كتفه مع امرأة ترتدي حجابًا أسود وجلبابًا طويلًا، لونه أقرب إلى الأزرق، كان وجهاهما إلى الأنقاض وظهراهما إلى العالم، كتب الشابّ شيئًا ببخّاخ دهان أسود، وسرعان ما ظهرت الحروف الأولى. ثمّ كلّما تحرّك الشابّ المقاتل والفتاة إلى جهة اليسار ظهرت بقيّة الأحرف: را..راجـ. راجعيـ. راجعين راجعين استلمت الفتاة علبة البخّاخ من رفيقها وأضافت لكلمة “راجعين” عبارة “يا هوا” في استحياء واضح من أغنية طالما تغنّى بها العشّاق في مشرق الظلمات. “راجعين يا هوا.” ظهرت الكتابة المفعمة بالأمل وسط أنقاض أحد شوارع حيّ السكّريّ بوضوح، ثم دوّن المقاتل ذو اللحية الخفيفة تاريخ خروجه وصاحبته ومئات مثلهما.28

2 الأنقاض: الحدّيّة ومسارات النزوح واللجوء

يتشابك وصف الأنقاض والأثر الباقي في هذه الروايات ومصطلح الحدّيّة أو العتبيّة29 في علم الاجتماع، فالراوي يزوّدنا على الدوام بمراحل انتقاليّة مفروضة على الأكراد والسوريّين، الأنقاض في سياق دراستنا هذه عتبة تفضي إلى مستقبل أكثر سوادًا، الأنقاض نذير تدمير وانعدام لاحتماليّة العيش كما كانت الأوضاع عليه من قبل. فالحرب تُنهي حقبًا ولا تسارع إلى فتح حقب جديدة، بل يبقى الناس في حالة ترقّب غامضة، حالات مرحليّة قاسية من المواجهة الاجتماعيّة والوجوديّة والحياتيّة. فعْل الحروب لا يُبقي الأمور على حالها بل يجبر الهامش المقصوف بكلّ أنواع التشرّد والقسوة على ملاءمات معيشيّة قاسية يستعدّ بعدها لملاءمات قد تكون أقسى وأوحش‪:‬

مات أطفال كثيرون، سحقتهم كتلُ إسمنتِ سقوفِ بيوتهم وجدران مدارسهم التي انهارت، فهشّمت عظامهم الهشّة الطريّة. ماتوا مختنقين بالهواء الذي سمّمته طائرات، يقودها طيّارون من بلادهم ذاتها قبل أن ينضمّ إليهم طيّارون من بلاد الفيتو أيضًا، ماتوا بقصف الفصائل المسلّحة العشوائيّ لمناطق سمّوها مناطق النظام.30

آثار الخراب في حلب هي مشهد ديستوبي من الدرجة الأولى، إنّه المكان الذي تتحوّل فيه الأمراض الاجتماعيّة والجسميّة والأخلاقيّة إلى بؤرة للدلالة على بؤس الحالة الوجوديّة التي آلت إليها البلاد جرّاء الحرب، أو جرّاء من افتعلها، محلّيًّا، وإقليميًّا، وعالميًّا. يفرض وجود الأنقاض إمّا الموت أو النزوح والهروب نحو أفق ضبابيّ. إنّها صور مقلقة عن وضعيّات حدّيّة متعاقبة تزهق الأرواح وترهق الضحايا‪:‬

أصبحت حلب الشرقيّة بعد أشهر طويلة من الحصار وشهور من القصف المستمرّ منطقة غير قابلة للسكن والحياة. انعدمت فيها وسائل المعيشة كلّها وباتت أقرب إلى خرائب تسكنها الأشباح. تهدّمت المدارس والمستشفيات والأبنية. سُوِّيت كثير من الدور بالأرض ومات الكثيرون تحت ركام الأنقاض. زلزلت حلب زلزالها، ولم تكن العبارة التي وردت في كتاب البداية والنهاية لابن الأثير الجزريّ عن مأساة حلب في ظلّ المغول “وبقيت حلب كالحمار الأجرب” بعيدةً عن صفة حلب خلال أشهر القصف الرهيبة، بل أصبحت حلب في ظلّ تلك الحرب العمياء والقصف العنيف الذي لم يميّز بين الأهداف جثّة فارس أثخنته الجراح ولم يجد من يسعفه فينتشله من ميدان المعركة فمات بعد أن نزفت جراحه الدم الموجود كلّه في شرايينه. ذهبت صيحات المنكوبين كلّها “وينكن يا عالم؟” سدًى دون أن تعود الروح إلى تلك الأحياء المدمّرة في حلب بل خرج منها بقيّة الأرواح التي صمدت في الأزقّة والحارات، ليُعلَن نعي شرقيّ المدينة على مسامع العالم كلّه.31

الأفق المطروح بعد هذه الصرخات ينذر بالمجهول، والباص الأخضر الذي سينقل من يرغب بالانتقال إلى أماكن أخرى لا يعد بشيء إلّا بالخروج، لا يعد بأفق وجوديّ أفضل. حلب أصبحت مدينة أنقاض لا تفضي إلّا للنزوح ومسارات الالتباس. لا يخبرنا الراوي عمدًا أين استقرّ الباص، وماذا جرى لركّابه من النازحين قسرًا عن بيوتهم المهدّمة جزئيًّا أو كلّيًّا، انتهت الرواية بموت بطلها العجوز بعد أن انتهى من سرد ما كان، دون الإفصاح عمّا سيكون. الزمن الكرديّ والسوريّ بماضيه وحاضره ومستقبله سمته الموت، والقلق، والرعب. أبو ليلى الشاهد على الأحداث وأحد ركّاب الباص الأخضر يرى مشهد موته ومستقبل الباص بعيون سورياليّة تحيلنا إلى وضعيّات الدمار، يقول‪:‬

بعثرت الريح التي أثارتها الأجنحة الغشائيّة الصور التي كان “أبو ليلى” يتمعّن فيها قبل قليل، طار فستان العرس الأبيض من يديه. حاول أن يأتي به، ليضعه في الحقيبة، أراد أن يجمع الصور من جديد، لكنّه شعر بشلل تامّ. أراد أن يصرخ، فشعر بحنجرته مخدّرة. لم يعد “أبو ليلى” قادرًا حتّى على تحريك عينيه. صار تمثالًا من الشمع. بقيت نظراته الجامدة معلّقة إلى الأمام فيما بدت الطيور المرعبة كأنّها تنبع من المقعد، لتصبح نهرًا يتدفّق باتّجاه المؤخّرة حتّى امتلأ الباص بأسراب وعناقيد لا تحصى من الخفافيش.32

لا شيء واضح في التاريخ الكرديّ إلّا مسارات الموت: حرب، وأنقاض، وموت، وتشرّد لا نهائيّ. الخفافيش المرعبة، علامة الموت المؤكّد والمجهول السوداويّ، تملأ الباص، وسيلة الملاذ يعلنها “أبو ليلى” قبل موته بأن ليس من ملاذ أبدًا، بل موت محقّق‪.‬

‫ويرتبط موضوع الحدّيّة بأشكال الهامش الذي يتعرّض في هذه الحالة للإقصاء المستديم، فليس الرحيل عن حلب، في نهاية المطاف، إلّا نتيجةً حتميّة لعدم الأهليّة للسكن بعدما دمّرتها الطائرات وكوّمت قصدًا أكوام الحجارة على رؤوس من فيها دون تمييز. الباص الذي يستوعب النازحين أو الخارجين من حلب، بعد أن تحوّلت إلى أنقاض، يمثّل نوعًا من العتبيّة التي ستليها مراحل حدّيّة أخرى، أو فلنقل مراحل إقصاء جماعيّ. تبدأ عمليّة الإقصاء برغبة الأيديولوجيا المهيمنة، المتوافقة مع المركز، على دفع الآخر والأجنبيّ والمختلف والهامش عن عالم النفوذ والقرار. وفقًا لميشيل فوكو (‫Michel Foucault‬، 1926–1984)، تستند أساليب الإقصاء إلى الرغبة في تعريف خطاب الآخر على أنّه خطاب متحيّز وزائف، وبذلك فهو غير ذي صلة ويفتقر إلى السلطة. أولئك الذين يتبوّؤون السلطة يشدّدون على تطلّعهم ورغبتهم بالكشف عن الحقيقة، ولكنّها في جوهرها ليست سوى الرغبة في السلطة.33 هكذا يتمّ الإقصاء وفق منطق المركز ومصالحه، دون أيّة اعتبارات إنسانيّة للآخر المغيّب‪.‬

ويشكّل هذا الوصف للأثر الباقي أو الأنقاض في روايات دوست مدخلًا إلى تصوير مسار اللجوء القسريّ؛ فالأنقاض محو لمسكن كان يقطنه بالأمس بشر فقدوا إمكانيّة العودة إليه. يترتّب على هذه الأنقاض وصف لمسارات النزوح وللمخيّم: “لكن الوصول إلى أين؟ لم يحدّد أحد هدفه. كانت الأهداف تتغيّر بين لحظة وأخرى. سنذهب إلى حلب. لا سنذهب إلى بلدة نُبُّل. لا سنعود. لا سنخيّم هنا في الحقول والبساتين ريثما تهدأ الأوضاع. لا بل ستكون هناك مخيّمات.“34 المخيّم موقع تُمارَس فيه السياسات المحلّيّة والعالميّة والأخلاقيّة. وإذا كانت الأنقاض عمليّة طمس لمعالم الأشياء، ففي المخيّم يتواجد “الأشخاص المكشوفون،” مصابو الكارثة، مجهولو الأسماء، العاجزون، المحرومون من الحقوق السياسيّة. المخيّم، النتيجة الحتميّة للأنقاض الموصوفة في روايات دوست، هو الموقع الذي يمكن فيه ممارسة استراتيجيّات السيطرة على “ضحايا الكارثة” ومراقبتهم، وهي نتيجة منظّمة للوضع الكارثيّ. في الفصل الأخير لرواية ممرّ آمن الموسوم بـ“ليلة التحوّلات الأخيرة“35 يصف الكاتب كيف تحوّل المخيم، موقع الأمان المؤقّت، إلى طوفانٍ أودى بما تبقّى من حياة لقاطنيه: “لكنّ الوضع خارجًا كان أشبه بالقيامة فعلًا. شاهدت رجالًا ونساء يخوضون في المياه وهم يحملون على رؤوسهم أشياءهم المهمّة وبعض الأطفال. شاهدت رجال الهلال الأحمر يتراكضون من خيمة إلى أخرى لإنقاذ الأطفال والمسنّين، وشاهدت أيضًا أثر الخراء الذي نثره حديث المسؤول الحزبيّ البارز يجرفه السيل بعيدًا عن المخيّم الغارق.“36 المخيّم الذي كان من المفروض أن تقيمه الفصائل الكرديّة المنبثقة عن شعبها لتحميه أصبح بفعل السياسة الخاطئة وغير المسؤولة، كما يظهر من الاقتباس أعلاه، أصبح كارثة تالية لكارثة الأنقاض التي فرّ منها المهمّشون قسرًا، وأصبح جزءًا من التاريخ الكرديّ الذي لا يعرف الأمان والاستقرار، المخيّم من هذا المنظار الوجهُ الآخر للأثر والخراب، المرآة العاكسة لوجوده. ويمثّل المخيّم بهذا السياق جزءًا من فعل الندامة التي يعاتب بها الإنسان الكرديّ النازح نفسه، لأنّه قبِل بهذه الحلول الضعيفة‪:‬

أحد الأطبّاء قال إنّ حميدة مصابة بانهيار عصبيّ. كانت تصرخ وتولول وتهذي حتّى حقنوها بإبرة، فهدأت ونامت. ماذا فعلنا حتّى حلّت بنا كلّ هذه المصائب؟ ما ذنبنا في كلّ ما يحصل؟ لم نكن نعرف من الدنيا سوى جني الزيتون. نعتني بالأشجار الخضراء، ننتظر الموسم لنقطف حبّات الزيتون ونرسلها إلى المعصرة. نخزّن من الزيت مؤونتنا لعام كامل ونبيع ما تبقّى. هكذا كنّا نعيش بأمان حتّى هاجمتنا الذئاب. ليتني متّ في قريتي ودفنت تحت شجرة زيتون في ترابها ولم أخرج منها إلى ذلّ النزوح والعيش كالقرباط في الخيام.37

ينتج عن هذا تساؤلات دوست المضمرة ومقارناته الكامنة: هل صُمِّم “المخيّم” الذي أُعدّ لإنقاذ الأرواح بما يتشابه والمعسكر العسكريّ أو “معسكر الاعتقال” أو معسكر التركيز، بكلمات جورجيو أغامبين.38 للإجابة عن هذه التساؤلات يمكن القول إنّ المخيّم الذي أقامته الفصائل الكرديّة للأغراض الإنسانيّة لا يُفصَل عن معسكرات الاعتقال التي تقيمها الدول. من الواضح وجود تشابه بين المخيّم الإنسانيّ الذي يسعى إلى إنقاذ الأرواح ومعسكر الاعتقال الذي يسعى للقضاء على الحياة.39 هذا التشابه مردّه برأيي إلى الكمّ الهائل للأثر الباقي/الأنقاض في هذه المدن التي دُمّرت عن بكرة أبيها، دون أيّة اعتبارات لحياة هؤلاء النازحين‪.‬

3 نصوص الأنقاض وكتابة السيرة الذاتيّة واليوميّات

لم يكتب جان دوست سيرته الذاتيّة أو يوميّاته بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنّه استخدم الإطار الشكليّ لهذين النوعين من الكتابة، بحيث يتقمّص الراوي شخصيّةً هي قناع المؤلّف، يسرد فيها مآسي شعبه والدمار الذي حلّ به، مؤرّخًا في حالات كثيرة للوقائع بزمن واقعيّ متعاقب. يعود المؤلّف افتراضيًّا في رواياته إلى موطنه ويسرد من وجهة نظرٍ ذاتيّة سيرته بواسطة قصص عايشها بالماضي بنفسه، أو سمعها عن أقربائه أو عايش بنفسه حالات ما بعد الصدمة التي مرّ بها أقرباؤه وأصدقاؤه. إنّها في الآخر يوميّات شعبه وحاراته التي عاش بها وسيرةٌ توثّق للدمار الداخليّ والخارجيّ. كانت هذه وظيفته التي وعد بها نفسه ووعد الآخرين‪:‬

قفلت السيّارة راجعة ببطء حتّى وصلت بيت الملّا سعد الدين، جدّ الفتى القتيل سعد وخال الراوي. نزل منها. استقبله عبد الباقي سعد مبتسمًا بحزن، كانت عينا عبد الباقي طافحتين بألم لا تسعه محيطات الدنيا كلّها، تقدّم ثمّ عانق الروائيّ طويلًا، عانقه بحرارة ثمّ تركه، لم يتكلّما كثيرًا. كلّ شيء كان قد قيل. كلّ شيء. –عدني أن تكتب عن سعد ورفاقه شيئًا يليق بهم يا صالح. بأسى كبير قال والد سعد دون أن ينظر في عيني الروائيّ. –أعدك يا خال. أعدك. بأسى كبير ردَّ الروائيّ.40

‫تقدِّم كتابة السيرة واليوميّات للشاهد الافتراضيّ عند دوست دليلًا على الأزمة التاريخيّة والزمنيّة في نصوص هذه اللحظة في التاريخ الكرديّ. من الناحية الرسميّة، يحتوي أدب اليوميّات أو السيرة على عدّة أشكال نموذجيّة لـ“نصوص الأنقاض”: الوقت الحاضر، والتخبّط في المضيّ قدمًا، وعدم وجود قوس سرديّة للأحداث (narrative arc)، وتأمّلات في فعل الكتابة. تقدّم نصوص الركام والأنقاض أمثلة أخرى على جماليّات التشظّي، والوعي الذاتيّ المرتبط بمفهوم “الأنقاض” وعلى محاولة إِفراد مساحة جديدة للثقافة الكرديّة والسوريّة في فترة ما بعد الحرب. وتشتمل هذه الروايات على طرح المسائل الزمنيّة وكتابة التاريخ، وآليّات الكتابة في أوقات الأزمات، وسياسات نصوص الركام في سياق مشاريع الحرب وما بعد الحرب ضدّ الأكراد على وجه الخصوص‪.‬

ويشكّل هذا النموذج من كتابة السيرة أو اليوميّات زمنًا حاضرًا للغاية، فهي تُكتب عادة متزامنة والأحداث المرويّة. يسمح انفتاح شكل اليوميّات للكتّاب والمعاني بالتمثيل والعمل في فترة الأزمة، ممّا يتيح التفكير في مرور الوقت ومكان موضوع الكتابة في التاريخ‪.‬

إنّها في الواقع الكتابة الضدّيّة للرواية التاريخيّة كما صيغت في عهد النظام السوريّ أو الأحزاب الكرديّة الموالية له، والتي تميّزت بالوحدة والكمال والبطولات القوميّة والأمان المزعوم، ولذا فهي تبثّ عدم اليقين بشأن معنى العيش في الوقت الحاضر. تقدّم اليوميّات، على وجه الخصوص، أدلّةً تاريخيّة مقنّعة للأزمة التاريخيّة والزمنيّة في هذه الفترة، بينما تقدّم المذكّرات أمثلةً عن حالة عدم اليقين وعن تداعيات الأزمات. يرصد دوست بفصل “هندسة الخراب“41 في رواية دم على المئذنة الحقيقة الأخرى لسيرورة ممارسات قمع النظام السوريّ على الأكراد، ويوثّق للوجه الضدّيّ الذي يكشف عن تاريخٍ من الاضطهاد المدروس الذي خطّط له النظام على مدى سنوات، ضدّ أناس عزّل، حيث هندس النظام كيفيّة سلب هؤلاء لوجودهم وهويّاتهم ولغتهم وسلوكهم الطبيعيّ. كانت هذه مهمّة الروائيّ صالح الذي أخذ على عاتقه سرد تفاصيل هذه المسيرة الحالكة من حياة الأكراد تحت سيطرة نظام الحكم السوريّ والأحزاب الكرديّة الموالية له وبدعم روسيّ وإيرانيّ‪:‬

سيرة وطن من سراب مات أبناؤه عطشًا. دوّنها الروائيّ صالح حين استيقظ من كابوسه المرعب الذي سُردت فصوله فيما سبق من صفحات تحت اسم “دم على المئذنة” […] في البدء كانت الأصابع. والأصابع صارت تكتب. والكتابة جريمة تقتل مرتكبها. ولا شكّ أنّكم تذكرون أنّني، أنا جان دوست مدوّن هذه الوقائع الأليمة والسيرة الناقصة، ادّعيت حين دبَّجت هذه الرواية أنّني كتبت العبارة تلك ذات رسالة ضائعة لصديق لي ضائع هو الآخر.42

‫يلفت كوسليك (‫Koselleck‬، 1923–2006)43 الانتباه إلى المفاهيم التي استخدمها المؤلّفون في كتابة التاريخ، وإلى حقيقة أنّ التجارب البشريّة للوقت تتجاوز المقاييس الطبيعيّة، مثل الوقت المجرّد الذي يقاس بالتقويمات والساعات، متنبّهًا إلى أنّ النماذج الزمانيّة مكانيّةٌ بالضرورة. يطوّر كوسليك تصنيفات “فضاء الخبر،” حيث يصنع الماضي حاضرًا، ويصنع “أفق التوقّع،“44 أي المستقبل حاضرًا وضبابيًّا بالوقت ذاته. يقترح الأفق “حدًّا مطلقًا” لما يمكن تخيّله أو توقّعه: “إنّه يوجّه نفسه إلى ما لم يتمّ بعد، إلى غير المجرَّب، إلى ما سيتمّ الكشف عنه.“45 إنّ الأنقاض بما تحتويه من أبعاد زمانيّة تجمع بين ذكرى الماضي وهول الحاضر وضبابيّة المستقبل، وأبعاد مكانيّة تتراوح هي الأخرى بين كمال مكانيّ ماضويّ وتشظٍّ مكانيّ مضارع، هذه الأنقاض تتلاءم مع أدب السيرة والمذكّرات الافتراضيّة عند دوست، لكونهما تنزعان إلى التجربة التاريخيّة الذاتيّة (فضاء الخبرة الذاتيّة) التي ترسم حدود التاريخ من قصص الراوي الذي عاين الأحداث بنفسه أو كان مشاركًا فيها. الأنقاض تقضي عند دوست على إدراك الزمن الواقعيّ أو التاريخيّ الخطّيّ، ليحلّ محلّه الزمن الشخصيّ الذي يروي أحداثه بنفسه عن طريق معاينة شخصيّة وتجربة ذاتيّة. يعثر بين الأنقاض، على سبيل المثال، على ساعة المحراب ملقاةً وتشير إلى زمن يعرفه الروائيّ جيّدًا، الساعة التي أرّخت لأحداث الماضي ما زالت بالنسبة له تؤرّخ بالزمن النفسيّ لما يمرّ به شخصيًّا وما يمرّ به الأكراد‪:‬

ساعة الحائط المعلّقة على يمين المحراب تشير إلى الخامسة وأربع عشرة دقيقة. أكاد أصعق! الزمن ثابت! منذ متى تشير الساعة إلى الخامسة وأربع عشرة دقيقة؟ إنّها لا تتقدّم. أصغي إليها. تك تك تك تك. هي نفس الدقّات التي سمعتها قبل خمسة عشر عامًا حين ودّعت أهلي وقبر أبي وأمّي وخرجت من البلاد. إنّها تدقّ إلى الآن. الساعة لم تتوقّف. ما توقّف ربّما هو الزمن نفسه.46

هذا التشابك بين نصوص الأنقاض والسيرة الذاتيّة والمذكّرات المفترضة يكشف عن العلاقات المتبادلة بين الوقت والثقافة والتاريخ، مع إيلاء اهتمام خاصّ للتجربة الذاتيّة للوقت ولكتابة هذه التجربة. إنّ قراءة روايات دوست من هذا المنظار توضح كيف يحاول الأفراد الذين يعيشون في لحظة تاريخيّة انتقاليّة وصف المواقف التي يُختبر الوقت فيها بطريقة مختلفة، وأكثر حدّة. يستعمل دوست في رواياته كتابة هيكل اليوميّات والسيرة واصفًا الأنقاض لمعالجة الشعور بأنّ طبيعة الوقت قد تغيّرت، وتغيّرت معها إمكانيّات التعبير عن الذات والتواصل‪:‬

تابعت أنا أيضًا دمار هذه المدينة التي شهدت ميلادي واحتضنت ذكرياتي، شاهدت دمار روحي ورأيت كيف أنّ ما يُدمَّر ليس فقط بيوتًا متناثرة في مدينة صغيرة منسيّة، بل إنّه تاريخ من الأحلام يُزال، أعشاش آلاف من الناس تُحرَق وتُدمَّر في وضح النهار.47

يستكشف دوست الوقت على أنّه مجزّأ أو متسارع أو تاريخيّ. نصوص أنقاض الحرب وما بعد الحرب، تتوسّط الخيال الزمنيّ عن طريق جعل الماضي حاضرًا، والمستقبل أفقًا للتأمّل. في اليوميّات، يكشف لنا المؤلّف كيف يدرك الأفراد أنّ الزمن التاريخيّ يتداخل مع وقتهم بطريقة جديدة، وأنّ أفق المستقبل يزداد صعوبة في الفهم أو التخيّل. يبني الزمن المضارع للمذكّرات هذا الأفق المحدود، حيث إنّ النصّ ليس سردًا أُنشئ بأثر رجعيّ، ولكنّه بالأحرى سرد يوميّ مستمرّ في التقدّم. إنّها كتابة الذات، ومسألةُ جماليّةِ التجربة الصادمة. لذا يؤرّخ للأحداث في رواياته بحسب أوقات الفجيعة، تلك الأوقات التي تجمع بين طيّاتها الزمن النفسيّ أو الممارسة الشخصيّة‪:‬

في ذلك اليوم، أشارت التقاويم المعلّقة على الجدران كلّها، وكذلك المثبّتة في أجهزة الهواتف النقّالة الذكيّة وساعات اليد إلى العاشرة صباحًا من منتصف الشهر الأخير سنة 2016. وحدها تقاويم جدران الأبنية المهدّمة كانت تشير إلى أيّام القصف، فيما أشارت ساعات اليد في معاصم القتلى تحت الأنقاض إلى لحظات الدمار الرهيبة التي طالت أحياء كثيرة في حلب وغيرها من المدن المفجوعة. كانت قد مضت على بداية الحرب في تلك الجمعة الباردة خمس سنوات عجاف وسبعة أشهر أشدّ عجفًا، سالت فيها الدماء مدرارًا دون أن يتمكّن مجلس الأمن المخصيّ بمشرط الفيتو من صنع ضماد لإيقاف النزيف.48

هذه اللحظات الساكنة لمشاهد الأنقاض وما تحتوي، تصنع فرقًا جوهريًّا برأيي بين تقليد تأمّل الآثار وصورها في سرديّة دوست الذاتيّة وسيرة شعبه، وبين الاستعارات وجماليّات “الأنقاض” وشكلها. توفّر الآثار توجيهًا في الزمان والمكان، ممّا يسمح للمشاهدين بتخيّل ما كان وما يمكن أن يكون، في حين تشير الأنقاض إلى حالة من الارتباك والدمار على نطاق واسع، إلى عالم يتّسم بالارتباك والتفكّك – عالم قاسٍ من الخراب والأنقاض، من اليتْم والقتل الأرعن‪:‬

فكم يتّمت هذه الحرب أطفالًا، وتركتهم لمصير مفجع! كم طفلًا خرج من تحت الركام مذهولًا بعد حفلة عربدة للعفاريت المعدنيّة في الأعلى، ليجد نفسه وحيدًا، ينادي على أبوين، ابتلعتهما الأنقاض! كم طفلة كانت تعود من مدرستها جذلى، وجديلتاها تلهوان مع الريح، خطفتها رصاصة قنّاص؟ كم طفلًا مات رعبًا قبل أن تقطع وريده سكّين وحش بشريّ؟49

يثير دوست تساؤلات حول معنى السلوك البشريّ في أعقاب الكارثة التي حلّت بشعبه. ليست القصّة المرويّة قصّةً تُروى “من أعلى،” بل “من أسفل،” من داخل الأنقاض، وفي كثير من الأحيان مع رؤية قريبة ذاتيّة تُعنى بالتفاصيل والحالات الفرديّة التي تبتعد عن الخطّ التاريخيّ الجماعيّ‪.‬

إجمال

إنّ الإنسان هو جوهر عمل دوست الروائيّ، من هنا فالفرديّة واستقلال الفكر والحرّيّة، والتي عبّر عنها أيضًا في ممارسته بصفته شخصيّةً عامّة، ليست سوى جانب واحد من مبادئه الإنسانيّة. إنّ نقطة انطلاقه في جميع كتاباته هي الإنسان دون استثناء. فالفرد، الإنسان، بصفته نسيجًا من التجارب، والذكريات، والعواطف، وأنماط الحياة، تشكّل مجمل حماسه والوحدة الأساسيّة في تركيبة كتاباته‪.‬

إنّ روايات دوست تعطي في الواقع صورةً لعمق الرعب الذي يهدّد بإخضاع أيّ شخص ينظر بصدق إلى الأطلال المحيطة. عند قراءة الروايات وأنقاضها المتراكمة، من السهل أن ندرك على الفور أنّ هذه الأنقاض ليست إلّا قصصًا قد وُسمت بحزن عضال، إذا صحّ التعبير، لا يمكن علاجه. الفصول مشحونة بطبيعة لاأدريّة راديكاليّة كئيبة، الدم الداكن يتخثّر في كتلة لزجة أو جافّة على أعضاء الضحايا، أو يتجمّد رعبًا وخوفًا في عيون الأهالي الباحثين عن موتاهم. يرمز هذا الدم إلى اليأس المهووس الذي يعمل ضدّ الرغبة في البقاء، الكآبة نفسها التي لم يعد من الممكن إخفاؤها، والتي في الواقع كان من المفترض أن يغرق فيها الأكراد في مواجهة مثل هذه النهاية الرهيبة. تجرّأ دوست على كسر المحرّمات المتعلّقة بذكر الدمار الخارجيّ والداخليّ. الشخصيّات الرئيسيّة في الروايات مرعوبة من فكرة أنّه يتعيّن عليها الآن البدء بالعيش مرّة أخرى، ولا شيء يبدو طبيعيًّا بالنسبة لها أكثر من مجرّد الاستسلام. إنّ عدم وجود رغبة حقيقيّة في الحياة هو سمة مميّزة مشتركة بين العديد من أبطال دوست. هذه الأحجار المتشظّية، النقص الذي تمسّك به كوصمة عار، هو الإرث الذي تركه لهم التواجد بين الأنقاض‪.‬

في هذه الكتابات، كما في نثره عامّة، يعكس دوست بثباتٍ وغضب جمّ تاريخَ الأكراد. إنّه يفعل ذلك بواسطة تباعد نقديّ متزايد، ونابع من إدراكه لقربه الشديد، والانتماء إلى هذا التاريخ بالذات، إدراكه لوضعه كابن المكان والزمان الذي يكتب عنهما، كابنٍ لهذه الأنقاض. تعمل أعماله الأدبيّة وسيطًا للذاكرة، وهي جزء من تراكم كامل لعمل الذاكرة الذي يسلّط الضوء على التاريخ، التاريخ الذي اختبره هو نفسه أو شاهده بأمّ عينه‪.‬

‫يخرج دوست ضدّ “خطاب الحقيقة،” الذي يخدم أولئك الذين يضعون حدوده ويتحكّمون في عمليّاته النظريّة والعمليّة. مثل هذا الخطاب، كما يجادل فوكو في أعقاب نيتشه (‫Nietzsche‬، 1844–1900)، لا يسعى إلى تعريف موضوعيّ للواقع ويرتكز بشكل أساسيّ على التشديد على السلطة والقوّة، بما في ذلك العقوبات المختلفة ضدّ “الكافرين بالحقيقة،” الآخرين التابعين. عادة ما يُبعَد هؤلاء “الكفّار” عن طريق محوهم بصمت بطرق متنوّعة، مثل إخفاء مشكلة القوّة أو إنشاء أساليب الفرز الداخليّ وأنماط السيطرة على ما يقال داخل مجتمعات الخطاب المختلفة. الهدف هو منع الجماعات والأفراد من المشاركة في إجراءات الخطاب التي تنتج معرفة مشروعة أو “معرفة علميّة.” إنّ المعرفة المنتجة إذن ممارسة مختصّة بالسلطة يُستثنى منها الآخرون ولا يتمتّعون بثمارها.50 هذا بالضبط ما يحاول دوست تفنيده، فهو يجتهد، في الكشف عن ماهيّة الأنقاض، لإنتاج معرفة أخرى عادلة ومنصفة لخطاب شعبه الذي غُيِّب عمدًا من أجل السيطرة عليه‪.‬

الآثار والأنقاض التي يتناولها جان دوست في رواياته لم تحصل نتيجة كوارث طبيعيّة كالزلازل أو الفيضانات أو البراكين، ولم تكن كذلك آثارًا وأنقاضًا خلّفتها العناية الإلهيّة لتعاقب الإنسان على سلوكه المخالف للناموس الإلهيّ، بل هي أنقاض الحرب التي افتعلها الإنسان بنفسه ضمن لعبة القوّة والسيطرة وتحقيق المصالح الفئويّة. إنّها برأي دوست “هندسة الخراب” المقصودة التي افتعلها أصحاب القوّة، من النظام السوريّ الحاكم والأحزاب الكرديّة المتعاونة معه والفصائل المتناحرة على الأراضي السوريّة والقوى الإقليميّة والعالميّة. الأنقاض في هذه الروايات إشارة إلى فعل متعمَّد، مع سبق الإصرار، إذا جاز التعبير، للقتل من أجل السيطرة‪.‬

المصادر والمراجع

أ. بالعربية

  • دوست، جان. دم على المئذنة. القاهرة: مقام للنشر والتوزيع، 2014.

  • دوست، جان. كوباني. تونس: مسكيلياني، 2018.

  • دوست، جان. ممرّ آمن. تونس: ميّارة للنشر والتوزيع، 2019.

  • دوست، جان. باص أخضر يغادر حلب. ميلانو: المتوسّط، 2019.

  • عبد الستّار، نجدي. “الحدث الديستوبي في الرواية العربيّة.” فكر وإبداع 130 (تشرين أوّل 2019313345.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • ناظميان، هومن. “الديستوبيا في الرواية العربيّة المعاصرة: قراءة في رواية يوتوبيا لأحمد خالد توفيق،” في كتاب المؤتمر الدوليّ الثامن للّغة العربيّة. دبي: المؤتمر الدوليّ الثامن للغة العربيّة، 2019. 160164.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation

ب. بالأجنبية

  • Agamben, Georgio. Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life. Trans. D. Heller-Roazen. Stanford: Stanford University Press, 1998.

  • Baker-Smith, D. (ed.). Between Dream and Nature: Essays on Utopia and Dystopia. Amsterdam: Rodopi, 1987.

  • Böll, Heinrich. “Bekenntnis zur Trümmerliteratur,” in Werke. Edited by Árpád Bernáth and Annamária Gyurácz. Köln: Kiepenheur & Witsch, 2007. 5862.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Booker, M. K. The Dystopian Impulse in Modern Literature, Fiction as Social Criticism. Westport, CT: Greenwood Press, 1994.

  • Felman, S. and Laub, Dori. Testimony: Crises of Witnessing in Literature, Psychoanalysis, and History. New York and London: Routledge, 1992.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Foucault, Michel. Language, Counter-memory, Practice. Cornell University Press, 2021.

  • Gadamer, Hans-Georg. Truth and Method. Trans. Joel Weinsheimer and Donald G. Marshall. London: Continuum, 2004.

  • Goswami, Sribas. “Michel Foucault: Structures of Truth and Power.” European Journal of Philosophical Research 1 (2014), 820.

  • Klein, Naomi. The Shock Doctrine. New York: Metropolitan Books, 2007.

  • Klibansky, Raymond, Panofsky, Erwin and Saxl, Fritz. Saturn and Melancholy: Studies in the History of Natural Philosophy Religion and Art. London: Nelson, 1979.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Koselleck, Reinhart. Futures Past: On the Semantics of Historical Time. Trans. Keith Tribe. New York: Columbia University Press, 2004.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Kumar, K. Utopia and Anti-Utopia in Modern Times. Oxford: Basil Blackwell, 1987.

  • Laub, Dori. “Truth and Testimony: The Process and the Struggle.” American Imago 48.1 (1991), 7591.

  • Loftus, E. Eyewitness Testimony. Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1996.

  • Richter, E. P. Utopia/Dystopia?: Threats of Hell or Hopes of Paradise?, Issues in Contemporary Ethics. Cambridge: Schenkman Pub. Co., 1975.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Ruthven, A.The Contemporary Dustfeminist Dystopia: Disruptions and Hopeful Gestures in Suzanne Collins The Hunger Games.” Feminist Review 116. 1 (July 14, 2018), 4762.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Seeger, S.Dystopian literature and the Sociological Imagination.” Thesis Eleven 155. 1 (2019), 4563.

  • Shils, Edward. Center and Periphery: Essays in Macrosociology. Chicago and London: University of Chicago Press, 1975.

  • Turner, Victor. Dramas, Fields and Metaphors: Symbolic Action in Human Society. Ithaca: Cornell University Press, 1974.

  • Turner, Victor. “Liminality and the Performative Genres.” In Rite, Drama, Festival, Spectacle: Rehearsals Toward a Theory of Cultural Performance. Ed. L. MacAloon. Philadelphia: Institute for the Study of Human Issues, 1984. 1941.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Van Dijk, Teun A.A Note on Linguistic Macrostructures.” In Linguistische Perspektiven, eds. A. P. Ten Cate & P. Jordens. Tuebingen: Niemeyer, 1973. 7587.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Van Gennep, Arnold. The Rites of Passage. Trans. M. B. Vizedon and Garrielle L. Caffee. London: Routledge, 1960.

  • Ward, Simon. “Ruins and the Imagination of Cultural Tradition after 1945.” German Literature, History and the Nation: Papers from the Conference ‘The Fragile Tradition’ Cambridge 2002. Eds. Christian Emden and David Midgley. Bern: Peter Lang Publishing, 2004. 329–46.‏

  • Willmetts, S.Digital Dystopia: Surveillance, Autonomy, and Social Justice in Gary Shteyngarts Super Sad True Love Story.” American Quarterly 70. 2 (June 2018), 267289.

    • Search Google Scholar
    • Export Citation
  • Zizek, S. Welcome to the Desert of the Real: Five Essays on September 11 and Related Dates. London-New York: Verso Trade, 2002.

1

لروح مرشدي ومعلّمي البروفيسور جورج قنازع (1941–2021)‫.‬

2

حول سيرته الذاتيّة، راجع‪:‬

https://web.archive.org/web/20191003022507/http://www.kataranovels.com/novelist/%D8%AC%D8%A7%D9%86-%D8%AF%D9%88%D8%B3%D8%AA/.

3

يُعنى الأدب الديستوبيّ أو اللاطوباويّ بتصوير نظام وحشيّ، يثير القلق؛ إنّه بمثابة رأي أو صورة أو نصّ يقوّض مبادئ النظام المتناغم التي طوّرتها اليوتوبيا (الطوباويّة) والتي تناقضها أو تكمّلها. تخرج هذه الكتابة عن الأشكال الرسميّة للواقع المتفائل والمستهلك، إنّها من هذا المنحى لا تصبو إلى عالم طوباويّ حالم بل تعمل على تفتيت العالم الراهن. فاللاطوبايّة نقيض لليوتوبيا، مثل المرآة المشوّهة المرعبة لواقع يدير ظهره للكمال، وعلى هذا النحو فهي نوع من أنواع المرآة السلبيّة الفاضحة لعتمات لا ترغب مراكز القوّة والسلطة تسليط الضوء عليها عمدًا. وإذا كانت اليوتوبيا انتصارَ المجتمع المثاليّ، فإنّ الديستوبيا معاناة الفرد داخل الإطار الكلّيّ، تصوير ساخر للشرّ وعنفه، تسعى عن طريق مرآتها السوداء إلى تصحيح هذا الشرّ. عن الفكر الديستوبيّ، راجع: عبد الستّار، “الحدث الديستوبي فى الرواية العربيّة،” 313–345؛ ناظميان، “الديستوبيا في الرواية العربيّة المعاصرة: قراءة في رواية يوتوبيا لأحمد خالد توفيق،” 160–164؛

Baker-Smith, Between Dream and Nature; Booker, The Dystopian Impulse in Modern Literature; Kumar, Utopia and Anti-Utopia in Modern Times; Richter, Utopia/Dystopia; Ruthven, “The Contemporary Postfeminist Dystopia”; Seeger, “Dystopian Literature,” 45–63; Willmetts, “Digital Dystopia,” 267–89.

4

مصطلحات شائعة في الخطاب السياسيّ والفلسفيّ والأنثروبولوجيّ والمدينيّ والإعلاميّ والنسويّ وغير ذلك. يمثّل المركز نظام القيم والمعتقدات التي تحكم المجتمع. يفرض هذا الإطار سلطته على المجتمع بأسره وهو مصدر للسلطة التي يعتمد عليها الإجماع. يشير النموذج الثنائيّ الهامش/المركز إلى العلاقة الهرميّة في نظام الحكم والقوّة، وترسيم الحدود والتعاريف: الهامش هو الآخر الذي يُنظَر إليه بنظرة فوقيّة ومجحفة. إنّ عملية الترسيم من الأهمّيّة بحيث تحدّد الشرعيّة والسلطة، وهي عمليّة ضدّيّة للشفافيّة التي اتّسم بها الهامش مقابل المركز المنظور بقوّة. يختصّ مصطلح الهامش بتعريف الطبقات الضعيفة والتابعة، التي تشكّل أقلّيّة داخل الجسم العامّ للمجتمع. وتتماثل هذه الهوامش مع الطبقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة المتدنّية ومع الضواحي والأطراف والمناطق الحضريّة الطرفيّة. لكن في الوقت الحاضر، كما أوضح الفيلسوف المثقّف دي سيرتو (De Certeau)، أصبحت الهوامش واسعة: الهوامش هي في الواقع الأغلبيّة، وهي تشمل الآن بشكل عمليّ أيّ شخص لم يتمّ تعريفه على أنّه منتج ثقافيّ مثل الفنّانين والمفكّرين والإعلاميّين وقادة الرأي، والنساء أو المجموعات التي لا تشارك فعليًّا باتّخاذ القرارات في مراكز القوّة. راجع‪:‬

De Certeau, The Practice of Everyday Life; Richard, “Postmodernism and Periphery,” 463–70; Shils, Center and Periphery.

5

دوست، دم على المئذنة، 159‫.‬

6

Agamben, Homo Sacer.

7

Van Dijk, “A Note on Linguistic Macrostructures,” 75–87.

8

Ward, “Ruins and the Imagination of Cultural Tradition after 1945,” 329–46.‏

9

Böll, “Bekenntnis zur Trümmerliteratur,” 58–62.

10

من مخطوط لرواية إنّهم ينتظرون الفجر التي لم تُنشَر بعد والتي خصّني بها المؤلّف جان دوست مشكورًا للمعاينة‫.‬

11

دوست، كوباني، 68‫.‬

12

دوست، إنّهم ينتظرون الفجر‫.‬

13

المصدر نفسه‫.‬

14

المصدر نفسه‫.‬

15

دوست، دم على المئذنة، 144‫.‬

16

Klibansky, Saturn and Melancholy, 328–9.

17

دوست، كوباني، 65‫.‬

18

Klibansky, Saturn and Melancholy, 360.

19

دوست، كوباني، 63‫.‬

20

المصدر نفسه، 64‫.‬

21

Laub, “Truth and Testimony: The Process and The Struggle,” 75–91; Felman and Laub, Testimony: Crises of Witnessing in Literature; Loftus, Eyewitness Testimony.

22

دوست، كوباني، 68‫.‬

23

المصدر نفسه، 70‫.‬

24

المصدر نفسه، 64–65‫.‬

25

المصدر نفسه، 510–518‫.‬

26

المصدر نفسه، 515‫.‬

27

Klein, The Shock Doctrine.

28

دوست، باص أخضر يغادر حلب، 91‫.‬

29

الحدّيّة (Liminality)، عبور الحدود بين المواقف الاجتماعيّة والوجوديّة، مصطلح في الخطاب الأنثروبولوجيّ يحدّد الوضعيّات الحدّيّة التي يمرّ البشر بها في نقاط حاسمة في حياتهم. يشير المصطلح، المرتبط بأرنولد فان جينيب (Arnold Van Gennep، 1873–1957) ،إلى الدور العالميّ للمراسِم التي تؤكّد الطقوسَ الانتقاليّة “Rites de Passage،” حيث يغيّر الناس فيها، طوعًا أو قسرًا، روتين حياتهم ويواجهون مواقف التغيير الجذريّ. راجع‪:‬

Van Gennep, Arnold. The Rites of Passage; Turner, Dramas, Fields and Metaphors; Idim, “Liminality and the Performative Genres.”

30

دوست، باص أخضر يغادر حلب، 38‫.‬

31

المصدر نفسه، 92‫.‬

32

المصدر نفسه، 141‫.‬

33

Foucault, “Nietzsche, Genealogy, History,” 139–64.

34

دوست، ممرّ آمن، 87‫.‬

35

المصدر نفسه، 167–179‫.‬

36

المصدر نفسه، 176–177‫.‬

37

المصدر نفسه، 154‫.‬

38

Agamben, Homo Sacer.

39

Zizek, Welcome to the Desert of the Real, 91–2.

40

دوست، دم على المئذنة، 160. راجع أيضًا ما كتبه الروائيّ في مستهلّ روايته عن تشابه ما كتبه والأحداث الحقيقيّة التي حدثت في مدينة عامودا الكرديّة عام 2013، ما يدلّ على أنّه يروي سيرة شعبه بحذافيرها تقريبًا، انظر: دوست، دم على المئذنة، 6‫.‬

41

المصدر نفسه، 141–149‫.‬

42

المصدر نفسه، 141؛ وانظر أيضًا الفصل الثالث من الرواية نفسها “سيرة حياة طلقة” عن الأسلحة التي صُنعت في روسيا لتسافر إلى سوريا ويتقاتل بها الأكراد المدعومون من النظام السوريّ والأكراد المدعومون من تركيا، 57–61‫.‬

43

Koselleck, Futures Past: On the Semantics of Historical Time, 259–61.

44

Gadamer, Truth and Method, 301–6.

45

المصدر نفسه‫.‬

46

دوست، كوباني، 89‫.‬

47

المصدر نفسه، 127‫.‬

48

دوست، باص أخضر يغادر حلب، 10‫.‬

49

المصدر نفسه، 14‫.‬

50

‏ Goswami, “Michel Foucault: Structures of Truth and Power,” 8–20.‏

Content Metrics

All Time Past 365 days Past 30 Days
Abstract Views 0 0 0
Full Text Views 1800 250 16
PDF Views & Downloads 1740 371 13